هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟

مناقشة رأي الأستاذ علاّل الفاسيّ

بقلم: محفوظ أبي يعلا

 

كان المرحوم علاَّل الفاسيّ من ممثلي التيَّار السَّلفي التّنويري في المغرب. وقد خطَّ العديد من الدّراسات والمقالات بقلمه الفقهيّ الَّذي لا ينفصل عن الواقع المعاصر. لذلك كان من رموز الفكر الإصلاحيّ الحديث. وقد تأثَّر الأستاذ علاَّل الفاسيّ بشيوخ عصر النَّهضة العربيَّة أمثال جمال الدّين الأفعاني ومحمد عبده، فسار على خطاهم، باحثًا عن داء هذه الأمَّة محاولاً أن يجد علاجًا ثقافيًّا وإيديولوجيًّا لها.



 ولم يكن الأستاذ علاّل الفاسيّ مجرَّد مثقَّف نخبويّ أسير لبرجه العاجيّ أو لجامعته الَّتي يدرِس فيها، بل كان مثقَّفًا عضويًّا بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فكان مؤسّسا وزعيمًا لحزب الاستقلال، كما كان من رجالات الحركة الوطنيَّة المغربيَّة.



ولعلاّل الفاسيّ كتب مهمَّة أبرزها كتابه النّقد الذّاتي. ثمَّ إنَّ له دراسات وعروضا كثيرة نُشر بعضها في مجلَّة الإيمان المغربيَّة. ومن بين هذه الدّراسات الّتي نشرت في مجلَّة الإيمان سنة 1963 دراسته أو عرضه حول الإسلام والفلسفة، وهو العرض الَّذي يحمل عنوان: هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟



 وسأعمل في هذا المقال على تلخيص بعض ما ذكره الأستاذ علاّل الفاسيّ في عرضه، ثمَّ سأسجّل بعض الملاحظات النَّقديَّة من خلال مناقشة أفكار العرض، وسأنتهي بخاتمة أطرح فيها رأيًّا شخصيًّا حول سبب تعثُّر النَّهضة العربيَّة الَّتي كان من بين رجالاتها محمد عبده وعلاّل الفاسيّ وغيرهما .



 لقد وظَّف الأستاذ علاّل الفاسيّ في عرضه المنهج المقارن والمنهج التّفسيري ومنهج التَّأثير والتَّأثر، فحاول أن يقارن الإسلام بالفلسفة، مفكّرًا في ماهيَّة الفلسفة وفي آفاقها. متسائلاً: هل دعا الإسلام إلى الفلسفة؟



 وآفاق الفلسفة، كما طرحها الأستاذ علاّل الفاسيّ، تتمثَّل في البحث عن علَّة الكون وفي مدى قدرة العقل وفي البحث عن الخير والشَّر والجمال والقبح [1].



 ويربط الأستاذ الفاسيّ ظهور التَّفكير الفلسفيّ بظهور الدّين، إذ إنّ الإنسان في أول مراحله خاف من الطبيعة فحاول إرضاءها. لقد كان الإنسان على حدّ تعبير الأستاذ علاّل: في عماء لا يدري مركزه من كلّ هذا العالم، ولذلك شعر بضرورة البحث عن مصدر وجوده ووجود الكون، أي أنَّه سعى إلى المعرفة. وفي ذات الوقت شعر بالحاجة إلى الدّين وإلى الانتقال من عالم الشَّهادة إلى عالم الغيب [2] .



 والفلسفة كما جاء في عرض الأستاذ الفاسيّ تَدْرس المواضيع التَّالية:
ـ الموجود حقًّا وأصل المادَّة و سبب وجودها
ـ تفرق بين المبدأ الأوَّل الَّذي تصدر عنه سائر الإمدادات و بين الظَّواهر الطبيعيّة
ـ تبحث عن كنه العقل وعن كنه المعقول
ـ تدرس صفات الموجود الَّتي هي غير الوجود كالخير والشَّر والجمال والقبح ...



 بيد أنَّ الفلسفة وإن كانت تدرس مثل هذه المواضيع فإنَّها، حسب رأي الأستاذ علاّل الفاسيّ، ليست هي الحقائق الَّتي يصل إليها الإنسان ولا النَّتائج الّتي يدركها، ولكنَّها الطريق والفكر الحرُّ و أسلوب الدَّرس والاستقامة في البحث [3] .



ويرى الأستاذ علاّل الفاسيّ أنَّ هناك آيات قرآنيَّة كثيرة تؤكّد على أنَّ الإسلام دين العقل والفكر والعلم و الفقه ... و لذلك يقول أن الدعوة الإسلاميّة نفسها هي الّتي وجهت المسلمين إلى الفلسفة وليس كما يقال اتّصال المسلمين بالفكر اليونانيّ أو بغيره. وهنا يبدأ حديث الأستاذ علاّل الفاسيّ عن “فلسفة الإسلام”. فيقول أنَّ فلسفة الإسلام لا تعني أن يتلقَّف المسلمون كلّ ما يقوله الفلاسفة ويصدّقوه كلّه أو بعضه ولكنَّها تعني أن ينظر النَّاس بعقولهم، إنَّها تعني الفلسفة الَّتي هي النَّظر والدَّليل لا النَّتائج الَّتي يحبّ النَّاس أن يستنتجوها [4]. بمعنى أنَّ الفلسفة عند الأستاذ علاّل الفاسيّ ليست سوى منهج، أو بعبارة أخرى إنَّها مجرَّد وسيلة وليست مواقف وتصوُّرات عن كنه العالم والإنسان ..إلخ. ولذلك يجعل للإسلام فلسفة خاصَّة. ويجعل ابن تيميّة والغزالي وابن خلدون وأمثالهم هم الفلاسفة الحقيقيون الّذين فكَّروا واستنتجوا وكانوا مستقلّين في آرائهم. ولا يذكر الأستاذ علاّل الفاسي هنا فلاسفة الإسلام المشهورين باشتغالهم بعلوم الأوائل كالكندي والفارابي وابن سينا ..إلخ . يقول الأستاذ علاّل: “مدرسة الغزالي وابن تيميّة وابن خلدون هي الفلسفة الَّتي يمكن أن نقول أنَّها استمدَّت من فلسفة الإسلام وحاولت السَّير على المنهج الَّذي جاء به القرآن” [5]. أمَّا من ساروا على خطى الفلاسفة اليونان فقد اعتبروا في نظر الفلاسفة الاستقرائيين من رجال السَّلفيَّة مبتعدين عن الفلسفة القرآنيّة وعن السُّنَّة.



 هكذا يظهر لنا أنَّ للأستاذ علاّل الفاسيّ رأيًّا خاصًّا في الفلسفة. فهو لم يرى الفلسفة كمعجزة يونانيَّة تقوم على اللُّوغوس، رغم أنَّه كان واعيًّا تمامًا بذلك، فقد أقرَّ في بداية دراسته أنَّ الفيلسوف في بحثه عن الحقيقة يضع على كلّ شيء علامة الاستفهام، وأنَّ طريقه ليس العرف  ولا الإجماع ولا الوحي ولكنَّه العقل. وأسلوب الفيلسوف في استخراج الحقيقة من العقل هو البرهان [6]. فلماذا انتهى الأستاذ علاّل الفاسيّ لتلك النَّتيجة؟ أي إلى القول أنَّ الفلسفة الحقيقيّة هي فلسفة الإسلام؟ إنَّ الأستاذ علاّل يذكّرنا بمفكري الفلسفة المسيحيّة في العصور الوسطى، فقد كان المفكّرون المسيحيون يقولون “فلسفتنا” و“حكمتنا” للدَّلالة على المسيحيَّة باعتبارها مذهبًا منظَّمًا كمذاهب فلاسفة اليونان. والسَّبب الَّذي جعل المفكّرين المسيحيين في عهد الفلسفة السكولائيّة يرون هذا التَّصوُّر هو أنَّهم لاحظوا أنَّ الأفلاطونيين والرواقيين وغيرهما يهتمُّون بالإلهيات و بالأخلاق فظهر للمفكّرين المسيحيين أنَّ المسيحيَّة بدورها فلسفة تعرض حلولاً خاصَّة بها إلى جانب سائر الفلسفات [7]. ولهذا كان بعض المفكّرين المسيحيين يعترضون على دمج المسيحيَّة بتيَّار فلسفيّ معين كالرواقيَّة أو الأفلاطونيَّة. فقال ترتوليان معترضًا على هذا الدَّمج: “أيُّ علاقة توجد بين أثينا وأورشليم بين الأكاديميَّة والكنيسة، بين الخوارج والمؤمنين؟ إنَّنا بريئون من الَّذين ابتدعوا مسيحيَّة رواقيَّة أو أفلاطونيَّة أو جدليَّة، بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة إلى شيء!” [8]. وقريب من هذا القول يقول الأستاذ علاّل الفاسيّ في عرضه: “ما معنى السُّؤال: هل الإسلام بحاجة إلى فلسفة؟ إن كان المراد النَّظر والتَّبصُّر فالإسلام يدعو إليه وهو راغب في أن يكون المسلمون فلاسفة حكماء، وإن كان المراد يعني نظريَّة من النّظريات فمعنى ذلك الحكم على الإسلام بأنَّه لم يأتِ بما يسدُّ حاجة البشر لا في ميدان العقيدة ولا في ميدان العمل” [9].



 ختامًا، نعيد السُّؤال الَّذي كان عنوان عرض الأستاذ علاّل الفاسيّ: هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟ ونحاول الإجابة عليه بالقول أنَّ الإسلام دين والفلسفة صناعة للمفاهيم وأسلوب في التَّفكير، وأنَّ الدّين والفلسفة لا يلتقيان أبدًا، لأنَّ لكلّ منهما وظيفته الخاصَّة. فالدّين وظيفته تعبديَّة إيمانيَّة تقوم على التَّسليم، والفلسفة أسلوب في التَّفكير يقوم على العقل والاستدلال. وما يمكن أن تضيفه الفلسفة للإنسان المسلم هو تزويده بالرُّوح النَّقديَّة وبالرُّؤية المتسامحة للغير المختف. وأمّا الحديث عن “فلسفة إسلاميَّة” يكون روَّادها هم ابن تيميّة والغزالي وابن خَلدون، كما ذكر الأستاذ علاّل، فهذا حديث عن الإسلام باعتباره دين يتأسس على مجموعة من الأفكار والمعتقدات وليس عن الفلسفة الإسلاميَّة المتأثّرة بعلوم الأوائل من فلاسفة اليونان.



وأخيرًا أصل لإبداء رأي شخصيّ حول تعثُّر النَّهضة العربيَّة الَّتي كان من روَّادها علاّل الفاسيّ وقبله رشيد رضا ومحمَّد عبده والأفغاني. وهو رأي استنتجته بعد قراءة نصوص بعض هؤلاء المصلحين. ففي اعتقادي أنَّنا كرَّرنا لعقود طويلة أقوالاً لم تكن دقيقة ولا صحيحة، مثل قولة محمَّد عبده: في الغرب إسلام بلا مسلمين، أو قولته أنَّ العقل غير غائب عن الإسلام، أو القول أنَّ الدّيمقراطيَّة هي الشُّورى في الإسلام، أو أطروحة علاّل الفاسيّ الَّتي ناقشناها في هذا المقال. إنَّ هذه الأطروحات الفكريَّة أثَّرت في أجيال كثيرة، ولازالت تُروّج إلى اليوم داخل بعض الحركات الدَّعويَّة الإسلاميَّة، وحتَّى داخل حركات الإسلام السّياسيّ. والحقُّ أنَّ محمَّد عبده حين سافر لفرنسا لم يجد الإسلام ولا المسلمين، وإنَّما وجد “إنسان الأزمنة الحديثة”: إنسان التَّنوير والحداثة. كذلك فإنَّ العقل ظلَّ مستسلمًا للدّين وللإيمان، و لم يستطع أن ينفصل عن التّراث ليؤسّس العقلانيَّة العربيَّة. لذلك فالعقل بمعناه الفلسفيّ الحديث لم يعرفه المسلمون. أمَّا القول أنَّ الشُّورى هي الدّيمقراطيَّة فهذا قول لا يصحُّ أيضًا لأنَّ الشُّورى شيء والدّيمقراطيَّة شيء آخر. أمَّا أطروحة الأستاذ علاّل الفاسيّ حول الفلسفة والإسلام فقد خصَّصنا لها هذا المقال وبين ملاحظاتنا حولها. صحيح أنَّ أفكار هؤلاء المصلحين مرتبطة بظرفهم التّاريخي، فالعالم العربيّ كان محتلاً من قبل المستعمرين الغربيين. فكان لابدَّ لهؤلاء المفكّرين المسلمين أن يميلوا لثقافتهم العربيَّة والإسلاميَّة، ويرفضوا الهيمنة الفكريَّة الغربيَّة. وهذا الموقف نجده في عرض الأستاذ علاّل الفاسيّ الَّذي ناقشناه في هذا المقال إذ يقول: " اليوم يتَّصل قومنا مرّة أخرى بالفكر الغربي ولكن في ظروف غير الظُّروف الَّتي اتَّصل فيها أسلافنا بفكر اليونان والفرس والهند. لقد كنَّا سادة أمرنا. وزعماء حضارتنا وكانت غايتنا هي الاستفادة من نتاج الإنسانيَّة ولم تكن حضارة من أخذنا عندهم حية قائمة، ولكنَّنا استخرجناها من حفريات قمنا بها كما يستخرج علماء الآثار هذه التَّماثيل ثمَّ يعجبون بها ويختصُّون في دراستها. أمّا اليوم فإنَّ المدرسة الغربيَّة تفرض علينا فرضًا. إنَّنا ننظر إليها نظرة القداسة بيمينها ويسارها، ونتهافت عليها ونختلف بحسب اختياراتنا منها وتأثرنا بها [10]. انتهى كلام الأستاذ علاّل.



 فإذن، أما آن الأوان لمراجعة كلّ الأفكار الَّتي طرحها التيَّار السَّلفيُّ الإصلاحيُّ خصوصًا والتيَّار الإسلاميُّ عمومًا كإجابة عن سؤال النَّهضة العربيَّة حول تأخُّر المسلمين وتقدّم غيرهم لاسيَّما بعد أن مرَّت سنوات طوال على استقلال البلدان العربيّة؟ أمّا آن الأوان لمراجعة حصيلة أكثر من قرن من التَّفكير في السُّؤال التَّاريخيّ: سؤال النَّهضة؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ علاّل الفاسيّ، هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟، مجلَّة الإيمان، العدد الأوّل، دجنبر 1963، ص: 10.
2 ـ نفسه، ص: 9.
3 ـ نفسه، ص: 10.
4 ـ علاّل الفاسيّ، هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟، مجلَّة الإيمان، العدد الثَّاني، يناير 1964، ص: 25.
5 ـ نفسه، ص: 27.
6 ـ علاّل الفاسي، مجلَّة الإيمان، العدد: 1، مرجع سابق، ص: 10.
7 ـ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوربيّة في العصر الوسيط، دار الكاتب المصري، ط: 1، ص ص: 8، 9.
8 ـ يوسف كرم، نفسه، ص: 2.
9 ـ علاّل الفاسي، مجلَّة الإيمان، العدد: 2، مرجع سابق، ص: 25.
10 ـ نفسه، ص: 28.

المصدر: http://www.alawan.org/article14725.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك