المغرب وجدل المساواة في الإرث

بقلم: عبد الإله إصباح

 

أصدر المجلس الوطنيُّ لحقوق الإنسان بالمغرب تقريرا موضوعاتيًّا حول وضعية المساواة والمناصفة تضمن مجموعة من التَّوصيات الهامَّة منها توصية بتعديل مدوَّنة الأسرة بشكل يمنح المرأة حقوقا متساوية مع الرَّجل في ما يتَّصل بانعقاد الزَّواج وفسخه، وفي العلاقة مع الأطفال وفي مجالات الإرث طبقا للفصل 19 من الدستور والمادَّة 16 من اتّفاقية القضاء على جميع أشكال التَّمييز ضدَّ المرأة. وإذا كان من الطبيعيّ أن تحظى هذه التَّوصيات بترحيب واسع من قبل المنظَّمات النّسائيَّة والحقوقيَّة والقوى الدّيمقراطيَّة والتَّقدميَّة، فإنَّها في المقابل أثارت موجة من الاستنكار والهجوم من طرف القوى الأصوليَّة والأوساط المحافظة والمتطرفة حيث اعتبرتها مسا بأحد الثَّوابت الَّتي لا تقبل نقاشا أو جدالا لأنَّها حسمت حسما قاطعا بالنَّص، وهي بالتَّالي غير قابلة للاجتهاد، إذ لا اجتهاد مع وجود النَّص. وقد ذهب البعض من هذه القوى يخمن في خلفيات إصدار هذه التَّوصيات في الوقت الرَّاهن المتَّسم بتجاذبات سياسيَّة حادَّة، واستدعى في رفضها حقل إمارة المؤمنين كإحدى الرَّكائز الَّتي يستند إليها النّظام القائم في حيازة شرعيته الدّينيَّة، هادفا من وراء ذلك ممارسة نوع من الضَّغط عليه، ودفعه للتَّدخل قصد التَّراجع عن هذه التَّوصيات أو على الأقل تجميدها وعدم تفعيلها.



إنَّ اللاَّفت في هذه التَّوصية هو أنَّ المجلس الوطنيَّ لحقوق الإنسان الَّذي أصدرها هو مؤسَّسة دستوريَّة رسميَّة تمَّ إقرارها في صيغتها الحاليَّة في خضم ديناميَّة حركة 20 فبراير 2011، في إطار نوع من التَّفاعل والتَّجاوب مع مطالب هذه الحركة من قبل النّظام، فتمّ تعيين مناضلين حقوقيين لقيادتها وتدبير شؤونها ورسم خطوط عملها وإستراتيجيتها وفق معايير باريس المتعلّقة بالمؤسّسات الوطنيَّة لحقوق الإنسان. ولذلك فالإقدام على إصدار هذه التَّوصية تحسب ضمن الرَّصيد الإيجابيّ لعمل هذه المؤسَّسة، لأنَّها وهي تصدرها استحضرت فقط البعد الحقوقي للمسالة والتزامات المغرب الدُّوليَّة في هذا الشَّأن، خاصَّة بعد رفعه لكلّ التَّحفظات عن اتّفاقيَّة القضاء على جميع أشكال التَّمييز ضدَّ المرأة. ولا شكَّ أنَّ الإبقاء على عدم المساواة في الإرث لصالح الرَّجل هو أحد أشكال هذا التَّمييز الَّتي نصَّت تلك الاتّفاقيَّة على ضرورة القضاء عليها. فتوصية المجلس تترجم إذن التَّعهُّدات الرَّسميَّة في هذا المجال وتنسجم معها تماما. غير أنَّ بعض اليساريين قلَّلوا من شأن هذه الخطوة بحجَّة أنَّ هناك أولويات ينبغي الاهتمام بها كالتَّوزيع العادل للثَّروة، وإنجاز البنيات التَّحتيَّة الضَّروريَّة والقضاء على الفساد ومحاربة الفقر، وكأنَّ رفع الظُّلم والحيف عن المرأة وتحقيق مساواتها مع الرَّجل في جميع الميادين، وخاصَّة الإرث ليس أولويَّة هو أيضا، بل قد يفوق في أهميته الأولويات السَّابق ذكرها من حيث أبعاده الثَّقافيَّة والحضاريَّة، لأنَّه خطوة جبَّارة على درب التَّحرر من هيمنة قراءة أحاديَّة و منغلقة للنَّص كبلت العقل العربيّ لقرون وشكَّلت أحد معيقاته الأساسيَّة لمعانقة الفكر الحرّ والعقلاني. فإذا تحرَّر هذا العقل من تلك القراءة يمكن إذاك تحقيق الأهداف الأخرى في مدى زمني ملائم، لأنَّ التَّقليد وهيمنة الخرافة على العقول هي الأرضيَّة الحاضنة لكلّ استبداد وفساد، وما يترتب عنهما من فقر وتفاوت طبقي فاضح.



من هذا المنظور إذن ينبغي تقييم تلك التَّوصية والاعتراف بجرأتها على الاقتراب من محظور أصوليّ وزعزعة اليقين الرَّاسخ بقداسته، رغم أنَّه محظور ترسخ بفعل التَّجهيل والمنع ومناهضة العقل.



لقد أرادت القوى الأصوليَّة بهجومها الشَّرس ضدَّ هذه التَّوصية حماية احتكارها لقراءة النَّص واستبعاد أيّ قراءة أخرى مغايرة، معتبرة أنَّ قراءتها تمثّل الحقيقة المطلقة الَّتي لا تقبل الجدال أو المراجعة، وفي تصوُّرها أنَّ الحقيقة في هذا المجال قد حسمت لأنَّها حقيقة إلهيَّة، ولا تقوم هي إلاَّ بترجمتها والحفاظ عليها من كلّ اختراق أو تطاول، ساعية إلى تأييدها وجعلها بداهة غير قابلة للدَّحض. وهاهنا تكمن أهميَّة الخطوة الَّتي أقدم عليها المجلس، باعتبار ما سيترتب عن ذلك من إعادة فتح نقاش في الأسس الَّتي تستند إليها القوى الأصوليَّة في قراءتها للنَّص، وتحريك بركة العقل العربيّ بهذا الخصوص، الَّتي أصبحت راكدة وتراكمت في عمقها طفيليات التزمت والانغلاق.



إنَّ النّقاش العموميَّ للمسائل المرتبطة بالمقدَّس، هو الَّذي يتيح للرَّأي العام الانفتاح على أفكار جديدة ومغايرة كانت محجوبة عليه بسبب الإقصاء وهيمنة الرَّقابة الذَّاتيَّة على الكثير من المثقَّفين والمفكرين. وعندما تأتي المبادرة من جهة رسميَّة، ينبغي استثمار الفرصة والمساهمة في الدَّفع بالنّقاش بما يخدم المنظور الحداثيّ والعقلانيّ ويساهم في تكريسه وإشعاعه بعيدا عن الحسابات السّياسيَّة الضَّيقة الَّتي تبخس من قيمة المبادرة باعتبار مصدرها الرَّسمي، وذلك حتَّى لا تحتسب إيجابيات المبادرة لصالح السُّلطة، مع العلم أنَّ النّضال الحقوقيّ يعتدّ بمراكمة المكتسبات ولا يلتفت إلى من الخاسر والرَّابح من أيّ مبادرة تصبُّ في اتّجاه ترسيخ مبدأ المساواة كمبدأ حقوقيّ كونيّ، هذا دون أن ننسى أنَّ إصدار توصية جريئة من هذا القبيل هو في الواقع نضال حقيقيّ لما يشكّله من مواجهة لقوى سرعان ما تخرج سلاح التَّكفير وما يترتَّب عنه من دعوات مبطنة أو صريحة للقتل وهدر الدّماء.

المصدر: http://www.alawan.org/article14631.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك