النمل يتغلب على التصحر

العُرس الطائر للنمل ليس استعراضاً للبهرجة وتباهياً بالبذخ، كما هي الأعراس في مجتمعاتنا المعاصرة. فأعراس النمل تتصل بتحسين البيئة الطبيعية للأرض, وتمكين النوع من البقاء والاستمرار.
وتترك إناث النمل وذكوره المجنحة المستعمرةَ مودعةً، بعد أن تتأكد أن الأعداد باتت تشكِّل خطراً مميتاً على بقائها. إذ إن المنتوج الزراعي لم يعد يكفي أعداداً متزايدة. فتحلق في السماء لتتزاوج في عُرس طائر يسمى «ريفوادا». حيث تتزاوج الملكة الواحدة مع كثرة من الذكور لتجمع ما يقارب 300 مليون نطفة تحتاجها لبناء مستعمرة جديدة. وللتحليق غاية مهمة تتعلق بالانتقاء الطبيعي: لا يصمد في النهاية سوى الأفضل.
أمين نجيب، يتتبع مسيرة النمل في تأسيس مستعمراته، والدقة المتناهية في العمل الجماعي المنظَّم، والدور المهم الذي تلعبه الملكة. فلتأسيس المستعمرة، تكون الملكة قد أمنت زادها من الفطر من الحدائق الزراعية للمستعمرة الأم قبل رحيلها، حيث تحتفظ بها في بعض جيوبها خصوصاً في تجويف فمها. وعندما تطأ أقدامها الأرض، للحال تخسر أجنحتها. فتضطر إلى التفتيش عن موئل مناسب لتأسيس مستعمرة جديدة تحت الأرض.

لـ«الريفوادا» حكمة خاصة. فليس كل ملكة تنجح في إقامة مستعمرة على المدى الطويل. فحظّ الواحدة منها لا يتعدى الثلاثة في المائة. مع العمل الجماعي، يضمن مجتمع النمل الاستمرار والبقاء.

النوع الأكبر
النمل هو النوع الأكبر بين الكائنات الحية. يقول عالم البيولوجيا «أي أو ويلسون» من جامعة هارفرد: إن هناك كوادريليون نملة «عدد يساوي مليون مليار.. أو خمسة عشر صفراً على يمين العدد واحد».

تعيش على أوراق شجر ونباتات أقل من عددها بكثير؛ إذ إن هناك ورقة واحدة لكل 340 نملة. ويضيف «جيرو بانكستر» من قسم المايكروبيولوجيا في جامعة «جيسين» الألمانية: ان أعداد النمل تشكل نصف أعداد الكائنات الحية على الكرة الأرضية.

فالنمل يسيطر ومنذ عشرات ملايين السنين على المناطق المدارية وجوارها بواسطة تطوره المذهل في أعمال زراعية لا تقل، إن لم تفق، ذكاء الإنسان. هذا على الرغم من أن أعداد النمل تفوق أربع مرات باقي الكتلة الحيوية في هذه البقعة الجغرافية المدارية.

فكيف لهذه المخلوقات الرائعة أن تزدهر وتنعم وتتكاثر غير عابئة بتدهور أحوال البيئة للكرة الأرضية؟ والتي يجمع العلماء أنها تمّرُ بمرحلة تصّحر وانقراض هي الأخطر منذ انقراض الديناصور قبل 65 مليون سنة؟

وقبل التوسع بدراسة ممارسة النمل للزراعة الصديقة للبيئة والأرض، لا بد من الإشارة إلى أن كثيراً من العلماء يعزون ظاهرة التصحر الجارية حالياً، إلى كيفية ممارسة الإنسان للزراعة. فكيف هي حال الأرض الآن؟.

التصحر
هو، حسب ميثاق الأمم المتحدة لمحاربة التصحر: تدهور الأراضي في المناطق الجافة وشبه الجافة وشبه الرطبة، الناتجة عن عوامل مختلفة، منها التغيرات المناخية والنشاطات البشرية.

والصحراء، كما يجمع العلماء، هي المناطق الجغرافية التي يقل تساقط الأمطار فيها عن 250 ملم في السنة. وهي إجمالاً تقع جوار مدار السرطان شمالاً وجوار مدار الجدي جنوباً.

وهذا التعريف بدأ يتعرض للتغير بالمدة الأخيرة نتيجة تدخل العامل الإنساني بقوة في عملية التصحر. يبدو ذلك جلياً في شبه الجزيرة الإيبيرية التي تضم إسبانيا والبرتغال وبعض المناطق المجاورة. ويمتد التصحر كذلك إلى آيسلندا في أقصى الشمال. وهذه المناطق الأوروبية تقع خارج تصنيف الصحارى القديم.

ومع ازدهار السياحة في إسبانيا حديثاً بشكل لم يسبق له مثيل، تم تحويل كافة الموارد المائية من المناطق الزراعية إلى المشاريع السياحية ذات المردود العالي جداً، وغير المقارن بالمردود الزراعي الشحيح. مما أدى إلى تآكل التربة وانجرافها إلى البحر والمحيطات. وزاد الطين بلة، بيع الأراضي الزراعية لبناء شاليهات وقصور سياحية. وفي إحصاء حديث أظهر أن عدد الأبنية الجديدة في المناطق السياحية من إسبانيا وحدها فاقت كل الأبنية الجديدة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مجتمعة في الفترة نفسها. أما في آيسلندا فتُعزى ظاهرة التصحر المخيفة إلى الرعي الجائر. وهذه الظواهر بدأت ترعب أوروبا بأسرها.

والتصحر هو من أخطر المشكلات التي تواجه العالم قاطبة. لذلك خصصت الأمم المتحدة يوماً عالمياً ضد التصحر والجفاف هو السابع عشر من يونيو حزيران من كل عام. ذلك لأن التصحر لا يشكل خطراً على المناطق الواقع فيها فقط، بل تمتد آثاره إلى كافة أنحاء الكرة الأرضية بأشكال مختلفة. منها على سبيل المثال العواصف الرملية التي تتشكل في هذه المناطق وتنتشر إلى مسافات بعيدة جداً. فالعواصف الرملية المنبعثة من الصين تصل إلى الأمريكتين. والأخرى الآتية من إفريقيا تمتد إلى آلاف الكيلومترات بعيداً. هذا عدا عن الأمراض المتولدة من هذه الأراضي المنكوبة والقابلة للانتشار إلى كافة البلدان.

ويفقد العالم كل سنة عشرة ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة بسبب التصحر «الهكتار يساوي 10000 متر مربع»، مؤثراً على حياة مليار شخص خصوصاً في إفريقيا وآسيا وبعض مناطق القارة الأمريكية، وحديثاً في أوروبا كما أشرنا سابقاً. وفي سنة 1988م وحدها سجل عشرة ملايين لاجئ بيئي.

النمل يمارس الزراعة
يجمع علماء الأنثروبولوجيا على أن الإنسان بدأ الزراعة منذ حوالي عشرة آلاف سنة. لكنه تبين حديثاً، وبكثير من الأبحاث العلمية، أن بعض أنواع النمل قد مارس الزراعة منذ خمسين مليون سنة مضت، عندما كانت الكرة الأرضية تمر بفترة دافئة، وكان النمل كله نوعاً واحداً.

وفي واحدة من هذه الدراسات، قام عالما الحشرات «تيد شولتز» و«سين برادي» من متحف «سميثونيان» الوطني في واشنطن، بأبحاث طويلة على مستعمرات النمل قاطع الأوراق ونشرت في دورية «وقائع أكاديمية العلوم الوطنية الأمريكية» (عدد 24 أذار 2008م). ويقول العالمان: إننا نعرف منذ مدة أن هناك أربعة أنواع من الحيوانات تقوم بأعمال زراعية: النمل، النمل الأبيض، الخنافس النابحة، والإنسان. لكن بعد 15 سنة من البحث على النمل قاطع الأوراق، أن هذا النوع لا يقطع الأوراق لأكلها فقط، بل يضع معظمها فيما يشبه الحديقة تحت الأرض لتنمو الفطريات عليها، ثم يأكل هو الفطريات.

النموذج
وقد وجد حديثاً، كثير من العلماء أن مستعمرات النمل هي النموذج الذي يجب أن يحتذى. وذلك لخبرتها الطويلة جدا في هذا المجال وقدرتها على تقسيم العمل، والتي تمتد لعشرات ملايين السنين.

ويقول «جيرو بانكيزر» في مجلة «أغرونومي» 2010م، إن النمل قاطع الأوراق يجمع النباتات التي تتكون عصارتها من نسبة الكربون إلى الأكسيجين %40 كغذائهم الخاص. ونسبة %100 للزراعة في حديقة الطفيليات ولتغذية الفقسة. كما يقوم النمل في مستعمراته بتأمين الحرارة أيام البرد من خلال ما يعرف بالتطاعم. والحفر في الأرض، وهو يحسن عملية تسرب المياه والصرف والتهوية. كما تحتفظ بالفطريات كغذاء للفقسة. وطورت عملية حفظ الغذاء لمدة طويلة من الزمن، وعملية السيطرة على الأمراض المعدية ومعالجة النفايات.

وبينما تخترق جذور الأشجار أعشاش النمل، تحصل عملية بيوكيميائية تكافلية، تغذي بموجبها جذور النباتات الفطريات التي رعاها النمل بالمواد الضرورية لنموها من الكاربوهايدرات مثل الغلوكوز والساكروز. والجذور بدورها تستفيد من هذه العملية من جراء المساحة الواسعة التي تؤمنها التشعبات المعقدة للفطريات مما يزيد من قدرة جذور النبات على امتصاص المياه والمعادن الضرورية لنموها. وهكذا، يضيف «جيرو بانكيزر»: يقدِّم النمل لنا نموذجاً حاذقاً جداً لزراعة عالية المنتوج دون الإخلال بالنظام الإيكولوجي للأرض، بل على العكس من ذلك، تقوم بإغناء التربة بالمواد الضرورية.

وكان هذا الفريق المذكور أعلاه، قد شارك فريقاً آخر من عدة جامعات ومؤسسات علمية حول نفس الموضوع ونشر نتائجه في مجلة «ساينس» عدد 17 يناير 2003م. وتبين من دراسة متواليات الـ«د.أن.أي» لمجموعة النمل وفطريات الحديقة والأعشاب الطفيلية أن هناك تطوراً تشاركياً وتكافلياً بينها جميعاً لمدة تزيد على 50 مليون سنة.

فالدرس الثمين الذي تعطينا إياه مستعمرات النمل هو كيفية المحافظة على الرطوبة حتى في الأراضي القاحلة، وتأمين الغذاء الأساسي للنبات، وطرق مكافحة الآفات. هذه هي العناصر الأساسية للزراعة المستدامة. والتي تحوِّل الصحراء إلى مروج خضراء بطرق صديقة للبيئة والأرض ومستقبل الحياة.

النمل ينتج النيتروجين
النيتروجين هو العنصر الأساسي في تكوين حياة الحيوان والنبات. وبدون النيتروجين ليس هناك من حياة. وهو عنصر نادر في الطبيعة.

ويُكوِّن النمل النيتروجين بواسطة عملية كيميائية معقدة، تقوم على علاقة تكافلية أقامها مع بعض البكتيريات داخل جحوره. حيث تقوم البكتيريا بجمعه من الهواء لينتهي عند مستعمرات النمل، حيث يتم تحويله إلى شكل يستطيع عندها النبات والحيوان استعماله. وبدون النيتروجين المعالج لا تستطيع الأعضاء من تكوين البنى الأساسية للحياة مثل النيوكليوتيدات والحوامض الأمينية. وفي اختبارات عدة قام بها فريق من العلماء بقيادة «بينتو- توماس» ونشر في مجلة «ساينس» 2009م، وجد أن مستعمرات النمل مزدهرة بالنيتروجين المعالج بشكل لم يتوقعوه أبداً. «وهذا يفيد النظام الإيكولوجي الفقير لهذه المادة الحيوية ويغني التربة ويجعلها صالحة للزراعة».

ولتبيان ذلك، قام فريق من جامعة ويسكونسن – ماديسون بقيادة «كاميرون كوري» بأبحاث واسعة على حدائق الفطريات وأعشاش وجحور النمل ونشرت في مجلة «ساينس» المعروفة. ويقول «غاريت سيون» من هذا الفريق: «إن هذه الشراكة التي أقامها النمل مع البكتيريا لإنتاج النيتروجين كانت ناجحة بشكل عجيب».

ويكافح الآفات الزراعية
أكثر من ذلك، لقد طور هذا النمل آلية لمكافحة الأمراض لم يكتشفها الإنسان إلى هذا اليوم، على الرغم من تطوره العلمي الكبير. فبينما يواصل النمل مدّ حديقته بأوراق طازجة يتخلص من القديمة بوضعها في مكب بعيد عن المستعمرة. وعندما يتم الكشف عن مرض معين، تحدث فوراً حركة اضطراب ويبدأ النمل بعملية تمشيط للحديقة كلها. وإذا عثرت على أوراق مريضة تلتقطها وتأخذها بعيداً إلى المكب.

ولوحظ أن بعض النمل العامل يحمل على ظهره مادة تشبه الشمع الأبيض. بعد فحصها تبين أنها نوع من البكتيريا تفرز مضاداً حيوياً يحتوي على %80 من المضادات التي يستعملها الإنسان حالياً في صيدلياته تحارب بها الطفيليات التي تهاجمها.

وفي وداع القرن العشرين أعلنت مجلة «تايم» سنة 1999م أن «أليكساندر فليمنغ» عالم البيولوجيا الأسكتلندي، هو واحدٌ من أهم الأشخاص في هذا القرن لاكتشافه البنيسيلين سنة 1923م والذي دخل العلاج في أواخر الحرب العالمية الثانية، والتي تقول المجلة إنه الإكتشاف الذي غيَّر مجرى التاريخ.

لكن، ألم يغيِّر النمل مجرى التاريخ هذا منذ خمسين مليون سنة؟

سلبيات طرق الزراعة الإنسانية
يقول «براندون كيم» بمقالة في مجلة «ويارد ساينس» تحت عنوان: «هل يحتفظ النمل بمفتاح الزراعة المستدامة؟»: «في الوقت الحاضر، لا تزال الأرض تمدنا بالغذاء الكافي، لكن ذلك ربما لن يدوم. إن كثيراً من علماء الاقتصاد الزراعي يقولون إن العد العكسي لانتهاء خيرات الثورة الخضراء المعتمدة على الوقود الأحفوري للأسمدة والمبيدات كما على تقنيات مهلكة للتربة، قد بدأت».

فالزراعة الحديثة متهمة بالإخلال بالتنوع البيولوجي، وتردي كمية الكاربون في التربة، وعزل الموائل بعضها عن البعض الآخر، وتغير المناخ، وعرقلة حركة أنواع كثيرة من الحيوانات وأشياء أخرى تؤدي جميعها إلى تهديد النظام الإيكولوجي للكرة الأرضية. لذلك توجب البحث عن حلول بديلة للأنماط الزراعية السائدة الوقوف والتأمل بإعجاب كبير كيف أوجد النمل حلولاً ناجعة إلى أبعد الحدود لهذه المشكلة الحيوية المتعلقة ببقاء الجنس البشري نفسه.. التصحُّر!

سوادوكو: قاهر الصحراء
«ياكوبا سوادوكو»، هو فلاح إفريقي أمي وبسيط، رفض ترك موطنه في منطقة شمالية من بوركينا فاسو، حيث ضرب الجفاف وترك المنطقة صحراء قاحلة، فمات نتيجة ذلك أعداد كبيرة من البشر في الربع الأخير من القرن العشرين. وقد استعان «سوادوكو» بالنمل الأبيض وحوّل الصحراء إلى حدائق غنَّاء فأذهل علماء العالم.

حصل ذلك قبل الاكتشافات العلمية السابق ذكرها حول النمل. والتي لم تكن لتصل إليه على أية حال.

وبالإضافة إلى الطريقة التقليدية المتبعة في منطقته والمعتمدة على حفر ثقوب صغيرة منفصلة بدل حرث الأرض بالطرق المعروفة في غير مكان، وذلك لاستقبال الأمطار القليلة المتساقطة في هذه المنطقة، ابتكر «سوادوكو» فكرة عبقرية. فقد ملأ الحفر بروث الحيوانات والناس والأوراق والأعشاب والرماد وذلك في فصل الجفاف، مخالفاً العرف المتبع. والقصد من ذلك هو جذب النمل الأبيض إلى هذه الحفر وتوطينها هناك. فلكي يبني مستعمراته تحت الأرض يفكك النمل تصلب التربة من خلال انتشاره في ثقوب متعددة تخفف من تكلس التربة وتجعلها أكثر احتفاظاً بالرطوبة.

نجاح «سوادوكو» في التغلب على التصحر، جعل منه شخصية عالمية لا ينعقد مؤتمر دولي حول التصحر إلا ويكون «سوادوكو» نجمه. وقد أطلق عليه لقب قاهر الصحراء.

المصدر:http://qafilah.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%BA%...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك