التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في الإسلام

بقلم: محفوظ أبي يعلا

 

إنَّ فلسفة الدّين مبحث فلسفيٌّ يمكن تعريفه بأنَّه “التّفكير الفلسفيُّ في الأفكار الدّينيَّة”. وهذا المبحث الفلسفيُّ مبحث جديد مقارنة بمباحث فلسفيَّة أخرى. وقد بدأ التَّفكير في هذا المبحث خلال القرنين الأخيرين. وضمن مبحث فلسفة الدّين تُعالج الكثير من القضايا الفلسفيَّة، مثل مشكلة الشّر، الخبرة الدّينيَّة..إلخ.



 ومن المواضيع الرَّئيسيَّة الَّتي تُعالج ضمن مبحث فلسفة الدّين نجد موضوع التَّعدديَّة الدّينيَّة. و يعدُّ جون هيك (1922ـ2012) من أبرز الفلاسفة المعاصرين اهتمامًا بهذا الموضوع. والتَّعدديَّة الدّينيَّة من المفاهيم الَّتي لازالت غامضة رغم ما لها من أهميَّة في عصرنا الرَّاهن. هذا العصر الّذي يعرف تعصبًا دينيًّا رهيبًّا.



وفي هذا المقال سنتطرَّق لمفهوم التَّعدديَّة الدّينيَّة محاولين الإجابة على السُّؤال الرَّئيسي التَّالي: هل عرف الإسلام تعدديَّة دينيَّة؟ هذا السُّؤال سنحاول أن نتطرَّق له بالتَّفصيل من خلال ما يأتي من تحليل ومناقشة.



 نسجّل منذ البداية أنَّ الأطروحة الرَّئيسيَّة في هذا المقال تتلخَّص في كون الإسلام عرف تعدديَّة دينيَّة. ولكن ماذا نعني بالتَّعدديَّة؟ وقبل ذلك ماذا نقصد بالإسلام؟ إنَّ الإسلام كما هو معلوم دين من الأديان السَّماويَّة، وهو من أكثر الأديان انتشارًا في العالم. والإسلام مبنيٌّ على أركان خمسة هي الشَّهادتان والصَّلاة والصيام والزَّكاة والحجُّ. وهناك من المسلمين من يقولون بـ“الولاية” كركن من أركان الإسلام. والإسلام باعتباره دينا يقدّم إجابات على مجموعة من الأسئلة الميتافيزيقيّة. ومن بين هذه الأسئلة مصير النَّفس الإنسانيَّة بعد الموت. ويمكن القول إنَّ الإسلام مفهوم جامع يضمُّ داخله مجموعة من المذاهب والفرق الإسلاميَّة : سنَّة، شيعة، معتزلة، إسماعليّة، متصوّفة، أحمديَّة..إلخ. وقد تكَّفر بعض هذه الفرق البعض الآخر وتخرجه من دائرة الإسلام. لكن تظلُّ كلُّ فرقة من هذه الفرق تقول أنَّها الممثّلة الحقيقيَّة لعقيدة الإسلام، وأمَّا غيرها فضال ومبتدع (!). هذا ما يمكن أن نقوله باختصار عن مفهوم الإسلام. أمَّا عن مفهوم التَّعدديّة الدّينيّة فإنَّنا لا نعني بها أوَّل ما يتبادر إلى الذّهن، أي أنَّ المجتمعات الإسلاميَّة عرفت تعدُّدًا دينيًّا من حيث المذاهب والطَّوائف الدّينيَّة. وإنَّما نقصد بالتَّعدُّديَّة الدّينيَّة أنَّ هناك أديان مختلفة و متنوّعة، بيد أنَّ كلّ هذه الأديان لها مصدر واحد وهدف واحد. وهذا الاختلاف في ما بينها، إنَّما هو اختلافٌ في الشَّعائر والعبادات. ويترتَّب عن هذا القول الاعتقاد بأنَّ أيَّ دين يعتنقه الإنسان هو دين يقود للخلاص* في الآخرة. فهل الإسلام عرف تعدّديَّة دينيَّة بهذا المعنى؟



