حوار المجتمع والسياسة لتنمية الإنسان..!

 

د علي الخشيبان

    بين المجتمع والسياسة يطرح السؤال التالي أيهما يجب أن يتم أولًا تنمية الإنسان عبر ترسيخ وعي حقيقي للحياة، أم تنمية المكان وهو ما يعني توفير البنية التحتية ومقومات النمو للوطن..؟

هذا السؤال ليس فكرة جدلية حول أيهما يجب أن يأتي أولا والسبب أن النتيجة الدائمة للتخلي عن تنمية الإنسان لصالح تنمية المكان تنتج هوة ثقافية بين الإنسان بثقافته وقيمة وعاداته وتقاليده، وبين مقومات التحضر المجلوبة إليه عبر التنمية.

إن فكرة التنمية البشرية والمجتمعية يجب أن تتجاوز الأسلوب البيروقراطي التقليدي نحو فهم الفرد الذي يستقبله القرن الحادي والعشرون بوسائل تقنية وتواصل اجتماعي يتجاوزان كل الأنظمة والقوانين بل حتى القيم

في دول كثيرة ومنها الدول الغنية حيث يتطلب التحول عن القيم السياسية التقليدية وقتا أطول تتغلب التنمية وتطوير البنية التحتية على مثيلاتهما من تنمية الإنسان والمجتمع، ولعل السبب واضح حيث إن توفر الموارد الاقتصادية يساهم في تسريع عملية التنمية ومشروعات البنية التحتية ويأتي بنتائج سريعة.

على الجانب الآخر تظل التحولات المجتمعية في كثير من الدول الغنية مرهونة ببطء التغيير المجتمعي والذي يصاحب التحولات التنموية والتي تحدث في الدول ذات التقاليد السياسية العريقة، لذلك يمكن طرح السؤال التنموي حول آليات إدارة الحوار بين السياسة والمجتمع لتنمية الإنسان وكيف يمكن تحقيق ذلك بهدف تسريع عملية التنمية من اجل التوافق مع التحولات العالمية بعيدا عن مواجهة الفروقات التنموية بين الإنسان الثقافة، وبين والوطن التنمية.

تعاني الكثير من المجتمعات الفاقدة للتنمية البشرية من نقص في القيم الحديثة التي أصبحت من متطلبات العصر ومنها على سبيل المثال تطور المستوى التعليمي والتربوي والوعي والارتقاء إلى ممارسة وتطبيق القيم الإنسانية الرفيعة مثل (الحوار والمشاركة والإيثار والديمقراطية والفضيلة والثقة السياسية..الخ).

الخلل السياسي الذي يعاني منه العالم العربي فيما يخص تنمية الإنسان سببه ذلك التفاوت الكبير بين مستويات الدول من حيث المستوى الاقتصادي بشكل خاص، لذلك لابد من الإيمان بأن الاستقرار في العالم العربي سياسيا واجتماعيا مرتبط بالتوازنات الاقتصادية القائمة بين دوله وهذا لا يعني توزيع الثروات بين الدول بل يعني المشاركة وفق النظريات الاقتصادية والتبادل الاستثماري بين المال والبشر وبين التنمية والأفكار.

إن الحوار بين المجتمع والسياسة بهدف تنمية الإنسان يتطلب الكثير من العمل الثقافي والفكري فنحن ومنذ زمن طويل تركنا المساحة الكبرى للطفرة الاقتصادية من اجل تشكيل مجتمعاتنا بهذه الصورة التي نراها فمجتمعاتنا اليوم هي نتاج الطفرة التي انحسرت خلال العقدين الماضيين بشكل تدريجي ولكنها تعاود الظهور بشكل متدرج مع بداية القرن الحادي والعشرين وهو القرن الذي يجب أن نطلق عليه نحن في دول الخليج قرن الإنسان الخليجي.

الإشكالية الأولى في تنمية الإنسان تتمحور حول التعليم والتربية وظهور الفروقات بين متطلبات المجتمع الثقافية والاقتصادية وبين منتجات المؤسسات التعليمية وخاصة التعليم العام الذي لازال يعاني من استعمار قديم لأفكار تقليدية ساهم في زرعها بشكل راسخ الحركات الصحوية التي اجتاحت مجتمعات عربية كثيرة ومنها مجتمعنا كنتائج وردود أفعال أولية لعصر الطفرة الأول قبل أربعة عقود تقريبا.

الإشكالية الثانية في الحوار بين السياسة والمجتمع حول تنمية الإنسان مرتبطة بالخطاب الثقافي والتراثي وخاصة غياب العقلانية الفاعلة وليس العقلانية الجدلية فالإنسان متلق للخطاب الثقافي في مجتمعه منذ الطفولة، لذلك يمكن القول إن هناك تناسبا طرديا بين الإنسان وبين ثقافته فكلما كانت الثقافة تركز في جوانب دون غيرها ظهر هذا الجانب على الفرد بشكل أكثر وضوحاً.

بمعنى آخر لقد لعب الخطاب الثقافي الصحوي بشكل خاص على تكريس الانفكاك عن العمل الدنيوي وتم تركيز الخطاب الميتافيزيقي الذي يظهر الحياة كعنصر سلبي في مسيرة البشرية ويقلل من قيمتها العملية كمرحلة أساسية في حياة الإنسان.

لقد عمل هذا التثبيط حول الحياة الدنيوية (مع التقصد في تغييب الخطاب التراثي الايجابي الذي يمجد الحياة ويربطها بالعقل والعمل والفاعلية) على إنتاج فئات فردية تسرف في تكريس الرؤية التشاؤمية للحياة وهذا مخالف لرؤية أن تعمل في دنياك كأنك تعيش أبدا.

إن تغيير الخطاب الثقافي في المسار الاجتماعي ليس عملية يمكن أن تنتج من المنظمات أو المؤسسات الديناميكية في المجتمع فالتغيير فعل فردي وفقا للطروحات العلمية في هذا الجانب لأنه فعل عقلي من خلال إرادة الفرد ووعيه العقلي الذي ينشأ لدى الأفراد في المجتمع وهذا يتطلب أن يدار الحوار بين السياسة والمجتمع من اجل التنمية للإنسان من خلال دفع الأفراد الذين تشكل لديهم الوعي بخطاب ثقافي وتراثي متطور يتوافق مع متطلبات الحداثة والتحضر.

إن جَسر الهوة بين الإنسان، وبين مقومات مجتمعه التنموية ليست فعلا ثوريا مجتمعيا بل هي فعل فردي يدعو إليه المتعلمون والمثقفون ورواد الوعي الاجتماعي حيث يعمل هؤلاء على دعم القناعات المجتمعية عبر الأفراد لتحقيق الوعي الكامل بقدرات الإنسان على التوافق والتكامل مع متطلبات التنمية المجتمعية، ولكي تتحقق التنمية البشرية للإنسان في أي مجتمع فإن شرطها الأساسي هو الثقة بالفرد أولا وأخيرا، واستثمار قدراته مهما كانت دون قمع ولكن عبر التوجيه والتعزيز الايجابي للطاقات الفردية الكامنة وترسيخ العقلانية العملية في كل إنسان في المجتمع.

إن تحول الإنسان من مغترب وناقد ورافض لمقومات مجتمعه الحضارية يتطلب أن تعمل مؤسسات المجتمع وخاصة المؤسسات الحكومية لجعل الإنسان هدفاً في استراتيجياتها، بمعنى آخر يجب أن يكون هناك دفع حقيقي جديد بين مرحلة توفير الخدمات للفرد في المجتمع، وبين تعزيز بناء الوعي والارتقاء بذلك الإنسان نحو ممارسة القيم الإنسانية الرفيعة التي يتطلبها وجوده في القرن الحادي والعشرين.

إن سيطرة ثقافة التبعية وعدم الاستقلال الفكري هي التي تجعل من الفرد منتظرا على باب الوصاية أو التوجيه أو الفتوى في بعض الأحيان لكي يقرر في حياته وهذا يعني عدم استقلالية العقل الفردي نحو تشكيل شخصيته الفردية وهذا لا يعني المساهمة في استقلالية الفرد عن تراثه العقدي ولكنه يعني تقديم الخطاب التراثي وتجديده بشكل دوري يتوافق مع تطلعات الفرد في المجتمع.

إن فكرة التنمية البشرية والمجتمعية يجب أن تتجاوز الأسلوب البيروقراطي التقليدي نحو فهم الفرد الذي يستقبله القرن الحادي والعشرون بوسائل تقنية وتواصل اجتماعي يتجاوزان كل الأنظمة والقوانين بل حتى القيم لذلك سوف تظل الإشكالية الأكبر أمام الكثير من المجتمعات هي كيفية التحول من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات متحضرة دون كسر متعمد لقيمها وهذا لن يتم دون حوار سياسي وفكري وثقافي مع الإنسان الفرد وكيان المجتمع..

http://www.alriyadh.com/805217

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك