لا إجماع إلا على أركان الإيمان وأركان الإسلام..!

 

يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

    يؤكد فيلسوف قرطبة، وقاضي قضاتها، ابن رشد الحفيد(توفي عام 595ه)، في كتابه المشهور(فصل المقال، في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، على أنه لا إجماع في المسائل النظرية، وهي تلك المتعلقة بالآراء والمعتقدات والفلسفات وعلم الكلام، وكل ما لا يترتب عليها معاملات أو عبادات. ويستثني ابن رشد من تلك المسائل النظرية، ما يصفها ب(مبادئ الدين وأصوله)، إذ هي مجمع عليها بين المسلمين، رغم أنها مسائل نظرية بحتة.

مبادئ، أو أصول الدين المجمع عليها، كما يقول ابن رشد، هي" الإيمان بالله وملائكته وكتبه، ورسله، والإيمان بالبعث". وهو بهذا الحصر، يشير إلى أركان الإيمان الستة، أو أصول العقائد، التي جاءت خمسة منها، وهي( الإيمان بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر)، في القرآن الكريم، وأضافت السنة المتواترة إليها(الإيمان بالقدر خيره وشره). وهذه الأصول تتفق عليها كافة طوائف المسلمين ومذاهبهم واتجاهاتهم. أما ما استحدث على خلفياتها، من قضايا ومسائل شكلت مسائل علم الكلام، كأسماء الله وصفاته، وكمسألة خلق القرآن، وكالموقف من الصحابة، والإمامة والخلافة، فهي، بالإضافة إلى أنها لم ترد كمسائل نظرية مطروحة للإيمان بها، لا في القرآن ولا في السنة المتواترة، فإنها مما اختلفت بشأنها طوائف الإسلام وفرقهم ومذاهبهم، وتفرقوا فيها شيعاً وآراء. وتشكل هذه الرؤية جانباً من جوانب ثلاثة، شكلت مشروع الإصلاح الديني عند ابن رشد. وهو مشروع لامس ثلاثة جوانب هي: جانب الأصول(أصول الفقه)، وجانب العقيدة، وجانب الفقه.

إن المصيبة التي حلت بالمسلمين إنما كانت نتيجة شبه مباشرة لتحكيم تلك الفروع العقدية المستحدثة في ظل سياقات سياسية ضاغطة، في العلاقة بينهم، فكان أن فرقتهم مذاهب وشيعاً، يبدع بعضها بعضاً، وبل ويكفر بعضها بعضاً، برغم أنهم مجمعون على أركان الإيمان الستة القرآنية النبوية. ولو أنهم اكتفوا بأركان الإيمان فقط، والتي هي مطلب الوحي من ناحية العقيدة، لما اختلفوا أو تناحروا، ناهيك عن أن يقتتلوا!

من ناحية أخرى، نجد أن فقيهاً تجديدياً آخر، لا يقل تجديده الفقهي، عن تجديد ابن رشد في مجال العقيدة، ذلكم هو أبو محمد بن حزم الأندلسي،(توفي 456ه)، يعود لينتقد أصول الشافعي، التي تمثل أصول الاستنباط الفقهي، فيتمخض نقده عن دعوة إلى إلغاء الأصل الرابع من تلك الأصول، وهو(القياس)، بصفته "إنزال حكم أصل على فرع"، وذلك بعد أن سبر اتجاه الفقه إلى تحريم كثير من المستجدات والنوازل، بمجرد قياسها على أصول منصوص على تحريمها. وعلل ابن حزم اقتراحه بإلغاء القياس الفقهي، بأن الفقيه عندما يُنزل حكم أصل على فرع، فإنه يفعل ذلك نتيجة لغلبة ظنه بوجود مشابهة بين الأصل والفرع في علة التحريم التي حرِّم من أجلها الأصل، ومن ثم فالقياس لا يعدو أن يكون ظناً فقط، والظن ليس تشريعاً، إذ الأصل في الأشياء الإباحة. وقد اقترح استبدال القياس الفقهي بالقياس الأرسطي الذي يتألف من ثلاثة حدود يربط بينها حد أوسط يتميز بأنه يقيني، وتتضمنها مقدمتان، أحدهما عقلية، والأخرى مستوحاة من النص، لتنشأ عنهما عند إعمالهما نتيجة قطعية، حٍلاً أو حرمة، وليست نتيجة ظنية، كما تنتهي إليه نتيجة القياس الفقهي. كما دعا أيضا إلى إلغاء الإجماع بصيغته التي دشنها الشافعي، وقال في معرض نقده له: "إن الإجماع بدون نص لا يعدو أن يكون تحريماً لما حلله الله، أو تحليلاً لما حرمه الله". ونتيجة لذلك فقد حصر ابن حزم الإجماع ب"إجماع" الأمة على السنن العملية المشهورة كما نُقِلتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كالعبادات.

ينتج من هذا التجديد الحزمي على مستوى أصول الفقه، أن الإجماع، في مسائل العبادات والمعاملات، لا يكون إلا على أركان الإسلام الخمسة المشهورة، التي أجمع عليها المسلمون، نتيجة لنقلهم لها (عملياً) جيلاً بعد جيل، من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة ثم التابعين، ثم من بعدهم، وهكذا جيلاً بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هاهنا إذن إجماع على أصلين هما: أركان الإيمان وأركان الإسلام. وليس يخرج أحد من المسلمين اليوم عن هذين الأصلين، أو يختلفون فيهما. وإنما اختلفوا على حواش وفروع أستُحْدِثتْ على هذين الأصلين اللذيْن يمثلان الإسلام، كما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم. وللأسف، فلقد غدت تلك الحواشي والفروع هي التي تحكم علاقات المذاهب الإسلامية، بعضها ببعض، وبها يُحكم بالكفر أو بالإيمان على أتباع هذا المذهب أو ذاك، برغم أنها ليست مما جاء به الإسلام العظيم الذي نزل رحمة لغير المسلمين، قبل أن يكون رحمة للمسلمين أنفسهم.

وينبغي أن نعلم كمسلمين أن مقصود الشرع، كما يقول ابن رشد في ذات الكتاب، إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. أما العمل الحق، فهو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، وهو ما يسميه ابن رشد(العلم العملي).

وإذ نعيش نحن المسلمين اليوم بكائيات ونواحات على وقع فتن ورزايا تعصف بحاضرنا، وتهدد مستقبلنا، كونها تمد بسبب إلى إرث عقدي فقهي، يُصنَّفان، في أفضل حالاتهما، على أنهما محض اجتهاد بشري، أصاب مرات، وأخطأ مرات أُخَر، فإن العودة إلى منابع التجديد العقدي والفقهي في التراث، والتي تتميز بفسحة تسامحية وتنويرية رائعة، أصبحت ضرورة لا مناص منها.

نحن، شئنا أم أبينا، نتاج تراث، ومن ثم فإن أي دعوة إلى القطع مع التراث، من شأنها أن تفشل قبل أن تبدأ. لا بد لأي مشروع نهضوي تجديدي، لكي ينجح، أن يحصل له تبيئة تراثية. وليس أصلح لواقعنا اليوم من التبيئة التراثية مع المنابع التجديدية التراثية الرائعة، مثل تجديدية ابن رشد على مستوى العقيدة، وتجديدية ابن حزم على مستوى الفقه: أصولاً وفروعاً.

http://www.alriyadh.com/1025680

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك