الأدب الشعبي عند الأكراد
ينقسم الأدب الكردي، كما كل الآداب تقريباً، إلى أدب شعبي وأدب مدوَّن. ويَعد البعضُ ملا أحمد جزيري (975م − 1055م) واضعَ البداية الأولى لتدوين الثقافة الكردية. أما قبل ذلك فكان الأدب الشعبي الكردي شفهياً، ينتقل من جيل إلى جيل عبر الرواة والمغنين الذين كان لهم الفضل الأكبر في الحفاظ عليه من الضياع وتمريره للأجيال، على رغم معاناة الشعب الكردي من الأمية طويلاً، وعيشه حياةَ البداوة والترحال بين جبال كردستان وسط طبيعة وظروف مناخية صعبة. وبلا شك فإن راوي القصة (الحكواتي أو جيروكبيج) والمغني (دنكبيج) هما الرائدان في الأدب الشفهي؛ لأنهما ينقلان صورة حقيقية ومتنوعة عن بلادٍ عانت من سيطرة الطبقات الحاكمة ومن النزاعات العشائرية. وفي المجمل، كان هذا الأدب مرآة حقيقية عكست روح الشعب الكردي ومزاجه وتاريخه، وكافة المناسبات الاجتماعية كالأفراح والأتراح والحروب والانتصارات وقصص الحُب وملاحم البطولة وفصول السنة ومواسم الاصطياف.
للشعب الكردي تراثٌ فلكلوري هائلٌ لم يدوَّن منه إلا الشيء القليل، حيث ركزت معظم البحوث والدراسات التي اهتمت بالفلكلور الكردي على جانب واحد هو الأدب والشعر، وأهملت دراسة جوانب أخرى مهمة من ذلك التراث. وثمة عدد كبير من المستشرقين والرحالة ورجال الفكر الذين زاروا كردستان وقاموا بجمع تراثها أمثال باسيل نيكيتين وليسكو ومينورسكي ومارغرت رودينكو وهذه الأخيرة الرائدة الحقيقية في مجال إحياء التراث الكردي. أما الباحثون الأكراد فعلى رأسهم عز الدين مصطفى رسول، صاحب دراسة «في آداب الفولكلور الكردي» وعلي الجزيري، صاحب كتاب «الأدب الشفاهي الكردي» وجليلي جليل، وصبحي جعفر، والشاعر الكبير جكرخوين والباحث والشاعر صالح حيدو.
إلا أن هذا التراث الضخم الذي يمتلكه الشعب الكردي لم يُدرس حتى الآن دراسة ميدانية وعلمية؛ لأن الباحثين اعتمدوا على معلوماتهم الشخصية وعلى الاستفسار من بعض كبار السن دون الاضطرار إلى الإقامة في ميدان البحث. يقول الباحث الجزيري : «الفلكلور الكردي رغم ثرائه ورغم وصفه كمعينٍ لا ينضب إلا أنه مهدد بالنسيان، بسبب موت من كان لهم الفضل الكبير في حفظه في صدورهم وصيانته. ومن هنا، تتأتى ضرورة تدوينه ودراسته». وقد بذل الشاعر والباحث صالح حيدو جهوداً جبارة في جمع التراث والأدب الكردي الشفاهي، حيث صدرت له مجموعة من الكتب، منها «مجموعة من الأغاني الكردية في الفلكلور الكردي في سوريا» في خمسة أجزاء، و«شرح الأغاني الكردية مع النصوص الكاملة» و«أغاني الأطفال التراثية» و«مجموعة من القصص الكردية». لقد كتب خمسة وأربعين مجلداً جمع فيها التراث الكردي الأصيل من أغانٍ فلكلورية إلى القصص والحكايات الرمزية والحقيقية التي يشتهر بها الأدب الكردي، وفي الحِكم والأمثال جمع أكثر من أربعة آلاف مَثَلٍ كرديٍ شرحاً، وخمسمئة «حزورة» وخمسمئة قصة كردية تراثية وقصص ذات نكت ومناقب ومثالب تحكي روح الشعب وطريقة عيشه في الحياة الاجتماعية.
الأغنية وخصوصياتها
لا جدال حول غنى الأدب الشعبي الكردي، ويتمثل هذا الغنى في تنوع أشكاله. فالأغاني الكردية، على سبيل المثال، لا حصر لها، لأنها حاضرة في كل تفاصيل الحياة اليومية للشعب الكردي تعبِّر عن أمنياته وآماله. هناك أغاني الحب وأغاني الحرب التي تثبت بطولة الرجل الكردي في معاركه مع أعدائه، وأغاني الأطفال، وأغاني الشباب، وأغاني الحصاد والفلاحة والرعي. وطبيعة الأغنية الفلكلورية الكردية غزلية وفكاهية ودينية، لكنها لا تغفل عن أن تتحدث عن طبيعة كوردستان وجمالها. ولقد كان ازدهار الغناء مرتبطاً بالإمارات الكردية، إذ كلما كثرت الإمارات كثر المغنون، والعكس بالعكس، والسبب هو أن المغنين كانوا يكسبون رزقهم من الغناء أمام الأمراء.
دوّن الباحث صالح حيدو مئة وخمسين أغنية، كتابة ولحناً، لكي تنتشر في كافة أنحاء كردستان ويستفيد منها الشعب الكردي بعد أن يرى شخصيته من خلال موروثه الثقافي. وجلّ ما جمعه حيدو من أغانٍ إيقاعية تدل على أصالة كرديتها لتوثيق الحياة اليومية بتفاصيلها، كالحصاد والجرش والأعياد والأعراس والختان وكل ما يتعلق بمسيرة هذا الشعب عبر التاريخ. وعن الأغنية الفلكلورية الكردية يقول حيدو: «تتكون غالباً من ثلاثة مقاطع وكل مقطع من ثلاثة أسطر أو أربعة تحمل قافية واحدة، وتتغير القافية أثناء المقطع الثاني أو الثالث، وغالباً ما يكون الموضوع أحاديَّ الجانب، وتروي موضوعاً بذاته تستخدم فيه الألوان والأحجام والجمال والكلمة السلسة والمفهومة والجذابة، يفهمها الصغير والكبير وكل أفراد المجتمع وتحمل لحناً شجياً وجذاباً».
وتصنّف الأغاني الكردية وفقاً لمضمونها. فهناك القصة (جيروك) والأقصوصة (جير جيروك) اللتان يرويهما شخصٌ يدعى (جيروكبيج) أو الراوية، وينشدها (دنكبيج) أو المغني. وهناك ما يعرف بـ (ديلوك) الذي يقصد به أغاني الرقص والدبكة. أما (شر) التي هي أغاني الحرب أو الحماسة كما في الملاحم والأساطير فتقابلها (لاوك) التي هي أغاني الحب التي تتحدث عن الفتى الخيّال وتصور شجاعته. وتتميز الأخيرة عن لحن (حيرانوك) الذي هو عبارة عن قصائد حب يعبَّر فيها عن الحُب الناقص غير المكتمل وكآبة الفراق. كما أن هناك فرقاً بين ما يسمى (لاويجوك أو لاجه) أي النشيد والترتيل الديني وبين النشيد الجماعي الكلاسيكي المعروف في الأدب الكردي بـ (بليتيه). وتطول القائمة لتشمل أغاني (بايزوك) الحزينة التي تغنيها القبائل الكوردية في الخريف خاصة، وأغاني (لاوج) التي تعزف في مراسم الحداد والتعزية، وليس أخيراً الأغاني التي تهدهد بها الأمهات صغارهن.
والمغنون يتنوعون أيضاً
ويقابل تنوعَ الأغنية الكردية تنوعُ المغنين، فهم على فئات. على رأس تلك الفئات يأتي (سترانفان أو دنكبيج) ويقصد بها المغني الذي يؤلف الأغنية ويؤديها. يليه (جيروكبيز) وهو راوي الحكايات، الذي يغني حيناً ويروي حيناً آخر، وأكثر ما يكون ذلك في رواية القصص القصيرة. وهناك أيضاً (مرطب أو مطرب) وهو الغجري الذي يغني ويرقص معاً. ويوجد بالإضافة إلى ذلك (سازبند) وهو الموسيقار الذي يسير مع المغني المؤلف، ثم (بلورفان) وهو عازف الناي. ويستطيع كل من المغني والقاص «الحكواتي» أن يسردا ما في جعبتهما من قصص الشعب بكل سهولة وبراعة، ملونين كلامهما بشتى أنواع السجع والطرف والحكايات والدعابات والمواعظ والعبر واللحن والصوت الشجي. كما تختلف الأمكنة التي يغنون فيها، فالديوان هو المكان الذي يُغنَّى فيه عند الأمراء والأغوات وبيوت الأغنياء، والخيمة أو خيام المصائف فعند الأغوات والقرويين، وأخيراً هناك الأعراس أو الاحتفالات التي تُقام في القرى والمدن.
الأحاجي والألغاز والأمثال
وتحتل الأحاجي والألغاز موقعاً مرموقاً بين الأشكال المختلفة للأدب الكردي الشعبي الفلكلوري. وتمثل الأحاجي مختصراً لحادثة أو ظاهرة معينة، على عكس الأمثال والحكم التي تسعى إلى تمرير جزء معرفي. وتستخدم الأحاجي عادة من أجل صقل التفكير أو لقضاء الوقت والتسلية كما هو الحال بالنسبة للطرائف أو الرمز في ميدان الأدب المكتوب. ظلت الأحاجي والألغاز غير مدوَّنة طويلاً مكتفية بالانتقال شفاهياً من جيل إلى آخر، ولم يتطوَّر حالها لتصبح جزءاً من الأدب المدون إلا في عهد قريب. ومن أمثال الأحاجي أحجية تقول: «تمشي وتظل تمشي معه ولا تبلغه، فما هو؟»، وجوابها (الظل). وتلك التي تسأل: «ماءان في كأس واحدة ولكل منهما ظله»، وجوابها (البيضة).
ومن الأدب الشعبي الكردي ما يوجد في الحِكَمْ والأمثال الشعبية، والأكراد مشهورون باستخدام كثير من الحِكَمْ والأمثال في حديثهم اليومي. يطعّمون حديثهم بها من أجل إضفاء القوة والبلاغة على الحديث بحيث يكون مؤثراً. والنتيجة أن هناك عدداً من الحِكَمْ والأمثال والأقوال الشعبية المأثورة التي تأتي في ثنايا الكلام، وتتناول موضوعات ذات صلة بالقيم الكردية، مثل تمجيد البطولة والشهامة والكرم وحَسَن الأخلاق، والانتقاص من بعض الصفات كالأنانية والغيرة والخِسة والأعمال السيئة. كما أن هناك أمثالاً تتناول موضوعات أخرى مثل دور المرأة وفصول السنة والحيوانات والطبيعة. ولعل أشهر الأمثال ذاك القائل: «طاحونة السفيه (أو الجاهل) تدور من تلقاء ذاتها». إنه مثلٌ ساخر يتحدث عن الشخص المحظوظ الذي ينهي عمله بنجاح من دون فهم أو دراية.
الحكايات ورواتها
بالطبع لا يمكن الحديث عن الأدب الشعبي الكردي دون أن تظفر الحكاية بنصيب وافر من العرض. لقد عبَّرت الحكاية الشعبية بألوانها المتعددة عن أفكار المجتمع الكردي منذ عهود سحيقة. وتنقسم إلى أقسام، فمنها الحكاية وتسمى (جيروك) والحكاية القصيرة أو الأقصوصة وتسمى (جيرجيروك)، وهذان القسمان نثريان موزونان، يرويهما شخص يدعى (جيروكبيج) أو الحكواتي، وينشدها (دنكبيج أو استرانفان) أو المغني. وتُعد حكايات الحيوان من أبرز الحكايات الموجودة في الموروث الكردي، حيث تتصرف فيه الحيوانات كبني البشر تماماً، وتقوم بالكلام والتحرك وفقاً لذلك. وهذا الصنف الأدبي من حكاية الحيوان جنس أدبي شفاهي موجود في آداب أغلب الشعوب ومنها الشعب الكردي، وبالطبع فإن استخدام قناع الحيوان للحديث عن الإنسان هو بالتأكيد لتجنب رقابة السلطة الحاكمة والمستبدة. ومن أبرزها في الأدب الكردي حكايات تروى للصغار ومنها غزالوك ودلالوك، وحكايات الديك الأبيض وحبة الرمان وحكاية الحمار والثعلب والذئب. وهناك حكاية شهيرة بعنوان «شنكي بنكي قالوجنكى». ويبدأ الراوي الكردي حكايته بـ (هبو تنبو رحمة ل دي وبافة تا بو) وهي تقابل «كان يا ما كان» في اللغة العربية إضافة إلى الترحم على والد المستمع.
الملحمة، من جهة أخرى، تشكِّل جزءاً من الأدب الشعبي عند الأكراد. والملحمة هي الحادثة أو الواقعة العظيمة التي قلما تتكرر وتخلد لأهميتها وقيمتها في أغانٍ وأناشيد تصور حجم الواقعة. وتتميز الملحمة بوجود الحوار والوصف فيها بحيث يعطيان للملحمة مظهر القصة التي يكون الإنسان المحور الرئيس فيها. وتنقسم الملاحم الكردية تقريباً إلى ملاحم البطولة وملاحم الحب. في ملاحم العشق تظهر الفوارق الاجتماعية والدينية وعدم رضا الأهل كعوائق تحول دون اكتمال قصص الحُب، بل وتظهر أحياناً الدسائس والحيل التي تضمن الانفصال الأبدي بين المتحابين. ومن ملاحم العشق الكردية ملحمة «شيرين وفرهاد»، و«خجي وسيامند» و«زمبيل فروش». إلا أن أعظم وأشهر ملحمة في الموروث الكردي هي ملحمة (مم وزين) التي صاغها الشاعر أحمد خاني شعراً، وهي مبنية على أصول وقواعد «ممي آلان» وهي الشاهد الوحيد على وقائع وأفعال المجتمع القديم، وتحمل أيضاً إلى يومنا هذا وشخصية المجتمع الكردي آنذاك. ويمكن اعتبار ملحمة (مم وزين) آنفة الذكر مثالاً على تعدد الرموز والموضوعات التي يتناولها الأدب الكردي الشعبي. فهناك الحلم والجن والعفاريت، والحوريات وخوجة، الذين يمثلون قوى الخير. وأيضاً هناك العقبات التي تعترض المحبين مثل بكو عوان الذي فرّق بين مم وزين، وهناك الحيلة والخداع والامتحان والجزاء. ويحضر الموت أيضاً باعتباره النهاية، حيث يموت كلا العاشقين في الملحمة. كما أن رمز الخاتم الذي يظهر جلياً في الملحمة نفسها، إذ تقوم الأختان زين وستي بتبديل خاتميهما بخاتمي مم وتاج الدين. وهناك أيضاً ماء الحياة أو المياه المقدسة والرسول أو القاصد والمرأة العجوز الحكيمة التي تُصلح بين المتحابين وتصل بينهم، ومثاله العجوز هيلانة.
أما ملاحم البطولة فأشهرها ملحمة «قلعة دمدم» التي تصور بطولة خان صاحب الكف الذهبية واستماتته في الدفاع عن قلعة دمدم ومقاومته لجيش الشاه عباس الصفوي في أعوام 1608-1610م. وتقترب ملاحم البطولة كثيراً في شكلها من الأسطورة التي يدور الصراع فيها بين الإنسان من جهة والعفاريت والجن من جهة أخرى، يمثل الأول قوى الخير، بينما يمثل الثاني قوى الشر على الأغلب. وتمثل الأفعى صورة لقوى الشر في الميثولوجيا الكردية كما في أسطورة عيد نوروز حيث نمت اثنتان من الأفاعي على كتفي أزدهاك الحاكم الظالم لشعبه. وفي المقابل تظهر شخصية خوجة خضر، باعتباره الملهم والمنقذ للآخرين، جلية واضحة في ملحمة «ممى آلان» الفلكلورية، حيث ظهر للأخوة الثلاثة في الملحمة وأشار عليهم بتزويج أكبرهم ليساعدهم في محنتهم. مثل ذلك نجد الجنّ الخيّر، الذي يساعد الإنسان ولا يؤذيه، حيث تقوم الجنيات الثلاث، بنات ملك الجن، بحمل زيني ووضعها إلى جوار «ممى آلان» النائم.
يخدم الأدب الشعبي عند الأكراد أهدافاً شتى، لكن أبرزها على الإطلاق أنه يحمل القيم الكردية ويصور الممارسات الاجتماعية اليومية حتى غدا مخزوناً هائلاً ثرياً لكل ما يتعلق بحياة الإنسان الكردي. وقد تكون إحدى الأساطير المتداولة في الأدب الشعبي خير معبِّر عن أهمية الموروث الكردي، حيث تتقصَّى الأسطورة أصل الأكراد وتحاول تقديم تصور عن نشأتهم، ومما خلصت إليه أن الأكراد أبناء الجن. بمقدار الطرفة التي تحملها هذه الأسطورة، تكون أهمية الأدب الشعبي الكردي وهو ينتقل من طور شفاهي إلى طور كتابي، مستمراً في نقل التجربة الإنسانية بشتى وجوهها وبعمق ثرائها.
المصدر: http://qafilah.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B4%...