طاعون بغداد سببه فتوى
شافي الوسعان
في منتصف القرن التاسع عشر -تقريبا- تفشى مرض الطاعون في بغداد فحصد كثيرا من أرواح البشر، وكان من أسباب انتشاره رفض الوالي اتخاذ التدابير الوقائية لمنع انتقاله، فلم يوافق على إعلان الحجر الصحي، مع علمه بتفشي هذا الوباء في أماكن قريبة من بغداد قبل ذلك بفترة طويلة، وعلى الرغم من أن القنصل البريطاني بذل جهودا كبيرة لإقناع الوالي بأهمية هذا الإجراء، إلا أن جهوده باءت بالفشل مع الأسف الشديد، لأن بعض رجال الدين منعوه اعتقادا منهم أن ذلك يتناقض مع الإيمان بالقضاء والقدر، ومما يذكره المؤرخون أن النزعة القدرية المسيطرة على أكثر سكان العراق -آنذاك- كانت من العوامل الفعالة في نشر الأوبئة بينهم، إذ كانوا ينظرون إلى الوباء على أنه نوع من القضاء والقدر الذي لا مفر منه، مع أن الوالي لو قرأ في سيرة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فلربما أمر بسجن أولئك الجهلة، أو الحجر عليهم حتى لا يستمرؤوا تضليل الناس وخداعهم، ولكان بذلك قد حفظ كثيرا من أرواح البشر التي حصدها المرض، فمما يذكر عن الفاروق أنه خرج ذاهبا إلى بلاد الشام، وكان معه بعض الصحابة، فعلم وهو في الطريق أن مرض الطاعون قد انتشر في الشام، وقتل كثيرا من الناس، فقرر الرجوع، ومنع من معه من دخول الشام، فقال له الصحابي الجليل أبوعبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فرد عليه أمير المؤمنين: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! ثم أضاف قائلا: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.
التاريخ مليء بالأدلة والشواهد، وحين يكون مصير الناس متروكا لأهواء الجهلة والمتطرفين، فيمكنهم أن يبسطوا التاريخ أمامهم ليختاروا منه ما يناسب أذواقهم ويلبي نزعة الإجرام في نفوسهم، إما عن جهل، وإما عن هوى، لتكون النتيجة مجتمعات متخلفة متقاتلة تكفر بعضها، وتفتك بها الأمراض والأوبئة، وينهشها الجوع والخوف والمرض، بينما هم منشغلون بأن فلانا في الجنة، وفلانا في النار!
قد يسخر البعض الآن من قرار الوالي أعلاه، ولربما لاموه على إذعانه لأولئك الجهلة المعارضين لإعلان الحجر الصحي، بل سيحملونه مسؤولية هلاك تلك الأعداد الكبيرة من البشر، مع أن بعضهم لو وُجِد في ذلك العصر فالمظنون أنه سينضم إلى جوقة المعارضين، وسيدعو الله أن يكثر من أمثال ذلك الوالي الغيور على دين الله! متهما أولئك الذين أمروه بالحجر الصحي بقلة الإيمان وعدم الإيمان بالقضاء والقدر، مثلما أن كثيرا من الذين يمانعون بعض الأحكام حاليا سيكونون مثار سخرية وتندر للأجيال القادمة، وسيهاجَمون بضراوة على ما تسببوا به من نكبات ومصائب للناس، لكن الجهلة دوما لا يفطنون إلى الكوارث التي يتسببون بها لمجتمعاتهم إلا بعد أن يكون التاريخ قد قال كلمته..
إننا نواجه في هذا العصر طاعونا من نوع آخر، ووباء هو أمضى من (طاعون بغداد)، فما سيحصده (الإرهاب) مرشح لأن يتجاوز أضعاف أضعاف ما حصده ذلك المرض، خصوصا أن بعض الجهلة ما زالوا يتصدرون المشهد ويعارضون كل محاولات الوقاية منه، فإنه وعلى الرغم من الدعوات المطالبة بردم مستنقعات الفكر المتطرف، واتخاذ التدابير اللازمة للحد من تفشي هذا الوباء، وكذلك مراجعة أنظمتنا ومنابرنا وخطابنا وتعليمنا، بل ومراجعة التراث وإخضاعه للفحص والتدقيق من أجل تنقيته من الشوائب، إلا أنهم يقابلون هذه الدعوات بالمعارضة التامة والتشكيك في النوايا، مدعين أن أصحابها جزء من الحرب الدائرة على الإسلام، هذا إن لم يلفقوا الأكاذيب حولهم، ويحيكون المؤامرات ضدهم، فإذا لم يجدوا إلى ذلك سبيلا؛ ارتدوا مشالحهم ثم ذهبوا إلى المسؤولين ذارفين دموع التماسيح على الدين المحارَب والعقيدة المضيَّعة!
حين يتحول المرض إلى وباء، فلن تجدي معه كل محاولات الاستشفاء الفردية، وتكون حاجتنا إلى الوقاية أكبر من حاجتنا إلى العلاج، كما أن الاستماع إلى الجهلة أو مجاملتهم على حساب المجتمع في هذا المنعطف التاريخي الخطير أشبه ما تكون بالانتحار، ولذلك فإننا أحوج ما نكون إلى ردم مستنقعات الفكر المتطرف وتجفيف منابعه، ولا بد من توفير البيئة المناسبة للاعتدال والتعايش، بيئة يُتعامَل فيها مع الإنسان على أنه من طراز آخر مختلف عن الملائكة، يصيب ويخطئ، ويسمو ثم يدنو، وأن الإيمان لديه يزيد وينقص، فلا حاجة لأن تسن له السكاكين عند أول هفوة، خصوصا في قضايا الإيمان والكفر، وما ليس له علاقة بحقوق الناس، إذا لم يدع إلى آراء شاذة وأفكار منحرفة، لينشأ الأفراد بصورة طبيعية، خالية من أدران التكفير والحزبية والطائفية، فإن من شروط تعديل الأفكار أن تتم المعالجة في بيئة طبيعية، وأنه بدلا من مكافحة التطرف بالمواعظ والبيانات والخطب ولعن التشدد، فمن الأولى أن تستحدث قوانين صارمة في مجال التحريض والطائفية، ليكون الخطاب المعتدل هو السائد، ويصير جزءا من ثقافة المجتمع، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.