إنَّنا حين نعود للنَّص المؤسّس للإسلام وهو القرآن الكريم نجد في سورة البقرة الآية التّاليّة : “إنَّ الَّذين آمنوا والَّذين هادوا والنَّصارى والصَّابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” ** آية 62. إنَّ ما يظهر لمتأمّل هذه الآية الكريمة أنَّ الخلاص الأخرويَّ يعم أصحاب الدّيانات المختلفة من يهود ونصارى وصابئين ماداموا مؤمنين بالله ويعملون صالحًا في الدُّنيا. وحتَّى لا نكتفي بهذا التَّأمُّل الظَّاهريّ للآية فإنَّنا سنعود إلى التَّفاسير الَّتي قُدّمت لها. يذكر المفسّرون أنَّ هناك اختلافا بين علماء القرآن في تفسير هذه الآية. فقد رأى البعض أنَّ المقصود من أصحاب هذه الدّيانات المذكورة في الآية، أولئك الَّذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم تصلهم رسالة الإسلام، وقيل أنَّها نزلت في من آمن منهم برسالة الإسلام بعد البعثة النَّبويَّة [انظر تفسير البغوي]. وفسَّر بعض الصُّوفيَّة هذه الآية بالآتي: “أنَّ اختلاف الطَّريق مع اتّحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدق الحقّ سبحانه في آياته، و آمن بما أخبر من حقّه وصفاته، فتبايُن الشّرع واختلاف وقوع الإسم غير قادح في استحقاق الرّضوان” [1]. ويهمُّنا هنا هذا التَّفسير الأخير الَّذي يذهب إلى أنَّ كلّ من ذكروا في هذه الآية لهم حسن المآب وجزيل الثَّواب. فهذه الآية إذن تتحدَّث عن من آمنوا بالأنبياء الماضين، فمعنى هذا أنَّ الخلاص الأخروي، أو لنقل بالمفهوم الإسلاميَّ: إستحقاق الرضوان، يعمُّ أصحاب الدّيانات المختلفة. وبالتَّالي يبدو لنا أنَّ الإسلام يعرف التَّعدُّديَّة الدّينيَّة انطلاقًا من هذه الآية.



 غير أنَّ القرآن حمَّال ذو وجوه، فإذا كان يتضمَّن آية يمكن أن نفهمها على ضوء التَّعدُّديَّة الدّينيَّة فإنَّه يتضمَّن آيات أخرى لا ترى بالتَّعدُّديَّة، مثال ذلك: قول الله تعالى في سورة آل عمران: “و من يبتغي غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” آية 85. فهذه الآية تعني أنَّ من يطلب شريعة غير شريعة الإسلام بعد بعثة النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام ليدين بها فلن يتقبَّل الله منه [2]. وهناك من ذهب إلى اعتبار هذه الآية ناسخة لآية “إنَّ الَّذين آمنوا والَّذين هادوا”. كما أنَّ هناك العديد من الأحاديث النَّبويَّة الَّتي تسير في هذا الاتّجاه الاقصائيّ لاستحقاق الرّضوان، مثل حديث: “والَّذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثمَّ يموت و لم يؤمن بالَّذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النّار” رواه مسلم.



 ولا يخفى على دارس للفكر الإسلاميّ أنَّ أغلب الفرق الإسلاميَّة أسَّست عقائدها انطلاقًا من القرآن الكريم. فالمعتزلة أوَّلت الكثير من الآيات لتناسب أصولها الخمس. كذلك فعلت الأشاعرة، والشّيعة، وأمَّا أهل السَّلف فرفضوا التَّأويل وتبنّوا موقف أهل الحديث. فهل نجد من بين المسلمين من آمن بالتَّعدُّديَّة الدّينيَّة انطلاقًا من فهم خاص للإسلام؟



 نعم! إنَّ بعض فلاسفة الإسلام آمنوا بالتَّعدُّديَّة الدّينيَّة. ففيلسوف العرب الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله يقول أنَّ الرُّسل الصَّادقة صلوات الله عليها إنَّما أتت بالإقرار بربوبيَّة الله وحده و بلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرَّذائل المضادَّة للفضائل في ذواتها وإيثارها [3]. ثمَّ إنَّ للكندي محاولة دفاعيَّة عن أديان الوحي من وجهة نظر أوسع عمادها البحث عن الجزء الجوهريّ المشترك بين هذه الأديان. وهذا مضمون رسالته المفقودة الَّتي عنوانها رسالة في افتراق الملل في التّوحيد وأنَّهم مجمعون على التَّوحيد وكلٌّ قد خالف صاحبه [4]. غير أنَّ أبرز و أهمَّ جماعة فلسفيَّة قالت بالتَّعدُّديَّة الدّينيَّة في الإسلام هي جماعة إخوان الصّفاء وخلاَّن الوفاء. فقد ذهبت هذه الجماعة إلى أنَّ غرض الأنبياء، وواضعي النَّواميس الإلهيَّة أجمع، غرض واحد و قصد واحد، وإن اختلفت شرائعهم وسنن مفترضاتهم، وأزمان عبادتهم، وأماكن بيوتاتهم، و قرابينهم وصلواتهم، كما أنَّ غرض الأطباء كلّهم غرض واحد ومقصد واحد في حفظ الصّحة الموجودة واسترجاع الصّحة المفقودة، وإن اختلفت علاجاتهم في شراباتهم وأدويتهم بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأبدان في الأوقات المختلفة، والعادات المتغايرة، والأسباب المفنّنة من الأهوية والبلدان “[5]. كما أنَّهم ذكروا في الرّسالة الرَّابعة والأربعون من رسائلهم وهي رسالة في بيان اعتقادهم ومذهب الرَّبانيين ما يلي:” هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتَّى ترى ملكوت السَّموات الَّتي رآها أبونا إبراهيم لما جنّ عليه اللَّيل حتَّى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تتمّم الميعاد وتجئ إلى الميقات عند الجانب الأيمن حيث قيل: يا موسى، فيقضي إليك الأمر فتكون من الشَّاهدين. أو هل لك يا أخي أن تصنع ما علم فيه القوم كي ينفخ فيك الرُّوح فيذهب عنك اللّوم، حتَّى ترى الأيسوع عن ميمنة عرش الرَّبّ قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب، أو ترى من حوله من النَّاظرين، أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن حتَّى ترى اليزدان قد أشرق منه النُّور في فسحة أفريحون. أو هلك أن تدخل إلى هيكل عاديمون، حتَّى ترى الأفلاك الَّتي يحيكها أفلاطون، وإنَّما هي أفلاك روحانيَّة لا ما يشير إليه المنجّمون (...) أو هل لك أن لا ترقد من أوَّل ليلة القدر حتَّى ترى المعراج في حين طلوع الفجر، حيث أحمد المبعوث في مقامه المحمود، فتسألة حاجتك المقضيَّة لا ممنوعًا ولا ممنوعًا ولا مفقودًا وتكن من المقربين “[6]. انتهى كلام إخوان الصَّفاء. إنَّ المتأمّل لهذا النَّص يظهر له بوضوح أنَّ فكر إخوان الصَّفاء هو فكر تعدُّديٌّ، فقد خاطبوا في هذه الفقرة الإبراهميين واليهود والمسيحيين والزرادشتين والأفلاطونيين والمسلمين، دون أن ينكروا على أحد من هؤلاء اعتقادهم .



 ختامًا، تبنَّت المسيحيَّة الكاثوليكيَّة المتمثّلة في الفاتيكان ــ في خضمّ صراعها التَّاريخيّ مع التّيَّار الإنسانويّ ـ تبنَّت خطاب التَّعدُّديَّة الدّينيَّّة. فقد أعلن بابا الفاتيكان أنَّ الخلاص الأخروي ليس من نصيب المسيحيين فقط، وإنَّما هو من نصيب كلّ إنسان خيّر. وهذا يوافق ما جاء في الآية 62 من سورة البقرة، إذا فهمناها على ضوء التَّعدُّديَّة الدّينيَّة. وعلى العموم يمكن القول، على ضوء ما رأينا في هذا المقال، أنَّ التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في الإسلام ممكنة أيضًا. وأنَّ الإسلام منفتح على الدّيانات الأخرى. بل زيادة على ذلك، رغم ما يظهر اليوم من أنَّ الإسلام منغلق ودين عنف، فإنَّه في عمقه غنيٌّ بتيَّارات دينيَّة منفتحة ومتسامحة، فالأشاعرة يغلّبون الرَّحمة على العدل الإلهيّ ***، وجماعة إخوان الصَّفاء تبنَت فكرًا كونيًّا تعدُّديًّا، كذلك في الإسلام إرث صوفيٌّ كبير يرى جانب منه بالتَّعدُّديَّة. فهل نأمل أن يتمَّ تغليب هذه الرُّؤى الإسلاميَّة التَّّعدُّديَّة للخلاص الأخرويّ عن غيرها من الرُّؤى الإقصائيَّة؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مفهوم الخلاص الأخرويّ مفهوم مسيحيٌّ، ويمكن أن نجد له مرادفًا إسلاميًّا وهو استحقاق الرّضوان.
** هناك آيات أخرى تسير في نفس المعنى مثل ما ورد في سورة المائدة :” إنَّ الَّذين آمنوا و الَّذين هادوا والصَّابئون والنَّصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحٌا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون “آية 69. وفي سورة الحجّ :” إنَّ الَّذين آمنوا والَّذين هادوا والصَّابئين والنَّصارى و المجوس والَّذين أشركوا إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنَّ الله على كلّ شيء شهيد " آية 17.
1 ـ انظر : القشيري، لطائف الإشارات، الجزء الأوَّل، دار الكتب العلميَّة، ط : 2، ص : 50.
2 ـ محمد علي الصابوني، صفوة التَّفاسير، المجلَّد الأوَّل، دار الجيل ـ بيروت، ط:8، ص : 215
3 ـ الكندي، رسائل الكندي الفلسفيَّة، تحقيق وتقديم: محمد عبد الهادي أبوريَدة، دار الفكر العربي، طبعة سنة 1950 م، ص : 104
4 ـ نفسه، ص : 55
5 ـ إخوان الصَّفاء، رسائل إخوان الصَّفاء وخلاَّن الوفاء، المجلّد الثَّاني، دار صادر، ص : 141
6 ـ إخوان الصَّفاء ، رسائل إخوان الصَّفاء وخلاَّن الوفاء، المجلّد الرَّابع ، دار صادر، ص ص : 18 ـ 19.
*** فكرة اطلعت عليها ولم أتوسَّع في البحث عن مدى دقَّتها. كذلك اطلعت على أنَّ بعض الأشاعرة يجيزون عقلاً دخول الكافر إلى الجنّة، لكن للأمانة لا أدري مدى صحَّة هذا الموقف الأشعريّ.

المصدر: http://www.alawan.org/article14793.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك