لودفيغ دويتش والقاهرة
من بين كل المستشرقين الأوروبيين، يشكِّل الفنان النمساوي لودفيغ دويتش حالة فريدة من نوعها، تتمثل خصوصيتها في الارتباط بمكان واحد من هذا الشرق: مدينة القاهرة، وتكريس سيرته المهنية كاملة لهذا المكان بعد اكتشافه. كاد لودفيغ دويتش أن يدخل طي النسيان والإهمال التام في أواسط القرن العشرين. شأنه في ذلك شأن كثير من المستشرقين، الذين انتقلوا إلى مرتبة متدنية في اهتمامات الوجدان الأوروبي بفعل الحربين العالميتين. ولكن مع عودة الاهتمام بهؤلاء ودراسة أعمالهم بتأنٍ خلال العقود القليلة الماضية، عاد اللمعان إلى اسم دويتش كواحد من كبار الأساتذة، وأكثرهم تميّزاً على أكثر من صعيد.
كان دويتش في العشرين من عمره عندما تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا عام 1875م. وبعدما أمضى نحو سنوات ثلاث في النمسا حيث كان يرسم صوراً شخصية، انتقل إلى باريس حيث اكتشف الاهتمام بالاستشراق، وصادق مستشرقاً نمساوياً آخر هو رودولف إرنست.
لم نعثر على تاريخ أول زيارة قام بها الفنان إلى القاهرة. ولكن من المؤكد أنها كانت في مطلع الثمانينيات من ذلك القرن عندما ظهرت أولى لوحاته الاستشراقية، والمؤكد أيضاً أنه ظلّ يتردد على القاهرة التي بقيت مصدر مواضيع كل لوحاته تقريباً حتى وفاته عام 1935م.
أسير القاهرة
استوقفه في هذه المدينة بشكل خاص العسكريون النوبيون الذين كانوا يحرسون القصور والمباني العامة. فرسمهم في لوحات عديدة، بتركيز شديد وواضح على كبريائهم وقوة بنياتهم وأبهة مظاهرهم وملابسهم.. ورسم مشاهد من حياة العامة، مثل «بائع السحلب» و«لاعبا الشطرنج». كما رسم مناسبات مميزة مثل «المحمل»، التي تمثل انطلاق موكب نقل كسوة الكعبة المشرفة من القاهرة إلى مكة المكرمة.
رائد الواقعية الدقيقة
كان هذا الإتقان التقني أول ما لفت أنظار الهواة إلى أعمال دويتش عند بداية العودة إلى الاهتمام بالمستشرقين في سبعينيات القرن الميلادي الماضي. الأمر الذي حفّز النقاد، وبشكل خاص الخبراء في دُور المزادات العلنية الكبرى، على دراسة هذه الأعمال بعمق، وبكل ما فيها من تفاصيل. وبات الجميع يسلّمون اليوم أن اعتماد الرسام على الصور الفوتوغرافية كان محدوداً جداً ولم يتجاوز حدود الجوانب التي تتضمن مشاهد المباني والأطلال.
كما أن دراسة العناصر المختلفة التي تظهر في اللوحة الواحدة مثل الملابس والحلي والأسلحة أظهرت أنها تنتمي إلى أزمنة متباعدة ومصادر مختلفة من أرجاء العالم الإسلامي، ومن شبه المستحيل أن تجتمع فعلاً في مظهر شخص واحد في نهاية القرن التاسع عشر. فالفنان الذي كان شغوفاً بالقاهرة، كان أيضاً شغوفاً بجمع التحف الفنية الإسلامية، وبشكل خاص تلك التي تعود إلى عصر المماليك. ولذا كان يحرص على تزيين هندام الشخص الذي يرسمه بأشياء يمتلكها في محترفه في باريس، كان قد استحوذ عليها في أسواق القاهرة. |
|
المصدر: http://qafilah.com/ar/%D9%84%D9%88%D8%AF%D9%81%D9%8A%D8%BA-%D8%AF%D9%88%...