فكّر عربياً وأعمل محلياً

د. مشاري بن عبدالله النعيم

    مازال لدي أمل في العروبة والعمل العربي المشترك ومازلت اؤمن بأن المستقبل المشرق لن يتحقق إلا بالعمل العربي المشترك، رغم أن الصورة الحالية قاتمة ولا تبشر بأي خير. ربما يلاحظ الجميع أن الحديث عن "العروبة" بدأ يتراجع ويكاد يختفي وأن الروح الجديدة التي بثها الربيع العربي صارت "نقمة" ومثلت انتكاسة عنيفة وكأن هذه المنطقة مكتوب عليها أن تعيش في دوامة "إيديولوجية" يصعب الخروج منها، فالأزمة التي تخنقنا منذ عقود ناتجة عن تصادم "السياسة" مع "الإيديولوجيا" وهو تصادم يولد تنافر بين كل فئات المجتمعات العربية، يفرق ولا يجمع، خصوصا وأن البعض يدخل موضوع "المسألة الدينية" وما تنتجه من هويات متقاتلة كما نعيشها اليوم حتى أنه أصبح من الصعوبة بمكان رسم خارطة واقعية للوطن العربي.

أرى أننا عندما نفكر «عربيًا» ونعمل على بناء المؤسسات المحلية سيشكل هذا مخرجًا مهماً للوطن العربي كي يعيد بناء هويته المستقبلية التي يجب أن ترتكز على «العمل العربي المشترك»..

بل إن مصطلح "الوطن العربي" أصبح من التاريخ ولم يعد أحد يؤمن به. لن أقول إنني أشعر بحزن من هذا الواقع التعس لكن أقول كما قال الإمام الشافعي:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها... فرجت وكنت أظن أنها لا تفرج...

من بين هذا الركام السياسي والإيدلوجي الذي يولد ثقافات عربية متناحرة ومدمرة هناك من يعمل على المستوى الثقافي لإعادة ترميم هذا البيت المتصدع، فخلال شهر قام المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم/الشارقة) بعقد اجتماعين لممثلي الدول العربية المسؤولين عن حفظ التراث إحدهما في روما والآخر في الشارقة.

لقد أوحت حوارات هذه الاجتماعات بعنوان المقال الذي قد يذكر البعض بعبارة ارتبطت بالعولمة وهي "فكر كونيا وأعمل محليا" لكني أرى أننا عندما نفكر "عربيًا" ونعمل على بناء المؤسسات المحلية سيشكل هذا مخرجًا مهما للوطن العربي كي يعيد بناء هويته المستقبلية التي يجب أن ترتكز على "العمل العربي المشترك".

الجميع يؤيد أن العمل المشترك يجب أن يبدأ من "الثقافة" فهي "بيت الداء" وهي التي تصنع "الأيديولوجيات" المتنافرة والمتصادمة.

هي التي تشكل مواقف التهميش والإبعاد للآخر، ففي حين أن المجتمعات العربية تملك تراثا مشتركا متناغما ومتجانسا نرى أن واقع المجتمعات العربية متنافر ومتناحر داخل الدولة الوطنية الواحدة.

غياب العمل المشترك على المستوى العربي ناتج أصلا من هذا الواقع الغريب التي تعيشه كل دولة عربية منفردة، ففي السابق كنا نحلم بوحدة عربية والآن صرنا قلقين على الوحدة الوطنية في كثير من الدول العربية.

هناك ثقافة تصنع التفتت والفرقة والمجتمعون يرون أن غياب الفهم الواقعي للتراث العربي الحقيقي والإيمان به أحد الأسباب الرئيسية في هذا الشتات العظيم الذي تعيشه المجتمعات العربية.

هل يمكن للتراث أن يصنع وحدة ثقافية وسياسية، هل يمكن له أن يوحد العمل المشترك داخل كل دولة وعلى مستوى العالم العربي؟.

أنا مؤمن بهذا الدور للتراث إذا ما تجاوزنا النظرة الضيقة والإنحياز للتراث الخاص وإذا ما ابتعدنا عن "أدلجة" هذا التراث لأن "التراث المؤدلج" قد يمثل قنبلة موقوته لأن هناك من سيعمل على توظيف كل ما يفرقنا ويشتتنا حتى داخل كل مدينة وقرية وما يجب علينا أن نعمله هو أن نبحث عما يجمعنا ويوحدنا.

بالنسبة لي وقبل حوالي عشر سنوات قدمت ورقة في منتدى الدراسات العربية في المتحف البريطاني في لندن وكان عنوانها ملفتا للبعض وهو: "قيم مشتركة وأشكال مختلفة للتراث العمراني" وكنت أبحث في تلك الورقة عما يجمع ويوحد التراث العمراني السعودي فرغم الاختلافات الظاهرية في الأشكال والتقنيات إلا أن الأساس القيمي والأخلاقي الذي تكون هذا التراث على ضوئه كان متقاربا.

أنا على يقين أن ما يجمعنا في الوطن العربي أكثر مما يفرقنا، وأنا مؤمن مثل غيري في هذا الوطن الكبير أنه من الضرورة أن نضع خلافاتنا الفكرية والسياسية خلف ظهورنا فالعالم يجري للأمام ونحن نقفز قفزا للخلف.

العالم يحتفي بلغتنا العربية (يوم اللغة العربية في 18 ديسمبر) ونحن ندمر كل ما هو عربي.

العالم يتنادى للمحافظة على تراثنا الذي تدمره العقليات الطائفية المتشظية ذات الهويات المتقاتلة ونحن نقف متفرجين على كل ما يحدث حولنا.

ما يحسب للقاء الأخير لمركز الشارقة أنه ركز على أهمية العمل العربي المشترك لحماية التراث وقت الأزمات.

قناعة الجميع أن الاتفاقات الدولية لن تنقذ تراثنا إذا لم نتحرك نحن، والمساعدات الدولية لن تكون أسرع من التدمير الذي تحدثه "أدلجة التراث" التي ينفخ فيها البعض مثل ما ينفخ حامل الكير لينشر السواد في ثقافتنا العربية.

أعود بشكل أساسي لدور المثقف العربي الهش، فقد كان هناك عتب كبير لهذا المثقف السلبي الذي لم يحدث أي تغيير ولم يقاوم التشتت والتشظي ولم يقف أمام الصدام "الأيديولوجي" الذي جعل الدولة الوطنية العربية تواجه التفكك والتقسيم.

المثقف العربي كسول لم يقدم دراسات مقنعة حول التراث تقنع الجمهور العربي ولم يستطع أن يبني ثقافة عميقة ومعاصرة مستمدة مما هو مشترك ومتشابه في تراثنا.

هناك من وصف هذا المثقف بأنه "جبان" و"مداهن" ويسير مع الركب وليس له موقف بالإضافة إلى أنه كسول وغير فعال ويسعى للمجد الشخصي على حساب مجد الأمة.

وبالطبع نقد الذات في حدود المعقول أمر مطلوب خصوصا مع الوضع المؤسف الذي نعيشه لكن يجب أن لا نصل إلى درجة اليأس والإحباط، فمازال هناك مخزون تراثي عميق يمكن أن يساعدنا في بناء واقع وهوية مستقبلية لكل العرب.

لعلي هنا أجيب عن هل التراث يستطيع أن يوحدنا ويجمعنا، وأنا أقول: نعم إذا ما تجازونا العيش في الماضي وأمجاده وركزنا على الجانب القيمي والأخلاقي الذي صنع هذا التراث.

عندما نبحث ونتعلم من نقاط التحول الحضاري في هذا التراث ولماذا حدثت.

لكن يبقى أمر مهم هو الإبقاء والمحافظة على هذا التراث كونه هو المرجع الذي يجمعنا ويوحدنا وقد يأتي من هم أقدر وأفضل منا يعيدون اكتشاف قيمة هذا التراث ليكون ملهما لهم لبناء واقع جديد.

http://www.alriyadh.com/1111137

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك