ملامح غير علميَّة في بعض الأوساط العلميَّة

بقلم: علي الشدوي

 

يوجد نوع من الأوهام تحول دون المعرفة العلمية، يسمي فرانسيس بيكون هذا الوهم بأوهام الكهف. ويقصد بها ما يصدر عن الطبيعة الخاصة لعقل الفرد وثقافته وعاداته وظروفه. ويوضح أن هذا النوع من الوهم يكون حين يقع الناس “في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار” (الأورجانون الجديد، إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ترجمة: عادل مصطفى، رؤية، 2013، ص 38-39). 



يشرح المفكر فؤاد زكريا هذا النوع من الوهم قائلا: “ومن طبيعة هذه الفئة من الأوهام أنها شديدة التنوع؛ لأنها تختلف في كل فرد عن الآخر(...) بعض الناس ميالون إلى القديم، وبعضهم الآخر ميال إلى التجديد، مع أن الحقيقة لا زمان لها، ولا يلزم بالضرورة أن تكون في القديم وحده أو الجديد وحده. وهكذا الحال في سائر أنواع التحزب والتعصب الفردي، التي ينبغي التخلص منها لضمان نزاهة البحث والتفكير ( آفاق الفلسفة، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، 1988، ص 105). 



من جهته يوضح حبيب الشاروني أن هذا النوع من الوهم تعود إلى الطبيعة الفردية لكل إنسان من حيث أن له مزاجه الخاص بمكوناته الفطرية والمكتسبة. هذه الفردية بمثابة كهف أفلاطون يُسجن فيه العقل حتى أنه لا ينظر للعالم إلى من خلاله، ويبين أن هذا النوع من الوهم يتمظهر في مظاهر كثيرة ؛ فهناك من يسلم بالجديد ويقبله من دون فحص، وآخرون يسامون بالقديم ويكفيهم القدم على أنه علامة الصدق ( فلسفة فرانسيس بيكون، دار الثقافة، ص 57 ).



ولكي يتضح هذا الوهم سألخص فيما يلي دراسة للدكتور محمد ربيع الغامدي عنوانها” ملامح غير علمية في الأوساط العلمية “ يتخذ فيها مدخلا إلى فكرته عن وجود ملامح غير علمية في الأوساط العلمية في بعض المعالجات الشائعة لكثير من القضايا النحوية واللغوية المختلفة مظاهر من الافتقار إلى العلمية. وأهم ما يمكن الحديث عنه من هذه المظاهر فيما يرى مظهران:



-المظهر الأول: يتمثل في الركون إلى المرويات التراثية وما إليها والتسليم بمضمونها، ومن ثم بناء الرأي عليها فيما يبدو ظاهريًّا على أنه رأي علمي يستند إلى أساس في حين أنه في حقيقة الأمر لم يبن إلا على بعض الخرافات والأساطير والأوهام. 



-المظهر الآخر هو: التكرار لآراء وأطروحات في اللغة شاعت لا سند لها ولا مبرر للتسليم بها، وكأنها قد اكتسبت بمجرد بشيوعها ما يجعلها أمورًا يقينية وثوابت. وبطبيعة الحال فإن الركون إلى الآراء والأطروحات والمقولات الشائعة وتبنيها بسبب كونها شائعة لا غير لا يقل ضررًا على المعرفة عن الركون إلى الأخبار والمرويات التراثية وتبنيها” ( محمد ربيع الغامدي، ملامح غير علمية في الأوساط العلمية) مخطوط ) ، أُلقيت في ورشة جدة النقدية 2015 ). 



من حيث المبدأ، وكإطار نظري لمداخلتي سآخذ في الاعتبار نقد كارل منهايم لنظرية المعرفة الفردية التي تتعامل مع الفرد المكتفي بذاته؛ كأنه “يمتلك في جوهره ومنذ البداية كل القدرات التي تتميز بها الكائنات الإنسانية، بما في ذلك المعرفة المحضة، وكأنه ينتج معرفته عن العالم من داخل ذاته فقط، ومن مجرد تجاوره مع العالم الخارجي (...) إن المعرفة هي منذ البداية عملية تعاونية في حياة الجماعة ( كارل منهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة: محمد رجا الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الطبعة الأولى، أكتوبر1980، ص 105-106 ). 



من جهة أخرى؛ لا يكون الفكر الإنساني بتأثير دافع تأملي؛ أي أن المعرفة لم ينشأ من فعل تأملي نظري بحت كما تذهب إلى هذا نظرية المعرفة الكلاسيكية؛ ذلك أن عملية”التعرف هي بالضبط وفي الأساس عملية تعرف جماعي (...) تفترض سلفا وجود معرفة مشتركة ناجمة عن خبرة قائمة في اللاشعور، وعلى أي حال، حالما يتم إدراك أن أكبر قسم من الفكر مبني على قاعدة من الأعمال الجماعية، يضطر المرء إلى الاعتراف بقوة اللاشعور الجماعي (نفسه، ص 107) .



لذلك إذا أردنا أن نعمّق فهم فكرة وجود ملامح غير علمية في وسط علمي فلا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الفكرة المهمة؛ أعني وجود أنماط فكرية لا يمكن أن تُفهم فهما كافيا طالما ظلت أصولها ومنابعها الاجتماعية مجهولة. صحيح أن “الفرد هو القادر على التفكير (...) ومع ذلك فإننا نخطئ إذا استنتجنا من هذا أن أصل الأفكار والمشاعر التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، أو أنه يمكن أن يشرح الأفكار على أساس خبرته الخاصة بالحياة ( نفسه، ص 84). 



ماذا يعني هذا؟ تحاشِي أن يُبدأ بالفرد الواحد وفكره؛ أي بدلا من البدء بفكر الفرد يُبْدأ بفهم الفكر في بيئته المادية الملموسة في الوضع الاجتماعي التاريخي الذي يبرز منه بتدرج بطيء الفكر الفردي. ذلك أن مَن يفكر ليس الناس جميعا، ولا الأفراد المنعزلين، إنما يفكر الناس في جماعات معينة،” وإذا كنا نريد الدقة المطلقة فإنه من الخطأ أن نقول: إن الفرد الواحد يفكر، بل الأصح أن نؤكد أن الفرد يساهم في جعل الفكر يتقدم على ما أوصله إليه الآخرون ( المصدر نفسه، 85 ). 



إننا يجب ألا نحجب حقيقة معرفية أثبتها كارل ماركس في أطروحاته حول فيورباخ، وسلط عليها الضوء عالم النفس جان بياجيه وهي “إن الفكر الإنساني بصفه عامة، وضمني، المعرفة العلمية التي تعتبر مظهره الخاص -يرتبطان بشكل وثيق بالسلوكات الإنسانية، وبتأثيرات الناس في العالم المحيط. فالفكر العلمي بوصفه الهدف النهائي لكل باحث ليس إلا وسيلة للمجموعة الاجتماعية والإنسانية عامة ( لويس غولدمان، العلوم الإنسانية والفلسفة، ترجمة: يوسف الأنطكي، مراجعة: محمد برادة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 1696، ص 51). 



من وجهة النظر هذه؛ أعني تجاوز فكر الفرد إلى أصول فكره ومنابعه الاجتماعية يمكن أن أتفهّم الفكرة التي عُرضت عن الملامح غير العلمية في الأوساط العلمية، وهي فكرة تبين صياغتُها المفارقةَ؛ فحيث يجب أن يكون هناك أفكار علمية يوجد أفكار غير علمية، وهي مفارقة ملفتة للنظر ليس بسبب تناقضها فحسب؛ إنما أيضا لأن السيرة الطويلة للتكوين العلمي لم تجد نفعا في الأوساط العلمية، وهو ما يذكرني بفكرة العقل غير المدرسي؛ حين لا يستطيع التعليم أن يزيل ما حمله العقل معه إلى المدرسة من مفاهيم غير علمية للكتلة والحجم إلخ..



على أن الدراسة حين تحدثت عن الأوساط العلمية تحدثت بألـ العهدية ( الأوساط ) وإذا صح فهمي فإن (ألـ)ـ هنا ليست للعهد الذّكْري ولا للعهد الحضوري؛ إنما للعهد الذهني؛ فالمعهود بيننا نحن القراء وبين الورقة هو ما ينصرف إليه فكرنا ؛ أعني الأوساط العلمية العربية والإسلامية. 



من هذه الزاوية من الفهم يمكنني أن أتحدث عن أصول هذه الأوساط العلمية ومنابعها الإسلامية، وإذا كانت الورقة قد حددت غياب مبدأين عن هذه الأوساط هي” القطيعة “و” والشك “فإنني سأقتصر على التوقف عند سبب غيابهما آخذا في اعتباري الأصول والمنابع الاجتماعية. 



على أنني يجب أن آخذ في اعتباري أن الشك الذي سأتحدث عنه هو” الشك المنهجي “وليس الشك بمعناه العام كما نعبر عنه في حياتنا اليومية، وأن القطيعة التي سأتحدث عنها تأخذ في اعتبارها نقد الفيلسوف المصري فؤاد زكريا لمفهوم القطيعة المعرفية عند باشلار فليس من الممكن من وجهة نظره أن يحكم باشلار على الموقف الطبيعي من منظور الموقف العلمي ( انظر فؤاد زكريا، نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، القاهرة، مكتبة مصر، ودار مصر للطباعة ص 26-29 ).



إذا اقتصرت النقاش على أوساطنا العلمية السعودية نموذجا للأوساط العلمية العربية فليس من قبيل الصدفة أن تظهر المشكلة التي وصفتها وشخصتها الورقة بما لا يحتاج إلى مزيد. ومهمتي في هذا التعليق هي أن أعرض الأسئلة التالية: من العمليات الثقافية التي تشكلت منها هذه الأوساط؟ ما الآفاق الثقافية التي جاءت منها؟ كيف كانت الأوساط العلمية تنظر إلى نفسها في اللحظة التي بدأت فيها جماعة في التغلغل لكي تفقد الأوساط العلمية طابعها المألوف؟. 



لن أجادل في صحة ما سأقوله تاريخيا؛ لكن لا يعني هذا نقصا في المعرفة التاريخية؛ إنما لأنني معني بالتحليل وليس بالتاريخ. بعد أن توفى الملك عبدالعزيز ( 1953 ) الذي رعى وأشرف على مشروع الحجاز التحديثي وأراده نموذجا للمجتمع السعودي العام. بعد أن مات مطمئنا أن المجتمع السعودي سيبدـأ حياة جديدة –كما قال-بعد القضاء على حركة الإخوان المتطرفة. أقول بدلا من ذلك ما الذي حدث؟ لكي أتفهم ما حدث لا بد من القول إن السلطة والدولة كانتا جسدا واحدا في عهد الملك عبدالعزيز ؛ ذلك أن وظيفة الدولة كانت احتكار ممارسة العنف المشروع في المجتمع، وقد أدى هذا إلى أن تؤدي الدولة دورها، فتتعامل مع الاجتماع البشري تعاملا منظما ومعقلنا. ثم حدث بعد موته ما دمّر هذا الجسد بسبب” عدوان السلطة على الدولة “ فقد كسرت السلطة احتكار العنف المشروع للدولة، وأذنت لنفسها أن تمارسه ليس ضد المجتمع فحسب؛ إنما ضد الدولة، والصورة الرمزية لهذه الازدواجية تتمثل في الشرطي الذي يرافق رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ممثل الدولة لا يفعل أي شيء سوى تنفيذ أوامر السلطة، لكن في الحالتين فالفرد هو ضحية الدولة ويمثلها الجندي، وضحية السلطة ويمثلها رجل الهيئة. 



يأتي السياسي في مقدمة الأسباب التي دمرت الجسد الواحد للسلطة والدولة. كيف حدث هذا؟ نحن نعرف أن ثورة 1952 قامت قبل سنة تقريبا من موت الملك عبدالعزيز، وأن العسكر تحالفوا في بداية الأمر مع جماعة الإخوان المسلمين. ولا يخلو هذا التحالف من معنى -ولو عند مستوى غير واضح -وهو أن تلك الثورة في أحد مستوياتها لم تقم من أجل التغيير إنما من أجل إعادة السلطة كما تدل عليه كلمة ثورة في أصلها اليوناني؛ لذلك فما بدا للشعب العربي على أنه روح ثورية جديدة لم يكن سوى محاولة لاستعادة سلطة الماضي وقد فُهم كذلك على الأقل من جهة الإخوان المسلمين . لكن تبين فيما بعد أن الثورة لم تكن مشروعا سلفيا ولا مشروعا علميا إنما مشروع أيديولوجي استخدمت فيه المعرفة استخداما اجتماعيا للحشد للثورة وتصوراتها. إن المظهر الذي أعنيه هو روح تلك المرحلة التاريخية التي عانت منها المجتمعات العربية. 



حدث بعد ذلك ما نعرفه من العداء والقطيعة بين ثورة يوليو وبين الإخوان المسلمين وسجن وإعدام وهجرة أهم كوادرها والإقامة في المجتمع السعودي. أدت هجرة كوادر الإخوان المهمة إلى المجتمع السعودي إلى أن تتواطأ مع الكوادر السلفية لإخفاق البرامج العلمي والدعاوى التحديثية، والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي ترتب عليه؛ لذلك لم تتح الفرصة الكافية لكي يستوعب المجتمع السعودي أطروحات رواد الإصلاح والتحديث . يكفي أن أذكّر هنا بأسئلة محمد حسن عواد في كتابه” خواطر مصرحة “لماذا لا نتعلم كيف نعيش ؟ لماذا لا نتعلم كيف نتعلم ؟ لماذا لا نتعلم كيف نتفاهم ؟ لماذا لا نتعلم العيش في وسط جماعة ؟ لماذا لا نتخذ أدوارا فعالة في شؤوننا المدنية والمجتمعية ؟ لماذا لا ننفتح على التجارب الجديدة ؟ لماذا نهضم حقوق الغير في بلادنا ؟ لماذا لا نفهم أن مرارة النقد أجمل من حلاوة العيش؟ تلك هي أسئلة العواد عام ( 1925 ) التي تعني لي أسئلة تكوين الإنسان الحديث وملامحه .



غير أنني لا يمكن أن أغفل دور العامل الخارجي كالقومية العربية التي مثلت أيديولوجيا المرحلة واستمر زخمها عدة عقود على المجتمع السعودي في أفول النزعة العلمية التي نشأت في إقليم الحجاز تأثرا بالنزعة العلمية التي نشأت في مصر . من يقرأ الآن كتاب” نقد فكرة القومية العربية “يعرف إلى أي حد اُستخدمت فيه الأفكار الدينية ضد الفكرة القومية . طبقات من التأويلات القديمة والجديدة . وإن كانت التأويلات الجديدة لا تغير شيئا ولا توصل إلى شيء ؛ كونها ما زالت أسيرة التأويلات الموروثة؛ أي أنها تستحضر الماضي لحل مشاكل الحاضر.



كان هناك صراع على النطاق العربي قابله استقطاب داخل المجتمع السعودي : ناصريون ، وبعثيون ، وشيوعيون لذلك لم يعد مجالا أمام السياسي والديني إلا أن يتفقا ، فالوحدة على أساس اللغة والعرق تنسف الوحدة على أساس الدين التي قام عليها الداخل، والخلط الذي حدث بين الاشتراكية والماركسية تنسف فكرة الإيمان ، والتقدمية مقابل الرجعية تنسف الملكية .



لا مناص إذن من التواطؤ . لجأ السياسي إلى الديني لكي يبحث عن مخرج تأويلي لدعاوى العدل والمساواة والمواطنة التي يصدرها الخارج العربي إلى داخل المجتمع السعودي . ولم يكن الديني يملك إلا المنهج السلفي لحل مشكلة كهذه : أي أن يضمن الماضي لإنجاز إصلاحات داخلية تحت ضغط الخارج . لا دعاوى جديدة ؛ أي لا أهداف سياسية واجتماعية وأخلاقية يجيب رجل الدين.



تكفل القرآن والحديث بذلك ، حررا المرأة ، وشرعا المساواة ، ولم يدعوا إلى مواطنة تقتصر على قطر واحد ؛ إنما إلى إنسان صالح قادر على أن يعيش بصلاح في أي مكان . لا جديد فيما يطرح حتى على مستوى مفاهيم كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان فكل ذلك موجود في نصوص المجتمع المؤسسة . لتكن ممارسة المجتمع السعودي معزولة عن ثقافته ، ولتعش الأجسام في قرن ولتعش الأفكار في قرن آخر . هذه رؤية السياسي . لتذهب البعثات، ولْتُبن المؤسسات، ولْتُستورد التقنيات ، ولتُرفع مفاهيم التنمية في خطط خمسية ، لكن بشرط أن تبقى الثقافة سلفية.



لم يكن السياسي ليفكر في أي تناقض حين تكون حياة المجتمع السعودي عصرية بينما فكره سلفي. سيرفع السياسي شعار التنمية وإلى جانبه الديني يضمن له أن الماضي يبرر أي إنجاز خارجي . كل ما في الأمر أن على السياسي أن يفعل ، وأن على الديني أن يؤول من غير أن يكون الفعل والتأويل معبرين عن واقع اجتماعي ، فلا إشكالات ، ولا حساسيات جديدة تعبر عن حالات اجتماعية واقعية . وهكذا فيما كان الديني بجوار السياسي شرعت السلطة الدينية تزاحم سلطة الدولة عبر آليات التأويل والتفسير والفتوى ، لتحل سلطة الدولة في مرتبة ثانوية .



ما الذي حدث بعد ذلك؟ نشأ الفرد في المجتمع السعودي في حضن مجموعة من الخطابات الحية، وأهم هذه الخطابات وأخطرها هو الخطاب الديني. وقد رصد المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أليات الخطاب الديني، يهم موضوعي منها”الاعتماد على سلطة التراث والسلف“” فأقوال السلف واجتهاداتهم نصوص لا تقبل النقاش وإعادة النظر والاجتهاد (نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، طبعة جديدة مع تعليق موثق على ما حدث، القاهرة، دار سينا للنشر، ط2، 1994ص84). تتجلى هذه السلطة في لغة الجزم، ولقد شاهدت برنامج “على خطى العرب” الذي تحدثت عنه الورقة ولاحظت مثلما لاحظ الدكتور لغة الجزم في أن الشنفرى “قُتل في هذا المكان” وأنه “عُلّق في هذه الشجرة”. كل هذا الجزم استنادا إلى حكايات ومرويات تاريخية. 



لا تكمن المشكلة في هذه الحكايات والمرويات التاريخية ؛ إنما في العقل الذي يأخذها من دون أن يشك. لا يعني الشك في هذا المقام أن الحقيقة غير موجودة إنما يعني التحرّي بأن أحدا ما لم يزوّر معلومة، أو يختلق حكاية. الشك هنا شك منهجي إرادي ومتعمد لهدف محدد. إنه وضع العالم بين قوسين إن صح هذا التعبير. كل أسباب الشك في هذا المقام ذات قيمة كبرى؛ فالطبيعة البشرية معرضة للخطأ؛ لذا يجب أن نعيد النظر في طرقنا ونحن نبحث عن الحقيقة. فما يدرينا أن بعض الأحداث تعرضت لعبث مقصود، وافتراء متعمّد كما يقول نيتشة. 



تذكرنا هذه اللغة الجازمة بآلية أخرى من آليات الخطاب الديني وهي “اليقين الذهني والحسم الفكري” التي تجعل من الخطاب الديني “لا يتحمل أي خلاف جذري (...) يزعم امتلاكه وحده الحقيقة (...) وإذا ما تجاوز الخلاف السطح إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم والقين والجزم ( نفسه، ص 87-90 ). 



ما الذي يمكن أن أختم به؟ أن هذه الورقة نبهتنا إلى الأثر اللاشعوري للعوامل الاجتماعية المؤثرة في التفكير. كتب كارل مانهايم” إن أكثر الأشخاص حديثا عن الحرية هم في الواقع أكثرهم خضوعا للتحديد الاجتماعي؛ بحيث أنهم في معظم الحالات لا يدركون مقدار تأثير اهتماماتهم في سلوكهم وتحديدها له. وعلى النقيض من هذا فإن الذين يدركون التأثير اللاشعوري للعوامل الاجتماعية المؤثرة في السلوك هم بالذات الذين يجاهدون للتغلب على هذه العوامل الاجتماعية بقدر الإمكان. إنهم يكشفون عن الدوافع اللاشعورية لكي يحولوا أكبر قدر منها إلى أشياء خاضعة للقرار العقلاني الواعي (الأيديولوجيا واليوتوبيا، مصدر سابق، ص 120-121) .

المصدر: http://www.alawan.org/article14865.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك