الازدواجية اللغوية بين فصحى وعاميات منطوقة

الازدواجية اللغوية بين فصحى وعاميات منطوقة
رحلة بحث وحوار علمي بين أبناء العربية والفرنسية

بيروت: «الشرق الأوسط»

«حوار اللغات» هو الكتاب الرابع لنادر سراج الذي يبحث في شؤون اللغة الانسانية. والعنوان ينبئ القارئ عن توجهات المؤلف في اعتماد اسلوب الحوار مدخلا الى تبسيط المفاهيم اللسانية التي شقت طريقها اليوم لتمسي في صلب الدراسات الانسانية، وتعتمد مناهجها في اغلب جامعاتنا العربية.

عرض سراج في كتابه الصادر عن "دار الكتاب الجديد المتحدة" في بيروت، بلغة عربية علمية ومبسطة، في آن معا، مبادئ مدرسة لغوية حديثة هي "المدرسة اللسانية الوظيفية" عبر محاورة اثنين من ابرز اعلامها الفرنسيين: اندريه مارتينه وهنرييت فالتير، وهما علمان مبرزان تتلمذ على ايديهما العديد من طلابهما العرب من مصريين ومغاربة وسوريين ولبنانيين، بمن فيهم المؤلف نفسه.

ويذكر سراج انه تعرف على هذه المبادئ، هو وزملاؤه لدى حضورهم محاضرات هنرييت فالتير في جامعة السوربون. ولاحقا تسنى لهم التعرف على "المعلم" اندريه مارتينه وعلى الجمعية الدولية للسانيات الوظيفية SILF التي انضم اليها سراج لدى تخرجه في عام 1981 كما يذكر في ثنايا الكتاب. ويعيد الفضل في تعرفهم على فالتير لصديقة مغربية جاورتهم في حرم السوربون هي السيدة نزهة الشقروني التي زاملتهم لفترة في حقول اللسانيات، لتنتقل بعدها الى عالم السياسة والشأن العام حيث تشغل اليوم منصب الوزيرة المنتدبة المكلفة بشؤون الجالية المغربية المقيمة في الخارج.

فصول ثلاثة تختصر رحلة البحث عن علم وحوار علمي مشوق انعقد بين ابناء ثقافتين وعبر لغتين: العربية، اللغة الام للكاتب، التي اثارت اهتمام هذين العالمين الفرنسيين، والفرنسية، اللغة الحية التي شكلت الاداة الثقافية لسراج وساعدته على ولوج عالم معرفي حديث، مطلع ثمانينات القرن المنصرم، على مقاعد السوربون.

الحوار بمفهومه التفاعلي الواسع لم يتحدد بمكان ولا بزمان. فقد امتد على مديات مختلفة من باريس(1980) الى فريبورغ (1982)، فالقاهرة (1985)، فبراغ (1991)، فبيروت (2000). المواضيع التي تطرق اليها الكاتب هي في يقين الناس شائعة وتدخل في باب تحصيل الحاصل. لكنه قدمها لجمهور القراء باعتبارها مسائل تعكس تنوع الاستخدامات اللغوية.

فمسألة الازدواجية اللغوية بين فصحى وعاميات منطوقة، صارت اليوم شبه مكتوبة في الاعلانات وفي عناوين برامج تلفزيونية، تعتبر من البديهيات. ولكن النظرة العلمية الوظيفية اليها تضعها في باب المستويات اللغوية المتعددة التي تتداخل وتتبادل الادوار والاهمية وفق تبدل احوال المستخدمين. وقد درسها الكاتب لدى عرضه الواقع اللغوي للعاصمة بيروت، التي تتقارب في الحقيقة مع عواصمنا العربية الكبرى. والامر ينسحب على لغة الشباب وهم جزء اساسي من المجتمع، ولغة الاعلام، واللغة المصاحبة او لغة الاشارات، والتلوينات الدينية في الخطاب العربي اليومي، وسواها من المواضيع التي تعبر عن مجتمعاتنا العربية، والتي تدرسها اللسانيات ضمن توجهها العام القاضي بربط اللغة بأهلها وبمجتمعها.

الفصول الثلاثة تضمنت تعاليم ومبادىء لسانية نظرية وتطبيقية. ولكنها اشتملت ايضاً على معالم تجربة اكاديمية لطالب عربي رغب في استدراك ثقافة لسانية حديثة في معارج جامعات الغرب. وقد رفد حواراته، الشفهية منطلقاً والمدونة لاحقاً، بأبحاث ثلاثة شارك فيها مع مارتينه وفالتير، وتناولت مسائل لغوية معاصرة مثل "الجيم العربية" و"اللثويات العربية"، اي الثاء والذال والضاء التي يضعف وجودها شيئاً فشيئاً في كلامنا اليومي، وحتى الاعلامي منه. البحث الاخير هو قراءة للمشهد اللغوي في بيروت، وحمل عنواناً "تفاعل مستويات العربية في بيروت".

الكتاب ذو المائتي صفحة من القطع الوسط ليس مرجعاً اكاديمياً ولا كتاباً تعليمياً فحسب، بقدر ما هو منبر حواري ذو طابع لساني مبسّط ودعوة مفتوحة لقراءة مشتركة لبعض القضايا اللغوية المعاصرة في ضوء المناهج الحديثة.

آليات الحوار تعدت الطرق الكلاسيكية المحضة، والصيغ العمومية في السؤال والجواب، وسعت لابراز قضايا لغوية معاشة لا نلتفت اليها عادة لاننا نظن ان المعارف والعلوم لا تستقي مادتها من لغة الحياة وتداعيات المواطنين العاديين، بل من اللغة المنمذجة.

النكهة المميزة للكتاب هي في حواراته ومباحثه، فالمحاورون تفاعلوا وتشاركوا معاً في قراءة واقعهم الثقافي (الفرنسي والعربي) وصياغة افكارهم. فخرجوا من نطاق الحوار التقليدي المطول، والممل بتفاصيله، الى عالم الثقافة الرحبة. فكان "حوار اللغات" مجدياً وغنياً لابراز عراقة لساننا العربي وتلاؤمه مع النظريات الحديثة وقدرته على الاطلالة على العوالم المنفتحة للغات الحية. وبكلمة فقد نجح الباحث في معالجة وجه من وجوه الاسئلة الحيوية التي تدور حالياً في افق الهوية اللغوية والانتماء الثقافي العربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرابط :
http://www.asharqalawsat.com/details.asp?s...;article=428562
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=7692

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك