الدَّواعش يشعلون العالم!

بقلم: هاشم صالح 

 

صرخة في واد



منذ ربع قرن وأنا أقولها بالفم الملآن: المشكلة الأصوليَّة ستكون المشكلة رقم واحد للقرن الحادي والعشرين. كلُّ كتبي المتلاحقة تشهد على ذلك: بدءا من كتاب “مدخل إلى التَّنوير الأوروبيّ” وانتهاء “بالانتفاضات العربيَّة على ضوء فلسفة التَّاريخ” مرورا “بالانسداد التَّاريخيّ” و“معضلة الأصوليَّة الاسلاميَّة” ثمَّ بالأخصّ: “الاسلام والانغلاق اللاَّهوتيُّ”. وسوف أوضّح الاشكاليَّة أكثر في كتاب جديد يصدر قريبا عن دار السَّاقي في بيروت بعنوان: “العرب والبراكين التراثيَّة”. لكن بعض المثقّفين وبالأخصّ الحركيين السّياسيين المسيطرين على وسائل الإعلام يرفضون الاعتراف بذلك ويلقون بالمسؤوليَّة كما العادة على الخارج، على الطليان..وهذه حيلة سهلة لم تعد تخفى حتَّى على العميان..إنَّهم يرفضون الاعتراف بوجود مرض داخليّ ينخر في أحشاء الأمَّة ويضرب في العمق. وهو مرض ليست داعش إلاَّ أحد تجلياته وإن كانت الأكثر شراسة وإجراما. إنَّها الزُّبد الَّذي يرغو على السَّطح. وأمَّا ما تحتها فتوجد قارَّات سحيقة من الفكر العفن الَّذي يغذيها ويوقد نارها. وبالتَّالي فيخطيء من يظنُّ أن المشكلة المتفجرة حاليا ستقتصر على بلاد الشَّام والعراق. ينبغي أن يعلم النَّاس أنَّ الحريق سيمتدُّ لكي يشمل الجميع. ذلك أنَّ المرض مستفحل، عضال. وسوف تصل الأمور إلى مداها الأخير: أي إلى كلّ مكان يحظى فيه الفكر الدَّاعشي بتجذر واحتضان وتعاطف شعبي واسع. هناك سوف تجري المعركة الحقيقية. وبالتَّالي فما نراه الآن ليس إلاَّ مقدمات تمهيديَّة وأكاد أقول تبسيطية لما سيحصل لاحقا: الآتي أعظم! فهذه المشكلة، مشكلة الأصوليَّة الدَّاعشية، مدعومة من قبل عقليَّة جماعيَّة مترسّخة على مدار القرون الانحطاطيَّة وليس فقط منذ القرن الثَّامن عشر أو منذ عام 1928(تاريخ ظهور الوهابيَّة وحركة الإخوان المسلمين تباعا). ثمَّ زادتها استفحالا برامج تعليم طائفيَّة وفضائيات ظلاميَّة وخطب جمعة حامية تصبُّ الزَّيت على النَّار يوميًّا. وكانت النتيجة ما نحصده الآن. فهؤلاء القتلة الَّذين يشعلون العالم من بيروت إلى باريس لم يجيئوا من المريخ ولا من بلاد الأسكيمو والواق واق..وإنَّما هم خارجون من أعماقنا التراثيَّة الدَّفينة.إنَّهم نتاج تربية معينة، وفكر ديني مهيمن، وحاضنة اجتماعيَّة ضخمة. لكن ليس عن كتبي وأفكاري سأتحدّث لكم الآن وإنَّما عن آراء المثقَّفين الفرنسيين بخصوص ما حصل مؤخَّرا في مدينة الأنوار: باريس. فهذه المجزرة الوحشيَّة الَّتي ارتكبت في قلب عاصمة التَّنوير العالميّ ستكون لها انعكاسات وآثار لا يعلم إلَّا الله مداها. وربَّما لن تقلّ خطورة عن ضربة 11 سبتمبر. إذا ما كبرت ما بتصغر! هذا هو فحوى الموضوع من أوَّله الى آخره. وهذه هي فلسفة التَّاريخ الَّتي أنطلق منها لفهم ما يجري حاليًّا. لقد لخصتها بعبارة واحدة أو بكلمات معدودات.



بل لن يقتصر حديثي على المجزرة ولن يكون مجرَّد تحقيق صحفيّ سريع وإنَّما سيتعرض لمشكلة الأصوليَّة الدَّاعشيَّة في جذورها العميقة. كيف يرى كبار مفكري فرنسا هذه الظَّاهرة؟ كيف يحلّلونها ويدرسونها بعد أن وصلت إلى عقر دارهم؟ سوف نفاجأ بأشياء كثيرة إذا ما اطلعنا على أفكارهم. وربَّما أزعجنا بعضها أو خدش حساسيتنا. وربَّما انتفضنا وثرنا أو استشطنا غضبا. وفي كلّ الأحوال فأنا أنقلها هنا لا على سبيل الإعجاب بها أو الموافقة عليها وإنَّما على طريقة: ناقل الكفر ليس بكافر! ذلك أنَّه ينبغي أن نعرف ما يقوله الآخرون عنَّا لكي نتصرف على هدي من أمرنا. هل تريدون أن ندفن رؤوسنا في الرّمال كالنَّعامات؟



الفيلسوف ريمي براغ وأطروحته القديمة - الجديدة عن الإسلام والعنف1



الفكرة الأولى آتية من جهة الفيلسوف ريمي براغ أستاذ فلسفة القرون الوسطى العربيَّة واليهوديَّة في جامعتي السوربون وميونيخ في آن معا. وهو صاحب كتب عديدة مشهورة وإن كان متَّهما من قبل العلمانيين بأنَّه أصولي كاثوليكي أكثر من اللّزوم. ربَّما كان هذا الكلام مبالغة ولكن فيه جزء من الحقيقة. يقول هذا الباحث ما معناه: هل يمكن أن نجد أعمال عنف معينة لدى مؤسّسي الأديان الكبرى؟ بصراحة يصعب علينا أن نجدها لدى بوذا أو المسيح. ولكن للأسف لا نستطيع أن نقول نفس الشَّيء عن نَّبي الإسلام. فالأحاديث النّبويَّة وكتب السّيرة القديمة لابن إسحاق وابن هشام تدلُّ على أنَّه مارس العنف الدّيني أو أمر به. فقد أمر بقطع رؤوس عدَّة مئات من الأسرى. وأمر بتعذيب أمين الخزانة لقبيلة يهوديَّة لكي يدلَّه على مكان وجود الكنز المخبوء. كما وأمر باغتيال ثلاثة شعراء لأنَّهم استهزأوا به. نفتح هنا قوسا اعتراضيًّا ونقول بأنَّ كعب ابن زهير نجا من الموت بسهولة بعد قصيدته الرَّائعة: بانت سعاد
لنستمع إلى هذه الأبيات الخالدة:

نبئت أن رسول الله أوعدني            والعفو عند رسول الله تأميل
مهلا هداك الَّذي أعطاك نافلة ال      
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم           أذنب وقد كثرت في الأقاويل.



وهكذا نجا بجلده بعد توبته الرَّائعة وخلَّف لنا وراءه إحدى أعظم قصائد الشّعر العربيّ..ثمَّ يقول لك ريمي براغ بعد كلّ ذلك بأنَّ النَّبي الأكرم لا يعرف الصفح والرَّحمة. لماذا عفى عنه إذن؟ هل النَّبي داعش يا ريمي براغ؟ عيب وألف عيب! ومع ذلك فسنتابع مع هذا الباحث المتحامل على الإسلام ونعطيه حقَّ الكلام مرَّة أخرى. وهنا نجده يصفعنا صفعا بالكلام التَّالي: ينبغي أن يعلم الجميع بأنَّ العنف مسجَّل في أحشاء الإسلام وفي “جيناته” الوراثيَّة التَّكوينيَّة الأولى! إنَّه جوهر الإسلام كدين. ثمَّ يردف: بالطبع في عصر محمَّد لم تكن هناك صحافة ولا صحافيون. هذا شيء بدهيٌّ. ولكن كان هناك شعراء يقومون بنفس المهمَّة إمَّا مدحا وإمَّا هجاء. وعندما ابتدأ النَّبيُّ يبشّر بالدَّعوة ويشرّع ما هو مباح وما هو محظور إلخ..راح بعض هؤلاء الشُّعراء يستهزئون بكلامه. وهذا ما أزعجه كلّ الازعاج. فقد كان يغفر لمن قاتلوه بحدّ السَّيف، ولكن لم يكن يسمح إطلاقا بأن يشكّك أحد برسالته النَّبويَّة. كان هذا أصعب عليه من القتل أو من تجرَّع السّم الزّعاف. وعندئذ سأل أصحابه: من سيتكفَّل بهم. فتبرع البعض وقتلوهم. قتلوا أولا كعب بن الأشرف اليهوديّ، ثمَّ العجوز أبو عفك، ثمَّ الأمّ المرضعة عصماء بنت مروان. ثمَّ يردف ريمي براغ قائلا: وقصَّة قتلهم ليست من اختراعي وإنَّما هي موجودة في أقدم كتب السّيرة النَّبويَّة: أي سيرة ابن اسحاق. وقد قدم عنها عبد الرحمن بدوي ترجمة عسيرة ولكن كاملة. وقال النَّبي لمن قتلوهم: لم ترتكبوا أيَّ إثم ولا أي جريمة بفعلتكم هذه. وذلك طبقا للآية الَّتي تقول: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى(الأنفال،الآية رقم 17).



ماذا يعني كلُّ ذلك؟ إنَّه يعني أنَّ فعل العنف المعزو للنَّبي الأكرم تحوَّل إلى باراديغم أعظم. أقصد تحوّل إلى نموذج مثالي أعظم للعنف لكلّ العصور اللاَّحقة ولكلّ المسلمين. وبالتَّالي فلا فكاك منه. هذا ما يوحي به كلام ريمي براغ بدليل قوله بأنَّ العنف مسجَّل في “جينات” الإسلام المورثة الأولى. وهذا يعني استحالة شفائنا نحن المسلمين منه. بل ويتوهَّم بعضهم بأنَّ القرآن الكريم هو كتاب عنف من أوَّله إلى آخره! هذا ما يقوله فيلسوف آخر مشهور جدًّا هذه الأيَّام في السَّاحة الباريسيَّة هو ميشيل أونفري. وقد كشف بذلك عن جهل كبير بالكتاب المؤسّس للاسلام. وفضح جهله عدّة باحثين عرب في فرنسا كالدكتور علي بن مخلوف ومالك شبل وآخرين. وقالوا له: إنَّك تحكم على موضوع لا تعرفه جيّدا ولا يدخل في دائرة اختصاصك. وأعتقد أنَّه أدرك غلطته والورطة الَّتي وقع فيها. على أي حال من هنا خطورة الظَّاهرة الدَّاعشيَّة بحسب رؤية ريمي براغ وميشيل أونفري وآخرين كثيرين. فإذا كان النَّبيّ المؤسّس قد ارتكب العنف اللاَّهوتيّ فهذا يعني أنَّ أتباعه سوف يسيرون على سنَّته ونهجه إلى قيام السَّاعة. وهذا شيء مفزع جدًّا ومرعب. إنَّه يعني أنَّنا مدانون “بالعنف المقدَّس” من الأزل وإلى الأبد. إنَّه يعني أنَّنا لن نخرج من المغطس حتَّى بعد مليون سنة!



غنيٌّ عن القول أنّي أختلف تماما مع تحليلات البروفيسور ريمي براغ. ومع ذلك فقد أعطيته حقَّ الكلام على سبيل الموضوعيَّة واحترام الرأي والرأي المضاد. فهناك شكوك كثيرة حول مقتل عصماء بنت مروان. وهناك افتراءات كثيرة على الاسلام في الغرب. وبشكل عام هناك محاولات حثيثة لتشويه صورة النَّبيّ الأكرم. ولكن هيهات! فوالله لن يصلوا إلى كعبه ولا إلى ظفر من أظفاره. فقامته أكبر منهم بكثير. “وإنَّك لعلى خلق عظيم” كما وصفه القرآن الكريم. ألم يقل لأهل مكَّة بعد أن انتصر عليهم وأصبح قادرا على أن يفعل بهم ما يشاء: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟ وهي أشهر عبارة وأجمل عبارة في التَّاريخ العربي. وهي تكشف عن مدى أريحيته وكرم نفسه وتعاليه على الصّغار والصَّغائر. والحقُّ أنَّه لم يوجد شخص أشدُّ رحمة منه وعطفا على المظلومين والفقراء والمساكين وابن السَّبيل.. ولكن منذ القرون الوسطى وهم يحاولون تشويه صورته بشتَّى السُّبل ثمَّ باءت محاولاتهم بالفشل الذَّريع. بالمقابل ينبغي الاعتراف بأنَّ الكثيرين من فلاسفة الغرب وحكمائه أشادوا بعبقرية النَّبيّ واعتبروه واحدا من أعظم الأشخاص الَّذين ظهروا في التَّاريخ وأثَّروا على مسيرة البشريَّة. ولذا أرفض رفضا قاطعا إقامة أيّ مطابقة أو حتَّى أدنى تشابه بين النَّبيّ الأكرم وجماعات العنف الحاليَّة. فالنَّبيُّ محمَّد كان ضدَّ العنف المجانيّ أو العنف من أجل العنف. ولم يلجأ إلى حمل السّلاح إلَّا مضطرا بدليل أنَّه تحمَّل المضايقات والأذى سنوات وسنوات. يضاف إلى ذلك أنَّه أسَّس دينا عالميًّا أدَّى إلى تشكُّل حضارة عظيمة مترامية الأطراف. ولكن هؤلاء القتلة ماذا أسَّسوا من بن لادن والزَّرقاوي إلى البغدادي؟ لا شيء إلَّا العنف الدَّموي والإجرام. لا شيء إلَّا تشويه صورتنا في شتَّى أنحاء العالم. ويدعمني في هذا التَّوجه باحث فرنسي آخر هو البروفيسور اريك جوفروا أستاذ الفكر الاسلاميّ وبالأخصّ التَّصوُّف الاسلامي في جامعة ستراسبورغ بفرنسا. فهو يقول بالحرف العريض: “النَّبي محمَّد ضدّ العنف ولا يدعو أصحابه إلى حمل السّلاح إلَّا في الحالات القصوى ودفاعا عن النَّفس فقط”. “ولا تعتدوا إنَّ الله لا يحب المعتدين”. ولهذا السَّبب كرَّست لأفكار هذا الباحث الفرنسي المحترم دراسة كاملة بعنوان: هل محمَّد التَّاريخي هو ذاته محمَّد الأصوليّ؟ فهي أفضل ردّ على الخصوم. فمن الواضح أنَّ “محمّد الأصولي” أقصد الصورة الأصوليَّة المغلوطة الَّتي شكَّلوها عنه إبَّان عصر الانحطاط تؤيد العنف وتدفع إليه. ولكن محمَّد التَّاريخي- أي الحقيقي - غير ذلك بل ومعاكس لذلك. ولكن من يستطيع أن يميّز هذا عن ذاك في وقت اختلط فيه الحابل بالنَّابل وعمَّ الجَّهل جمهور المسلمين؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-1- أنظر مقالته على الأنترنيت: Remi Brague :Dans les genes de l’islam,l’intolerance

2- - هل يمكن أن نعامل نبيًّا أسَّس دينا عالميًّا وكأنَّه لصٌّ أو مجرم أو من قطَّاع الطرق؟ ينبغي أن نموضع هذه الأحداث الَّتي يشير إليها ريمي براغ ضمن سياقها التَّاريخي الصَّعب في ذلك العصر. فالنَّبيُّ كان مهدَّدا باستمرار من قبل أعداء شرسين والأخطر من ذلك أنَّ الدَّعوة ذاتها كانت مهدَّدة. ومعلوم أنَّها كانت أعزُّ عليه من روحه. كان يخاطر بنفسه من أجلها ولا يسمح لأحد بمسّها لأنَّه كان مفعما بالنُّبوَّة والوحي الإلهيّ. هذا شيء كان يشعر به في روحه، يعتمل في داخله، شيء أكبر منه ويتجاوزه. إنَّها النُّبوة المتفجرة بكلّ بساطة. وهو شيء لا يعرفه إلَّا الملهمون والعظماء الكبار في التَّاريخ: سقراط، أفلاطون، أرسطو، يسوع المسيح، مارتن لوثر مؤسّس البروتستانتيَّة، جان جاك روسو، إلخ. ينبغي أن نفهم تجربة الوحي الَّتي ترجُّ الأعماق لكي نعرف من هو النَّبيُّ محمَّد. وهي نبوَّة نتج عنها الخير العميم: نتجت حضارة بأكملها. لا ريب في أنَّ الرّسالة تجمَّدت وتحنطت لاحقا إبَّان عصور التّكرار والاجترار الطويلة. لا ريب في أنَّها الآن أصبحت عالة على التَّاريخ ولم تعد واعدة بالمستقبل. كلُّ هذا مفروغ منه. ولكن لا ينبغي أن نسقط نهاياتها على بداياتها. ففي العصور الأولى كانت جديدة، طرية، طازجة، تدشّن التَّاريخ. وبالتَّالي فلا ينبغي إطلاقا أن نَّحكم على محمَّد وصحبه الأوَّلين من خلال هؤلاء القتلة المتأخّرين كالزرقاوي والبغدادي وكلّ من اقتنص اسمه واسم رسالته وتفرَّد بها واحتكرها بعد أن انطفأت الرُّوح في عالم الإسلام وانتهى كلُّ شيء..الآن نحن بحاجة إلى رسالة جديدة معاكسة، رسالة الحداثة التَّفكيكيَّة، التَّنويريَّة،التَّحريريَّة..

المصدر: http://www.alawan.org/article14657.html

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ردٌّ على ريمي براغ:
إشادة عباقرة الغرب بالنَّبيّ العربيّ



نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: فولتير، وجورج برنارد شو، وتوماس كارليل، وغوته، وتولستوي، وفيكتور هيغو، ولامارتين، وفي عصرنا الحالي المستشرق الكبير مونتغمري واط وآخرين عديدين. نعم لقد أشاد فولتير في مراحل نضجَّه الفكري بالنَّبي وقال عنه بأنَّ ديانته صارمة، طاهرة، انسانية. يضاف إلى ذلك فضيلة التَّسامح مع الآخرين. وأمَّا جورج برنارد شو في كتابه الإسلام الأصيل أو الاسلام الأولي فقال ما معناه: على الدَّوام كنت أكن احتراما بالغا للدّين الَّذي دعا إليه محمد. لقد درست شخصيّة هذا الرَّجل الرَّائع وتمعنت فيها كثيرا. وفي رأيي- بعيدا عن أي دجل أو نفاق- ينبغي أن يُلقَّب محمَّد بمنقذ الانسانيَّة. وعلى عكس ما يشاع فدينه لم ينتشر بحد السّيف وإنَّما بالاقتناع والإيمان الصادق العميق. أمَّا المفكر الانكليزي توماس كارليل فقال بأنَّ نبي الإسلام كان يتميّز بالصّدق والإخلاص والأمانة. ونضيف من عندنا: هل لولا ذلك كانوا سيلقبونه منذ بداية حياته بمحمَّد الأمين؟ سيماهم في وجوههم.. وهي شهادة تتطابق مع شهادة أخرى أهمّ للحاخام الأكبر لمدينة يثرب عبد الله بن سلول. لماذا؟ لسبب بسيط هو أنَّه شاهد النَّبي شخصيًّا ورآه بأم عينه. يقول ما معناه: حين بلغ محمَّد يثرب إبَّان الهجرة تجمهر النَّاس حوله من كلّ حدب وصوب وكنت من بين الَّذين جاؤوا لاستقباله. وحين أبصرته وتأملت فيه وأصغيت لحديثه أدركت أنَّ وجهه ليس وجه دجال وإنَّما وجه نبي حقيقي. تزداد هذه الشّهادة أهميّة إذا ما علمنا أنَّ التراث الإسلامي يعتبر عبد الله بن سلول كبير المنافقين ومعاديا للإسلام. فكيف لو كان مواليا؟



أمَّا لامارتين فقد كتب نصًّا نثريَّا عنه بعنوان أنهاه بالعبارة التَّالية: من أعظم منك يا محمّد؟ هذا في حين أن فيكتور هيغو كرس له قصيدة مطولة بعنوان: السّنة الجديدة للهجرة.
وأمَّا عن كبير أدباء ألمانيا ومفخرتها غوته فحدث ولا حرج! فقد كان إعجابه بنبيّ الاسلام والحضارة العربيَّة والشّعر العربيّ هائلا. ومعلوم أنَّه كتب أكثر من مرَّة تمجيدا بحضارتنا. أنظر “الدّيوان الشَّرقي”.بل ولم يكن يعارض بأن يقال عنه بأنَّه مسلم! ألم يقل تلك العبارة الرَّائعة: إنّي أبجل تلك اللَّيلة الَّتي أنزل فيها الله القرآن كاملا على نبيّه محمّد؟ لقد أحبَّ غوته التَّعاليم الاسلاميَّة حبًّا جمًّا: كالتَّسامح والتَّآخي والكرم والإيمان الحقّ بالمباديء العليا السَّامية. ولا ننسى المستشرق الانكليزي الشَّهير مونتغمري واط صاحب أكبر سيرة عن حياة النَّبي في لغة شكسبير:محمّد في مكَّة، ومحمّد في المدينة. فقد أفرد فصلا كاملا للتّحدث عن عظمة النَّبي محمّد وخصائله الشَّخصيَّة. فهل لم يسمع البروفيسور ريمي براغ بكلّ ذلك يا ترى وهو الباحث المتبحر في العلم؟ إنَّه لشيء مؤسف أن يتبنَّى الأحكام المسبقة السَّائدة عن الإسلام منذ العصور الوسطى والحروب الصليبية..



من أين جاءت داعش إذن؟
من أين جاءت هذه الطَّامة الكبرى؟



جاءت يا سادة يا كرام من عصور الظَّلام والانحطاط الطويلة. فبعد انهيار الحضارة الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة، وبعد أفول العصر الذَّهبيّ، وبعد إبادة المعتزلة وتكفير الفلسفة جاءت يا سادة يا كرام من عصور الظَّلام والانحطاط الطويلة. فبعد انهيار الحضارة الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة، وبعد أفول العصر الذَّهبيّ، وبعد إبادة المعتزلة وتكفير الفلسفة والفلاسفة، ظهرت داعش الأولى. وبالتَّالي فلا علاقة لها بفجر الإسلام ولا بشخص النَّبيّ عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام ولا بالفتوحات الإسلاميَّة الَّتي كان مهندسها الأكبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بهذا المعنى فداعش هي أكبر عدوّ للإسلام. هل تريدون برهانا على ذلك؟ إنَّه تصريحات جاكلين شابي الاختصاصيَّة العريقة في الدّراسات الإسلاميَّة والبروفيسورة في السوربون وغير المعروفة بتحيزها الشَّديد للإسلام ونبيّه. ولكنّها كمؤرخة محترفة مضطرة للاعتراف بالحقيقة الموضوعيَّة الَّتي يتوصَّل إليها البحث التَّاريخي في نهاية المطاف. وقد فاجأني اعترافها وأثلج صدري عنما اطلعت عليه قبل يومين فقط1.فهي تنقض الأطروحة الشَّائعة بأنَّ الاسلام انتشر بحدّ السّيف والعنف والقتل والدّم وأنَّ داعش ليست إلَّا استمراريَّة لتاريخ الاسلام. وبالتَّالي فلاتؤاخذوها. هل يمكن أن تلوموها لأنَّها ظلَّت مخلصة لخط الإسلام ونبيّه؟ كلّ هذا الكلام تدحضه جاكلين شابي وتشطب عليه بجرَّة قلم وكنت أعتقد أنَّها ستؤيده. من هنا فرحي وانشراحي. وذلك لأنّي أعرف أنَّها من أكبر المطَّلعين على تاريخ الإسلام وكيف نشأ وانبثق وتطوَّر. وبالتَّالي فشهادتها لا تقدر بثمن. وقد كانت أستاذتي يوما مَّا في جامعة السوربون وأعترف لها بالجميل لأنّي تلقيت العلم التَّاريخي الرَّصين على يديها. فهي تقول بالحرف الواحد: “ما تفعله داعش معاكس ومضاد تماما لما حصل إبَّان الفتوحات الإسلاميَّة”.وبالتَّالي فلا وجه للمقارنة بين “تمدد” داعش كما يقال وانتشار الفتوحات. لايوجد أي وجه شبه في الوجه أو الشَّكل أو المضمون..



عندما اطلعت على كلام جاكلين شابي وبعض الاختصاصيين الآخرين قلت: صدق من قال: ما عرف التَّاريخ فاتحا أرحم من العرب! لماذا أقول هذا الكلام الّذي يبدو تبجيليًّا على عكس عادتي؟ لسببين أساسيين: أولا فصل داعش عن الاسلام الحضاري وقيمه الانسانيّة والاخلاقيَّة الَّتي سادت القرون الأولى. وهكذا أسقط المشروعيّة الدينيّة الالهيَّة التَّقديسيَّة عنها. بل ليس فقط عنها وإنَّما عن الإخوان المسلمين وكلّ حركات الإسلام السّياسي أيا تكن. وثانيا لكي أردّ التُّهمة الَّتي تشيع حاليًّا همسا أو صراحة والقائلة بأنَّ الاسلام السُّني مسؤول عمَّا يحصل من فظائع ومجازر. وأنا أقول ليس الإسلام السُّني ككلّ وإنَّما السَّلفيَّة الوهَّابيَّة الدَّاعشيَّة. نقطة على السّطر. أمَّا ما عدا ذلك من المسلمين العقلاء المسؤولين عن أفعالهم وتصرفاتهم والمهذبين المحترمين في أغلبيتهم السَّاحقة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون..يكفي أن تعيش عشرة أيَّام في بلد سنيّ مالكيّ أو حنفيّ أو شافعي وتقارن مع بلد حنبليّ وهَّابي لكي تفهم ما أقول. يقول لنا الباحث الفرنسي بيير كونيزا بعد تفجيرات باريس الإجراميَّة ما يلي: "هناك شيء يدهشني ويصدمني في العمق: نذهب لمحاربة داعش لأنّها تفصل الرُّؤوس عن الأجساد بحدّ السّيف، وتقطع يد السَّارق الجائع للقمة خبز، وتمنع أيّ وجود للأديان الأخرى على ترابها، وتقمع المرأة بل وترجمها بالحجارة، وفي ذات الوقت يقول لنا الباحث الفرنسي بيير كونيزا بعد تفجيرات باريس الاجراميَّة ما يلي: “هناك شيء يدهشني ويصدمني في العمق: نذهب لمحاربة داعش لأنَّها تفصل الرُّؤوس عن الأجساد بحدّ السّيف، وتقطع يد السَّارق الجائع للقمة خبز، وتمنع أي وجود للأديان الأخرى على ترابها، وتقمع المرأة بل وترجمها بالحجارة، وفي ذات الوقت فنحن أصدقاء للدَّولة الوهابيَّة الَّتي تحز الرُّؤوس أيضا بحدّ السّيف، وتقطع يد السَّارق، وتمنع كلّ الكنائس والأديان على أرضها، وتقمع المرأة. فما الفرق إذن؟ لماذا نقاتل هنا ونصادق هناك؟ اشرحوا لي بالله عليكم فأنا غبي لا يفهم!



ثمّ يردف قائلا: ينبغي أن نحدّد هدفنا بدقّة بعد الأحداث المأساويَّة الأخيرة الَّتي أوجعتنا. ينبغي أن نقول بأنَّ عدونا ليس الدّين الاسلامي ككلّ وإنَّما السّلفيَّة الوهابيّة. ينبغي أن نقول بأنَّ هذا التَّأويل المتطرّف للإسلام وتلك الممارسة القروسطيّة الظَّلاميَّة له هي العدوّ. ومن المهمّ جدذًا أن نقول للمسلمين الآخرين بأنّهم غير مستهدفين بعد تفجيرات باريس. إنّهم ليسوا أعداءنا وإنّما أصدقاؤنا. المشكلة هي أنّ هذا الموقف الّذي يضع النّقاط على الحروف ولا يراوغ ولا يخفي الحقيقة يشكل لنا احراجا ديبلوماسيًّا كبيرا مع الدولة الوهابيّة الّتي ولَدت هذا الوحش السّلفي الرَّهيب: داعش. ولكن بعد كلّ ما حصل، بعد كلّ الدّماء الّتي سالت في قلب باريس، فإنَّنا مضطرون لتحديد هويَّة العدوّ بدقّة.



ثمَّ يختتم قائلا:
أشتغل الآن على بحث بعنوان: الدّيبلوماسيّة الدينيّة للمملكة العربيّة السّعوديّة. ولكن مشكلتي هي أنّه لا أحد يموّل هذا البحث على الرّغم من أهميّته القصوى في هذه الظروف”1.



لإيضاح الفرق السّاطع بين تصرفات داعش وقيم الاسلام في فجره الأوّل الصّاعد يكفي أن نذكر مطلع العهدة العمرية. وهي من أشهر النُّصوص السّياسيّة في تاريخ الاسلام وكيفيّة تنظيم العلاقة بين الأديان واحترام الآخر. تقول:



“هذا ما أعطى عبد الله عمر، أمير المؤمنين، أهل ايلياء(أي القدس) من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها. أنَّه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم الخ..”



وانظروا وصية أبي بكر الصديق للفاتحين. إنَّها أشهر من نار على علم. تقول:



“يأيّها النَّاس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلَّا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له..”



أين تصرفات داعش الهمجيَّة من هذا الكلام العالي النَّبيل المدشّن للتَّاريخ؟ أين الثَّرى من الثريا؟ ماذا فعلوا بالمسيحيين في الموصل وشرق سوريا حيث استبيحوا مذعورين وطردوا من ديارهم وأكرهوا على دينهم؟ ماذا فعلوا بالأيزيديين وهو أشدُّ وأبشع؟ وبالتَّالي فهناك إسلام وإسلام: هناك إسلام العصر الذَّهبيّ الأولي/وهناك اسلام عصر الانحطاط السّلجوقيّ العثمانيّ المملوكيّ السّلفيّ الوهابيّ الدَّاعشيّ الخ...وللأسف فهو الَّذي يهيمن علينا اليوم.



لكن الأمانة والدّقة التّاريخيّة تقتضي منّي ألاَّ أكتفي بهذا القدر وإنَّما أن أضيف ما يلي: داعش الأولى ظهرت في عصر الانحطاط والإكراه في الدّين. وهو عصر يؤرّخ له بحدثين أو ثلاثة: الأوّل انقلاب المتوكّل على المأمون حوالي عام 850، والثَّاني تكريس هذا الانقلاب التَّاريخي على يد الخليفة القادر بالله عام 1017 وإصدار نصّ الاعتقاد القادري، والثَّالث انتصار الأتراك السَّلاجقة على البويهيين عام 1055. ومعلوم أنَّ البويهيين كانوا محبَّذين للفلسفة والفكر العقلانيّ. أنظروا الصَّاحب بن عبَّاد وابن العميد إلخ..ينبغي العلم بأنَّ نصّ الاعتقاد القادري كان حاسما في تكريس ما يدعى بالأرثوذكسيَّة أو الأصوليَّة الاعتقاديَّة: أي تلك الّتي تعتقد بأنَّها تمثّل صحيح الإسلام أو “الإسلام الصَّحيح” القويم المستقيم والَّتي لا ينبغي الخروج عنها بأيّ شكل. ومن خرج فهو كافر أو زنديق. هذا النّص فرض بحدّ السّيف أو بجبروت السُّلطة وقريء في جوامع بغداد وقتها. وداعش ناتجة عنه مباشرة. وهو الَّذي أدَّى إلى إبادة المعتزلة. ولكنَّه لم يكن موجَّها فقط ضدَّ المعتزلة وإنَّما ضدَّ الشّيعة أيضا والخوارج بل وحتّى المذاهب السُّنيّة الَّتي تأخذ بالعقل أو الرَّأي والقياس. إنَّه نصٌّ حنبليٌّ بامتياز ووهابيٌّ قبل ظهور الوهابيَّة. وبالطَّبع فكان موجّها ضدّ الفلسفة والفلاسفة ومكفّرا لهما. هذا شيء مفروغ منه. وبالتّالي فالقصَّة قديمة وينبغي أن ننبش على جذورها الدَّفينة لكي نفهم ما يحصل حاليًّا. لا يمكن تحرير الحاضر قبل تحرير الماضي: أي قبل إسقاط هيبته العلويَّة وإزالة الهالة القدسيَّة المحيطة به. هذا شيء علمنا إيَّاه نيتشه وكلّ المؤرّخين المحترفين والفلاسفة الكبار. لكن هذه الأصوليّة الحنبليّة الّتي سيطرت على العالم العربيّ طيلة ألف سنة تقريبا ابتدأت تتصدّع وتنهار أمام أعيننا تحت ضغط الحداثة الفكريَّة والسّياسيّة. والدّليل على ذلك أنّ المثقَّفين العرب أصبحوا يتجرَّأون على دراسة وجود الله كمشكلة فلسفيَّة، أو يتَّخذون مسافة عن المقدّس التَّقليديّ الموروث بكلّ تقاليده وطقوسه اليوميَّة المرهقة (من يصلي خمس مرّات في اليوم وفي مواعيد محدّدة بدقّة؟ من يصوم رمضان من أوّله إلى آخره، ومن غسق الفجر إلى غروب الشّمس؟ من يحجُّ لكي يُفعس بالأقدام ويروح في داهية؟). المقدَّس القديم فقد مفعوله وجاذبيته بل وحتَّى مبرر وجوده على الأقلّ في صيغته الحاليّة. ولكن أكثر النَّاس لا يعلمون. المقدّس الحقيقي الآن هو تحقيق الجنَّة على هذه الأرض أي دولة الحقّ والقانون والمواطنة والازدهار والحريات الفردية كالحب والعشق والتنفس كما فعلت أوروبا لشعوبها. إنَّه يكمن في احترام كرامة الانسان أي إنسان كان بغض النَّظر عن أصله وفصله أو دينه وطائفته ومذهبه. المعيار الوحيد: هل هو طيّب أم لا، مستقيم السُّلوك أم لا، محبٌّ للخير وفاعل له بقدر المستطاع أم لا؟ هل يحبُّ الخير للآخرين مثلما يحبُّه لنفسه أم لا؟ هل هو ناجح ومفيد للمجتمع في مجال اختصاصه ككناس أو فلاح أو فيلسوف أو طبيب أو عامل أو وزير إلخ أم لا؟ المقدَّس الوحيد هو: إعلان حقوق الانسان والمواطن، هو إنهاء حكم التّعسف والاعتباط، هو تأسيس دولة القانون المدنيّة والخروج نهائيًّا أو تدريجيًّا من الدَّولة اللاَّهوتيَّة القروسطيَّة الطَّائفيَّة القديمة. ذلك أنَّ للحداثة مقدّسها! الحداثة حدث روحيٌّ وانشطاريٌّ هائل في تاريخ البشريّة وليست مجرَّد اختراعات صناعيَّة أو تكنولوجيَّة كما نتوهَّم. وبالتَّالي فأمَّا مقدس الحداثة/وأمَّا مقدس الأصوليين. ولكم الخيار. 



بل وأصبح المثقَّفون العرب يطالبون بحريَّة الضَّمير والمعتقد وتسجيلها في الدّساتير كما حصل في تونس مؤخَّرا. وهذه “بدعة” غير مسبوقة في تاريخ الإسلام..تونس دائما رائدة! كما وأصبحت المرأة تتحرَّر أكثر فأكثر من قيود الماضي الَّتي كبّلت بالأغلال أمَّها وجدتها. وأصبحت تقرّر من تعشق ومن لا تعشق ولا يفرض عليها ذلك أبوها أو أخوها أو ولي أمرها. وتحرر المرأة وخروجها من سجن البيت والكهوف المظلمة إلى سوق العمل وتنمية المجتمع كمعلمة أو طبيبة أو مهندسة أو وزيرة إلخ سوف يرعب الأصوليَّة، سوف يدمرها أو يفكّكها. وأصبح المثقّفون العرب يتجرأون على مناقشة الطَّابع التَّاريخي للقرآن وليس فقط الطَّابع المقدّس المتعالي. فهو ذو بعدين لا بعد واحد. وطمس البعد الأول أدى إلى كلّ هذا الانسداد التَّاريخي الَّذي نشهده اليوم. ونحن هنا لا نفعل إلاَّ أن نستعيد تلك الأطروحة الَّتي طمسها الحنابلة على مدار التَّاريخ والمتعلّقة بخلق القرآن. بمعنى آخر فإنَّ المعتزلة انتصروا بعد موتهم بألف سنة! “هناك أناس يولدون بعد موتهم” كما يقول نيتشه. لقد انتقموا من هزيمتهم السَّاحقة على يد الحنابلة. وهو انتقام تاريخيٌّ لا يقدَّر بثمن. وهذا يعني أنَّ الحقيقة قد تموت طويلا، قد تطمس كثيرا، لكنَّها لا تموت. وعندما ينكشف البعد التَّاريخيُّ للقرآن فإنَّ لحظة التَّحرير الهائلة للعرب والمسلمين جميعا سوف تكون قد ابتدأت فعلا. وسوف يشرق كون جديد على العرب. سوف يحرَّر العرب أنفسهم من أنفسهم: أي من ذاتهم الصَّدئة المهترئة على مدار القرون. وهي الَّتي تلبستهم وقمطتهم ولا يستطيعون منها فكاكا. هل تعرفون معنى أن يتحرَّر الانسان من حاله، من ماضيه وأثقاله، من قيوده وأصفاده؟ إنَّه أجمل وأعظم تحرير في العالم. إنَّه انعتاق للرُّوح السَّجينة منذ قرون، انطلاق. ولا يقلُّ أهميَّة عن التَّحرر من الاستعمار إن لم يزد. إنَّه حدث صاعق. زلزلت الأرض زلزالها! لم تروا شيئا بعد أيُّها السَّادة. الآتي أعظم! عندئذ سوف نتمكَّن من فرز الآيات الكونيَّة المتسامحة/ عن آيات “الحدود” أو الآيات الحربيَّة التَّكفيريَّة الَّتي سمَمت علاقتنا مع كلّ أمم الأرض. وعندئذ سينكشف لنا تاريخنا المقدّس لأوَّل مرَّة على وجهه الحقيقيّ. كم ستُعرَى عندئذ من عقائد معصومة تربينا عليها في طفولتنا! كم ستتهاوى من يقينيات جبارة كانت راسخة رسوخ الجبال! هنيئا لمن يعيش حتَّى يشهد ذلك اليوم الموعود..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3- أنظر المقابلة التي أجريت معها مؤخرا على صفحات النوفيل أوبسرفاتور.عدد خاص بعنوان:عودة الحروب الدينية.نوفمبر – ديسمبر 2015
Jacqueline Chabbi :Le retour des guerres de religion. novembre – decembre 2015
-4- أنظر على الانترنيت المقابلة التي أجريت معه بعد تفجيرات باريس بتاريخ 15/11/2015، بعنوان: هدفنا ليس الاسلام وانما السلفية
Pierre Conesa :Notre cible ce n’est pas l’Islam,c’est le salafisme
الترجمة بتصرف
وبيير كونيزا هو أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس وموظف كبير في وزارة الدفاع الفرنسية في آن معا.

المصدر: http://www.alawan.org/article14662.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك