رياء بلباس الكرم..

 

أيمـن الـحـمـاد

    للمجتمع أمراض تصيبه بفعل عوامل متناقضة بعضها يتعلق بالترف والآخر بفعل البؤس، نراها أكثر وضوحاً وتجلياً وانعكاساً على أخلاق الناس وتصرفاتهم. المشكلة أن تلك الأمراض لا تعطي انطباعاً لمصابيها بأنهم يعانون من عِلّة بل على العكس، فمنهم من يراها دليل صحة وعافية، وهنا تصبح المصيبة أكبر.

في مجتمعنا برزت تصرفات تم إلباسها لبوس الكرم والعطاء والجود والنخوة والجسارة وكلها مع الأسف عكس ذلك تماماً؛ قومٌ يتباهون بالأكل والشرب أمام الناس في مشهد استعراضي مقيت وكريه، لا يمكن لنفس طبيعية استساغته. وبلغ بهؤلاء المرائين المتبجحين بأن يصوروا أكلهم وشربهم وموائدهم وينشروها مستغلين قدرتهم على الوصول إلى نطاق عريض من الجماهير والمتلقين، فما الرسالة التي يريدون إيصالها؟ المشكلة أن ذلك يجري أمام العالم الذي يطل علينا بفعل تكنولوجيا ووسائل الاتصال، وهذا ما يضع تصرفاتنا تحت مجهر التقييم والتقويم، ويضعنا نحن أيضاً معشر المتابعين لهذه المشاهد أمام مسؤولية الشجب والاستنكار لهذه الأفعال، ومنع تداولها وحث النخب ووجهاء العائلات على منع إقامة كل مظاهر البذخ التي ظهرت في مجتمعنا بفعل حالة الرخاء والدعة وهو أمر يستوجب الشكر لا الجحود، فالإسراف أمرٌ نُهينا عنه ديناً وزجرنا عنه مجتمعياً. وعواقب الأمم التي ظهرت فيها مظاهر الإسراف والتبذير قرأناها في القرآن والسنة وسمعناها في أحاديث أسلافنا وأجدادنا.

ألا سأل أولئك آباءهم وأجدادهم عن حجم المعاناة في الكسب والرزق وعن رحلات الموت التي كانوا يخوضونها براً وبحراً لتوفير لقمة العيش، وعن محدودية التنوع في المأكل والمشرب والمركب.

ألا شاهدوا الحاصل في الجوار والمجاعة في "مضايا" وقرى الشام التي كانت مصائف نقضي فيها أيام إجازاتنا وعطلنا لتغدو مدناً للموت والدمار والجوع، على أؤلئك أن يعلموا أن النعم زوّالة وأن العاقل من اتعظ بغيره، وأن مثل هذه السلوكيات لا تورث إلا حقد المحتاج واستهجان الأسوياء من الناس.

لا أحد يكره الكرم والكرماء، ولكن هذه الصفة المحمودة لم تكن يوماً مرادفاً للإسراف ولم يكن التهور يوماً نظيراً للشجاعة، فكلتا الصفتين ورثها مجتمعنا عن آبائه وأجداده الذين كانوا يعيشون حياة بسيطة في تفاصيلها ومكوناتها، ورغم ذلك حضر العطاء والسخاء في حياتهم وسطروا في ذلك أبيات القصائد النبطية والفصحى والحكايات المكتوبة والتراث المحكي الشفوي.

يجب على المجتمع أن يشجب تلك التصرفات، ويقاطع أصحابها ممن يلصقون في أنفسهم صفة الكرم وهم بعيدون عنها، وأن نوقف تداول مقاطعهم التي يعمدون فيها إلى التبجح لإشباع رغباتهم في التباهي والتفاخر، وهذا أقل ما يمكن تجاه تلك التصرفات المشينة التي نراها أشد وطأة من مرض يمكن التداوي منه أو علة يمكن الشفاء منها، والحذر من التهاون بالنعم والإسراف فيها لأن الندم سيكون هو العاقبة والعقاب.

http://www.alriyadh.com/1121702

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك