في بيت ابن خلدون

منطقة استقرار الجالية الأندلسية

 

 

في تونس العاصمة، وتحديداً في المنطقة المعروفة باسم «نهج تربة الباي» لا يزال البيت الذي ولد ونشأ فيه ابن خلدون، قائماً، وكذلك الكُتَّاب القريب منه، حيث كانت بداية عهده بالعلم.
على الطريق من ضاحية «باردو» إلى ساحة القصبة بالمدينة العتيقة لاكتشاف البيت الذي وُلد فيه ابن خلدون يتذكر المرء «طريق الحريم»، ذلك الطريق الذي بناه السلطان أبو زكريا الحفصي أشهر ملوك الحفصيين في القرن السادس عشر الميلادي ما بين قصر حكمه في القصبة وقصر حريمه في باردو، وقيل إنه جعل الطريق كله مغطى لكيلا يرى أحد حريمه يمرون بها… ترى، أسيصدق ذلك صاحب كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، أم أنه سيرده إلى المخيّلة الشعبية ككثير من الأخبار التي لم نجد لها أثراً مادياً.

عندما تصل إلى ساحة القصبة التي تسمَّى ساحة الحكومة الآن، والحقيقة أنها كانت دائماً ساحة حكومية منذ أن اتخذها السلطان أبو زكريا الحفصي مقراً لحكمه وبنى بها قصره الشهير الذي أصبح قصر الحكومة الحالية، أي مقر الوزارة الأولى ومقر رئيس الوزراء، توقف سيارتك أمام مستشفى «عزيزة عثمانة» الأميرة العثمانية التي أوقفته على معالجة الفقراء والمحتاجين، لأنك ستدخل أزقة ومنعطفات لا تدخلها السيارة.

 

15-Divers 099
الفناء الداخلي في البيت

تعرّج على «شارع باب منارة» تريد ساحة «تربة الباي» عبر قوس «باب الجديد» أحد أبواب تونس العتيقة، عندما كانت المدينة تُغلق في الليل عبر بوّاباتها، لتأمين سكانها ضد الغرباء وقطاع الطريق.

 

إلى هذه المدينة الآمنة في عهد الدولة الحفصية لجأت عائلة ابن خلدون من الأندلس منتصف القرن السابع الهجري مع عديد العائلات الأندلسية بعد «حروب الاسترداد» من طليطلَة وبلنسية وقرطبة وإشبيلية التي نزحت منها عائلة ابن خلدون.

وقبل أن تصل إلى الدار، وفي النهج الموازي لنهج تربة الباي، تلمح لوحة معلَّقة عند أول الشارع كُتب عليها «نهج الأندلسيين» كدليل على أن الحي كله كان منطقة استقرار الجالية الأندلسية التي التجأت إلى تونس في العهد الحفصي من سنة 1248 إلى 1574م عند مجيء العثمانيين كما يذكر المؤرخون وكما أسلفنا.

من العائلات التي استقرت في هذه المنطقة عائلة ابن الأبّار صاحب كتاب «الحلّة السيراء» وابن عصفور النحوي المعروف وعائلة ابن خلدون، وهي عائلات تمثل أرستقراطية الأندلس علمياً ومعرفياً ومادياً. صاروا يسمَّون بالموريسكيين، وهم آخر الأندلسيين الذين طردهم فيليب الثالث، الملك القوطي.

في وصف الدار

13-Divers 083
ولوحة تذكارية عند مدخله

تصل «نهج تربة الباي»، تبحث عن الرقم 33 الذي به الدار، وتربة الباي هي مدفن كل ملوك الدولة الحسينية وأمرائها وأميراتها وعدد من الوزراء في العهد العثماني من سنة 1705 حتى 1956م تاريخ إعلان الاستقلال، بشهادة المؤرخ عثمان الكعاك.

 

«نهج تربة الباي»! هذا الاسم ذو وقع خاص على الذهن، لما يحمله من رموز تاريخية تبتدئ بمقبرة، وتنتهي بدار خلَّدها التاريخ إكراماً لصاحبها العلامة ابن خلدون الذي أعطاها مجدها وسموّها وعلو شأنها بين الديار. وتزداد اقتناعاً أنه وحده الفكر والحرف والأدب والفن هو الذي يعطينا سموّنا ويرفعنا درجات فوق باقي البشر.

تقف أمام الرقم 33 الذي سبق أن صادفناه في الكتب والمراجع التاريخية.

2ما زال البيت الذي شُيّد في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي) قائماً، متماسكاً: دار عتيقة تتكون من طابقين. تمتاز بطابعها العربي الإسلامي والأندلسي كبقية الديار العتيقة المجاورة لها من ناحية البناء والزخرفة. تفتح وجهتها على الشرق، بابها الخارجي مستطيل عالٍ ذو دفتين بحلقتين كبيرتين. مجدّد على الطراز الأندلسي، خلافاً للباب الأصلي الذي كان يتكون من ضلفة واحدة. يحيط به إطار رخامي منقوش يحُول بينه وبين الجدران الحجرية الخارجية السميكة لحجب الدار عن الفضاء الخارجي ككل الدور العربية.

دخلنا السقيفة الأولى عبر عتبة رخامية. وجدنا على يسارنا باباً فتحناه، فإذا خلفه دَرج طويل مزخرف الجدران يؤدي إلى الطابق العلوي والباب الثاني يحيل إلى سقيفة ثانية ثمّ ثالثة. قطعنا ثلاث سقائف مربعة الشكل رخامية الأرضية متعرجات متداخلات لنصل إلى وسط الدار. والسقائف في البيوت التقليدية يمكن أن تصل إلى سبع سقائف وذلك لعزل الفناء عن النظرات الفضولية والضوضاء وكل أنواع الإزعاج القادمة من الشارع… وللمباعدة والفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص، خاصة بالنسبة للنساء، على الطريقة العربية الإسلامية.

وككل البيوت العربية التقليدية نكتشف بعد عبور هذا الممر فناءً كبيراً يسمى صحن الدار، وهو فضاء مربع مكشوف، حيطانه مكسوة بالخزف المزخرف على شكل لوحات حائطية تفصل بين أبواب الغرف الثماني الخشبية الخضراء وشبابيكها الستّة التي تفتح كلها على الداخل أي على الصحن وذلك للتهوية والإضاءة.

 

u062Cu0627u0646u0628 u0645u0647u0645u0644 u0645u0646 u0627u0644u0635u062Du0646
جانب آخر من الفناء الداخلي

وفي الصحن أروقة تزيّنها أقواس ترفعها أعمدة رخامية تصل الطابق الأول بالثاني. وقد كان الرخام الأبيض المستورد من إيطاليا مهيمناً على مستوى أرضية الفناء والأعمدة والتيجان وأطر الأبواب والنوافذ. وفي الصحن أيضاً «ماجل» لتجميع مياه المطر مزخرف بالرخام الأبيض الناصع مغطى بشجرة مورقة.

 

وفي الصحن تقام الاحتفالات والأعراس أيضاً وهو مجال المرأة المفضل ولا مجال لها سواه. ترى جيرانها من السطوح فقط.

تقف بالصحن تتأمل الغرف الأربع (التي تحوّلت إلى مكاتب للموظفين) تُرى في أيّ غرفة صرخ الرضيع عبدالرحمن بن خلدون صرخته الأولى؟ من كان يعلم أنها ستدوي في الأفق كل هذا الدويّ العلمي المعرفي وأنه سيصبح المؤسس الأول لعلم العمران البشري؟

تتكون دار ابن خلدون من طابقين سفلي وعلوي، مع غرفة في السطح تسمى كشكاً، وتلك لسهرات الصيف حيث الهواء والنسمة حفاظاً على حميمية العائلة.

ما يحزن في هذه الزيارة أن البيت لم يكن مفتوحاً للزوار على الرغم من أنه يُصنَّف معلماً تاريخياً لدى منظمة اليونسكو والمعهد الوطني للتراث. ذلك أن المعهد يتخذه مقراً لحفظ أرشيفه ومقراً للخريطة الوطنية للمعالم والمواقع.

الكُتّاب الذي درس فيه ابن خلدون

u0645u0633u062Cu062F u0627u0644u0642u0628u0629
المسجد الذي قصده ابن خلدون للعلم..

على بعد نحو 50 متراً من دار ابن خلدون وفي «نهج تربة الباي» نفسه يوجد الكتّاب الذي تعلّم فيه ابن خلدون القرآن الكريم، وهو مسجد يوحي شكل بنائه أنه يرجع إلى القرن الخامس الهجري بمقارنته مع عديد المباني هناك: الطراز العربي الإسلامي نفسه الذي يستعمل الحجارة المنحوتة، المصقولة خاصة في القباب والحيطان والواجهات، والقباب التي تعتمد على«رقبة» والرقبة هي الواسطة بين القبة والمربع الذي ترتكز عليه ويمثل قاعدتها، وقبة هذا الكتَّاب نصف كروية تعتمد على رقبة مثمنة الشكل حسب البناء العربي الإسلامي.

 

ويحتوي هذا الكتَّاب / المسجد على مدخل هو بيت الصلاة ويسمى الآن «مسيجد القبة» تصغيراً لكلمة مسجد، ومدخله قوس يرتكز على عمودين من الرخام مزخرفين بتاجين. والواجهة كلها مصنوعة من الحجارة المصقولة. محرابه يُعدّ من أقدم المحاريب الموجودة بالبلاد التونسية مصنوع من الجصّ المزخرف ما زالت بعض آثاره باقية. وتحيط بهذا الكتَّاب جوامع صغيرة وكتاتيب عديدة والحي كله يحتوي على العديد من الزوايا، وبه دور ممتازة وحمامات عربية وكان يُعد من أرقى الأحياء في المدينة.

 

u0645u062Fu062Eu0644 u0627u0644u0637u0627u0628u0642 u0627u0644u0639u0644u0648u064A
الدرج المؤدي إلى الدور العلوي

إلى هذا الكُتَّاب كان يأتي عبدالرحمن بن خلدون في طفولته ليدرس في هذا المسجد . وكان أبوه قبل ذلك هو معلمه الأول. والأكيد أن أسرة ابن خلدون أسرة علم وأدب، شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته. ثمّ تعلم ودرس في جامع الزيتونة المعمور، منارة العلوم بالعالم الإسلامي آنذاك، القريب من منزله أيضاً بتربة الباي بالعاصمة، حيث نشأ وترعرع. ودرس اللغة العربية والنحو والصرف والتلاوة والفقه، ومن أساتذته الفقيه الزيتوني الإمام الشهير ابن عرفة.

 

ولما احتل السلطان أبو الحسن المريني أواسط القرن الثالث عشر تونس قادماً من مدينة فاس بالمغرب، جلب معه نخبة من العلماء، الذين انبهر بهم ابن خلدون وأتم معهم علومه العقلية في المنطق والفلسفة وغير ذلك.

في هذه البيئة العتيقة من مدينة تونس العاصمة شبَّ ابن خلدون وعاش حتى بلغ سن العشرين من عمره، حينئذ شدّ رحاله إلى مدينة فاس المغربية طلباً للعلم والدراسة.

16267قضى أغلب مراحل حياته في تونس والمغرب الأقصى، وكتب الجزء الأول من المقدمة بقلعة أولاد سلامة بالجزائر، وعمل بالتدريس في جامع الزيتونة بتونس وفي المغرب بجامعة القرويين في فاس الذي أسسته الأختان الفهري القيروانيتان، وبعدها في الجامع الأزهر بالقاهرة، مصر والمدرسة الظاهرية وغيرها.

وفي آخر حياته تولى القضاء المالكي بمصر بوصفه فقيهاً متميزاً خاصة أنه سليل المدرسة الزيتونية العريقة. ورغم أن بيته هذا معروف وموجود إلى الآن في تونس إلا أن موقع قبره في مصر غير معروف.

المصدر: http://qafilah.com/ar/%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D8%A8%D9%86...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك