الإرهاب والمناخ نحو بردايغم جديد للإرهاب
بقلم: علي سليمان الرواحي
في خطابه بمناسبة افتتاح القمَّة المناخيَّة في باريس بتاريخ 30 نوفمبر 2015م في الضَّاحية الباريسيَّة لوبورجيه، ربط الرَّئيس الفرنسيُّ فرانسوا أولاند بين الإرهاب والمناخ ، واضعًا التحوّلات المناخيَّة بما فيها الاحتباس الحراريُّ وآثاره، كسبب إضافيّ من أسباب الإرهاب الَّتي تتزايد يومًا بعد يوم، ذلك أنَّ قضيَّة المناخ لا تقتصر فقط على الاحتباس الحراريّ الَّتي تؤدّي إلى ارتفاع درجات الحرارة وبالتَّالي للكثير من الفيضانات والكوارث الطبيعيَّة وغيرها، بل أصبحت هذه القضيَّة عاملاً مؤثّرًا ليس على المدى البعيد الَّذي يجعل الكثير من الأشخاص والحكومات يضعونه في خانة المهام المؤجَّلة لفترات مستقبليَّة طويلة، ذلك أنَّ هذه القضيَّة أصبحت تطرح نفسها على المدى اليوميّ، المنظور، والمباشر، بل وفي الكثير من الأحيان الآني، الَّذي يتفاعل مباشرة مع الحياة والموت والحريَّة أيضًا.
تطرح هذه الورقة تساؤلات حول إيديولوجيَّة مثل هذه الدَّعوات - إذا أخذنا في الحسبان - بأنَّها تأتي مباشرة بعد أحداث باريس الدَّامية، وهل نحن أمام وجهة جديدة للإرهاب تأخذ بالاعتبار وبشكل أساسيّ عوامل أخرى غير التَّعصُّب الدّينيّ والفقر أو صدمة الحداثة؟ وهل تهدف مثل هذه الدَّعوات إلى وضع قضيَّة المناخ في صدارة اهتمام المثقَّف الكوني، والفاعل السّياسيّ بشكل عام بعد أن كانت مُقتصرة فقط على نخبة من السّياسيين والمثقَّفين؟ أو مرتبطة في بعض الأحوال بالأجندة السّياسيَّة والانتخابيَّة العابرة.
قبل المساهمة في الإجابة على ذلك ينبغي المرور على الجسور المؤدّية للعلاقة بين المناخ والإرهاب وإمكانيَّة الرَّبط بينهما، بل وإمكانيَّة إيجاد علاقة وثيقة – شبه حتميَّة – بين الطرفين ، وهذا يقودنا مبدئيًّا إلى البحث في التَّوصيفات الفلسفيَّة للإرهاب والتَّساؤل هنا مجدَّدًا عن عدم اقترابها إلاَّ نادرًا من قضيَّة المناخ بوصفه أحد مسبّبات الإرهاب.
الإرهاب: إمكانيَّة البردايغم الجديد
لسنوات طويلة خَلتْ وتحديدًا بعد أحداث 2011م ، أصبحت قضيَّة الإرهاب – الَّتي لم يتمَّ الاتّفاق على حدودها المفاهيميَّة بعد - تحتلُّ صدارة التَّحليلات السّياسيَّة والفلسفيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وغيرها، فهي لم تعد قضيَّة تتعلَّق بدولة معيَّنة فقط، أو ترتبط بثقافة محدَّدة أيضًا، ذلك أنَّها امتدَّت لتشمل الجميع دونما تمييز للاختلافات والتَّصنيفات البشريَّة، الأمر الَّذي جعل هذه التَّحليلات تتداخل فيما بينها، وتختلف، بل وتتعارض في الكثير من الأحيان، وهذا يشير إلى صعوبة القبض على الأسباب الفعليَّة لها. غير أنَّه، وبالرَّغم من كلّ ذلك، فإنَّنا أمام خطوط عريضة من الممكن إجمالها فيما يتعلَّق بهذه القضيَّة الكونيَّة، حيث نجد أنَّ التَّشخيص الفلسفيَّ – الَّذي يحتوي على اختلافات كثيرة هو الآخر – يذهب، وبشكل خاصّ مع الفيلسوف الألمانيّ هابرماس (1929م - ؟؟؟) إلى أنَّ الإرهاب هو أحد نتائج الفجوة الَّتي تعيشها الكثير من شعوب العالم، وهذه الفجوة ليست على وجهٍ واحد، فهي متعدّدة: اقتصاديَّة، ثقافيَّة، فكريَّة...إلخ، ممَّا جعل هذه الشُّعوب تتعرَّض لمرحلة “إذلال الوعي” تجاه الدُّول المتفوّقة، الأمر الَّذي جعلها تتعرَّض لصدمة حضاريَّة أدَّت بها إلى أن تقوم برد فعل معاكس، مستخدمة بذلك الموارد الثَّقافيَّة واللُّوجستيَّة المتاحة لها. تعني هذه الصَّدمة الحضاريَّة أيضًا بالإضافة لهذه الفجوة “الاقتلاع العنيف من أنماط الحياة التَّقليديَّة”(i) الَّتي لا تأخذ بعين الاعتبار السَّيرورة التَّاريخيَّة لحدوث هذه التَّحوُّلات المتسارعة، فهي تقوم بإحداث الألم النَّفسيّ في كثير من الأشخاص الَّذين ينتمون لها، ممَّا يجعلهم يلجؤون في الكثير من الحالات الدّفاعيَّة للمصادر الرُّوحانيَّة والنَّصيَّة المختلفة، وهذا يعني الدُّخول في مسار مغاير لمسار المجتمعات الحديثة الَّتي تتَّسم بقاعدة تواصليَّة مشتركة بين الجميع، يمكنهم من خلالها التَّوصل لقرارات واضحة ومشتركة في الكثير من الحالات والظُّروف المختلفة، وهو ما يجعل هذه المجتمعات أقرب لسمة التَّجانس في الأسس والمبادئ الأوَّليَّة. لم تكن لهذه الفجوة أن تحدث، وتزداد، بدون نتائج سلبيَّة ومُدمّرة للكثير من العناصر الحيَّة غير البشريَّة في كوكب الأرض - وهذه تعتبر من المهام المؤجّلة والمنسيَّة في أفق الكثير من المثقَّفين من مختلف الجنسيات – الَّتي تقوم بدور هام جدًّا في التَّوازن الطبيعيّ والتَّجدُّد البيئيّ، وهو ما يجعلنا نقترب من البردايغم الجديد للإرهاب، والَّذي يمنح قضيَّة الاحتباس الحراريّ أهميَّة مركزيَّة في المستقبل القريب.
التَّغيُّر المناخيُّ والعيش المشترك
تتجسَّد الفجوة هنا، في العدد الهائل والمتزايد للمصانع والأدخنة و“انتهاك أكبر وأهمّ الغابات في العالم، وتحمّض المحيطات، ونضوب أنواع مهمّة من الثَّروة السَّمكية والفقدان الوشيك للشّعاب المرجانيَّة؛ وتراكم النّفايات الكيميائيَّة السَّامَّة”(ii) وغيرها الكثير من الأمور المهمَّة الَّتي تحدث في الكثير من الأحيان دونما الانتباه لها، أو منحها الكثير من الأهميَّة، ذلك أنَّ هناك غايات إستهلاكيَّة وسلطويَّة متعدّدة تضع هذه القضايا في نهاية قائمة الأولويات البشريَّة، بالرَّغم من أهميّتها. لا تهدّد التّغيرات المناخيَّة الناجمة عن المصانع والنُّفايات السَّامَّة الَّتي يتمُّ التَّخلُّص منها عن طريق دفنها في التربة وتأثيرها على البيئة المحيطة بها، أو رميها في البحار والمحيطات، لا تهدّد فقط الكائنات الحيَّة غير البشريَّة، بل تمتدُّ أيضًا – وربَّما بدرجة أكبر من ذي قبل – لتهدّد العيش البشريَّ المشترك، بما فيها الآثار السَّلبيَّة المباشرة والمنعكسة على صحّة الإنسان والأجنَّة والأجيال المستقبليَّة القادمة. يأتي هذا التَّهديد بشكل مباشر من ذلك الاعتلال البيئيّ والتَّوعك المناخيّ المستمرّ، الَّذي يتجسَّدُّ بطريقة واضحة ليس في زيادة الفيضانات، وموجات الحرّ المرتفعة غير المسبوقة الَّتي تودي بحياة العشرات من الأشخاص، أو في تلف المحاصيل الزّراعيَّة وبالتَّالي ارتفاع أسعار الغذاء العالميّ، وزيادة فترات الجفاف في الكثير من الدُّول، بل أيضًا - وهذا لا يقلُّ أهميَّة عن النَّتائج السَّابقة - في تلك الهجرات الجماعيَّة الَّتي تحدث من المناطق الزّراعيَّة والرّيفيَّة المهدّدة بالتَّصحُّر التَّام والجفاف المميت لكلّ الكائنات الحيَّة بما فيها الإنسان والحيوانات والنَّباتات، الأمر الَّذي يعني فراغ هذه المناطق الحيويَّة في الجانب الانتاجيّ والمعيشيّ، وتكدّس البشر في مناطق محدَّدة بعينها، ممَّا يهدّد إلى حدّ كبير التَّنوُّع البيئيّ والاحيائيّ والقيمي أيضًا. تقوم هذه الهجرات الجماعيَّة، الَّتي لا تحدث بسبب الحروب والسّياسات غير العادلة المتعدّدة بل بسبب الكثير من الأزمات المناخيَّة المتزايدة، بالتَّكالب على الموارد الطبيعيَّة من جهة، وازدياد العنف من الجهة الأخرى، وهما عاملان مركزيان في الوقت الحاضر يؤسّسان للكثير من التَّفاعلات المباشرة وغير المباشرة. حيث نجد أنَّ هذه الهجرات تساهم في ندرة الموارد الغذائيَّة، وقلَّة الإمكانيات المائيَّة، بالرَّغم من وجود الصّناعات الَّتي تعتبر كحل بديل لهذه الأزمة، إلاَّ أنَّها تساهم بدورها في خلق أزمات مناخيَّة لا تقلُّ خطورة عنها، كما أنَّها تتسبَّب في عنف متزايد يتَّخذ الكثير من الصيغ المختلفة بين الشُّعوب والدُّول الَّتي تمتلك فائضًا غذائيًّا، ودوائيًّا، ومعيشيًّا، وغيرها، وبين الدُّول الَّتي لا تمتلك إلاَّ الاحتياجات الضَّروريَّة والأساسيَّة للحياة اليوميَّة، ممَّا يسبب بشكل غير حتميّ، في زيادة هذه الفجوة الَّتي تمُّ النَّظر إليها برؤية فلسفيَّة على أساس أنَّها أحد العوامل الرَّئيسيَّة المسبّبة للإرهاب. ممَّا يعني بأنَّنا أمام نتيجة غير مباشرة، وهي أنَّ الإرهاب بصيغته الحالية من صُنع الدُّول الغنيَّة والصناعيَّة، بمصانعها، وعولمتها الاقتصاديَّة الَّتي لا تأخذ بالحسبان الآثار السَّلبيَّة للأدخنة والسُّلوكيات غير المنصفة تجاه العناصر البيئيَّة والبشريَّة المختلفة، وهي تنعكس بشكل حتميّ على الجميع: فقراء وأغنياء، حيث أنَّ الطبيعة لا تُفرّق بين المستويات الاقتصاديَّة للبشر، غير أنَّ الأغنياء يستطيعون معالجة هذه الآثار وتلافيها، في حين أنَّ الشُّعوب الفقيرة تعاني من جميع النَّواحي: السّياسيَّة والاقتصاديّة وغيرها.
خاتمة:
منذ الآن لم يعد الإرهاب مرتبطًا بجنسيَّة معيَّنة، أو ملاصقًا لثقافة محدَّدة، بل وبسبب التَّغيُّرات المناخيَّة أصبح ممكن الحدوث من جميع الاتّجاهات، وضدَّ جميع الاتّجاهات أيضا، ممَّا يعني بأنَّ نقاط التَّركيز المستقبليَّة لإيجاد الكثير من الحلول في هذا السّياق، لن ستكون فئويَّة، أو محدَّدة في مناطق ثقافيَّة معيَّنة، بل ستصبح كونيَّة أكثر من أيّ وقت مضى، وهذا البُعد الكونيُّ ليس مثاليًّا مجُرّدا، فهو مرتبط بالأرض والحياة والمستقبل البشريّ بشكل عام، كما أنَّه لم يعد مقتصرًا على الشُّعوب الغنيَّة، فهو لا يدخل في خانة الكماليات، ذلك أنَّ نتائجه لا تقتصر على طرف دون الآخر.
غير أنَّ السُّؤال الختاميَّ هنا: هل هناك جانب أيديولوجيٌّ في ربط التَّغيُّرات المناخيَّة بالإرهاب؟ وهل هذا الرَّبط يُخلي المسؤوليَّة عن العناصر المتعارف عليها المُسبّبة للإرهاب أم أنَّنا أمام سبب إضافي جديد لا أكثر؟ لا شكَّ أنَّ كلّ الأسباب والتَّحليلات لها نصيب من الصّحَّة والوجاهة، غير أنَّه من الواضح في هذا السّياق بأنَّنا أمام معادلة جديدة، ستصبح الدُّول الصّناعيَّة فاعلة بشكل كبير أكثر من أيّ وقت مضى، فهي لن تكتفي بدور المتفرّج، أو المدافع فقط، بل ينبغي أن تتَّخذ دورا أساسيًّا فاعلاً يُغيّر من خرائط الجشع العالميّ المتمثّل بازدياد التَّصنيع وتدمير البيئة وتكدّس الأموال وبالتَّالي ازدياد الفجوات بين الدُّول والشُّعوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) انظر: جيوفانا بورادوري: الفلسفة في زمن الإرهاب، حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا، تر: خلون النَّبواني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، ط1 ، 2013م، ص75.
2) آل غور، المستقبل: ستة مُحركات للتَّغيير العالميُّ ج2، تر: د. عدنان جرجس، عالم المعرفة، العدد 424، مايو، 2015م، ص 178.