المعتزلة من الكفر فرُّوا!

بقلم: محفوظ أبي يعلا 

 

“اللَّهمَّ إن كنت تعلم أنّي لم أقصّر في نصرة توحيدك، و لم أعتقد مذهبًا من المذاهب اللَّطيفة إلا لأشدّ به التَّوحيد، فما كان منها يخالف التَّوحيد فأنا منه بريء، اللَّهمَّ فإن كنت تعلم أنّي كما وصفت فاغفر لي ذنوبي وسهّل عليَّ سكرة الموت”ــ إبراهيم بن سيار النّظّام



 المعتزلة فرقة كلاميَّة من الفرق الإسلاميَّة. اختُلِف في تاريخ ظهورها، وفي مؤسّسيها الأوائل. لكن الرَّواية الأكثر شهرة حول ظهور المعتزلة هي اختلاف واصل بن عطاء مـع شيخـه الحسن البصـري حول منزلة مرتكب الكبيرة. فكان البصري يقـول أنَّه ليس بكافر لكن واصل بن عطاء اعترض وقال إنَّه بين المنزلتين، أي ليس بكافر وليس بمؤمـن. وبسبب هذا الاختلاف حول منزلة مرتكب الكبيرة اعتزل واصل بن عطاء و بعض من وافقه على ذلك الرأي ــ اعتزل حلقة الحسن البصري العلميَّة وأقام حلقة جديدة شرح فيها فكرته.



 وبمرور السّنين تطوَّرت فكرة الاعتزال، وأضحت المعتزلة في عهد المأمون مدرسة كلاميَّة كبرى، استطاعت أن تمزج بين الفلسفة اليونانيَّة والدّين الإسلاميّ . فوضعت الأسس الأولى للفكر الفلسفيّ في الإسلام . فمعلوم أنَّ الكندي وهو فيلسوف العرب الأوّل كان معتزليًّا.



وللمعتزلة أصول خمسة تميّزها عن سائر الفرق الكلاميَّة، هذه الأصول هي: التَّوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد و الوعيد، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.



ويعدُّ أصل التَّوحيد من أهمّ الأصول عند المعتزلة على الإطلاق، ذلك لأنَّه أصل مرتبط بجوهر العقيدة الإسلاميَّة، أي بوحدانيَّة الله الَّتي وصل بها المعتزلة لمداها الأسمى فنزَّهوا الله عن أيّ شبه بالمخلوقين.



 لكن رغم تمسُّك المعتزلة بجوهر الإسلام، أي بالتَّوحيد، إلاَّ أنَّهم تعرَّضوا للتَّكفير من طرف خصومهم من التَّيَّار الحنبليّ. فأصبحت المعتزلة، كفرقة كلاميَّة، لا تنتمي لأهل السُّنَّة والجماعة، رغم أنَّها نشأت في حظيرة السُّنَّة، وإنَّما أصبحت فرقة ضالَّة مبتدعة*.



ونحن فـي هذا المقال سنتطرَّق لأصل التَّوحيد عند المعتزلة وعلاقته بمسألة خلق القرآن، وسنحاول الإجابة على الأسئلة التّاليّة : ماذا يعني التَّوحيد عند المعتزلة؟ ما علاقة أصل التَّوحيد بمسألة خلق القرآن؟ وهل كفر حقًّا المعتزلة أم أنَّهم واجهوا الفهم الضَّيق لأصل التَّوحيد؟



إنَّ التَّوحيد عند المعتزلة يعني ممَّا يعنيه أنَّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير، وأنَّه فضلاً عن ذلك لا يوصف بصفات الخلق الدَّالة على حدوثهم، وأنَّه لم يزل أزلا أوّلاً سابقًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، وأنَّه القديم وحده ولا قديم غيره [1].



وحتّى ينسجم المعتزلة مع أصلهم الأكبر التَّوحيد، قالوا أنَّ القرآن مخلوق وليس بقديم. وقد كان بعض خصومهم يقولون أنَّ القرآن قديم، والبعض الآخر يقولون أنَّه كلام الله لا غير، لأنَّه لم يصح أن طرحت مسألة خلق القرآن أو قدمه في زمن الرَّسول أو في زمن الصَّحابة، لذا لا يصحُّ التّفكير فيها.
 وقد ناقش المعتزلة مسألة كلام الله ضمن مشكلة الصّفات، فتسألوا: هل الكلام جسم؟ وهل هو مخلوق؟ واختلفوا فيما بينهم حول هذه المسألة. فقال فريق منهم أنَّ كلام الله جسم، وأنَّه مخلوق، وأنَّه لا شيء إلاَّ جسم. وفريقٌ ثاني زعم أنَّ كلام الله عَرَض، وهو حركة، وأنَّ كلام الله جسم ، وأنَّ ذلك الجسم صوت مقطَّع مؤلف مسموع، وهو فعل الله وخلقه. والفرقة الثَّالثة من المعتزلة يرون أنَّ القرآن مخلوق لله، وهو عَرَض، ورفضوا أن يكون جسمًا، وزعموا أنَّه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد، إذا تلاه تال فهو يوجد مع تلاوته، كذلك إذا كتبه كاتب وُجد مع كتابته، وأيضًا إذا حفظهُ حافظ وجد مع حفظه، فهو يوجد في الأماكن بالتّلاوة والحفظ والكتابة . والفرقة الرَّابعة من المعتزلة يزعمون أنَّ كلام الله عَرَض، وأنَّه مخلوق وأحالوا أن يوجد الكلام في مكانين في وقت واحد، وزعموا أنَّ المكان الَّذي خلقه الله فيه محالٌ انتقاله وزواله منه ووجودُه في غيره. والفرقة الخامسة يرون أنَّ القرآن عَرَض، ويقسمون الأعراض إلى قسمين: قسم منها يفعله الأحياء، وقسم منها يفعله الأموات، ومحال أن يكون ما يفعله الأموات فعلاً للأحياء، والقرآن مفعول، وهو عَرَض، ومحال أن يكون الله فعلَهُ في الحقيقة، لأنَّهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلاً لله، ورأوا أنَّ القرآن فعل للمكان الَّذي يُسمع منه، فإن سُمع من شجرة فهو فعل لها، و حيثما سُمع فهو فعل للمحلّ الَّذي حلَّ فيه. وأمَّا الفرقة السَّادسة من المعتزلة فيزعمون أنَّ كلام الله عرَض مخلوق، وأنَّه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد [2] .



 و ترتيبًا على ما سبق يظهر لنا أنَّ المعتزلة اجتمعت على القول أنَّ كلام الله مخلوق، واختلفت في كونه جسمًا أو عَرَضًا. وإذا كان كلام الله مخلوقًا، وكان القرآن كلام الله، فإذن، القرآن كلام الله المخلوق. ولكن كيف خلق الله الكلام؟ لا يمكن أن يكون الله قد أحدثه في ذاته، لأنَّه إذا تكلَّم خلق صوتًا ( عرض أو جسم )، و أصبحت ذاته بالتَّالي محلاً للحوادث، وهذا لا يصحُّ في حقّه تعالى. ولا يجوز أن يحدث الكلام في “لا محلّ”، لأنَّ الصوت الَّذي هو جسم أو عرض يتطلَّب محلاً يقوم به، فلا يبقى أمامنا إلاَّ أن يحدث الكلام في “محلّ”. وهكذا، فالمعتزلة يرون أنَّ الله يخلق الكلام ويحدثه في محلّ خارجًا عن ذاته العليَّة، و حين يُسمع ذلك الكلام المخلوق فإنَّه يُسمع من المحلّ الَّذي أحدث فيه أو خلق فيه [3] .



 والمعتزلة لم يطرحوا مسألة خلق القرآن من باب التَّرف الفكريّ. بل إنَّهم طرحوا المسألة بعد أن بدأت العقيدة الإسلاميَّة تتعرَّض لانتقادات لاهوتيَّة خطيرة من طرف المسيحيين. فمسألة كلام الله تذكرنا بكلمة الله الّتي هي عيسى. وإذا كان كلام الله قديمًا فمعنى ذلك أنَّه من صفاته تعالى، ولكن الصّفات إذا كانت قديمة أدَّت بنا إلى الإشراك، لأنَّ الاشتراك في القدم يؤدي إلى الاشتراك في الإلهيّة. وقد كان بعض المتكلّمين، في فترة المعتزلة، متأثرين بالمسيحيّة، ولذلك كانوا يقولون أنَّ كلام الله هو الله [4]. وحين يصبح كلام الله هو الله لا يصبح هناك معنى لإنكار المسلمين لألوهيّة المسيح. فالمسيحيون يعتقدون أنَّ الكلمة السّماوية غير مخلوقة، وأنَّها في صدر الأب. ولذلك فالقول بأنَّ القرآن غير مخلوق يضاهي قول النّصارى في المسيح أنَّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.



وعلى هذا الأساس نفهم لماذا قالت المعتزلة بخلق القرآن وأرغمت المسلمين على القول أنَّ القرآن مخلوق. فوحدانيّة الله تقتضي ـ كما رأينا ـ أنَّه قديم وما دونه محدث، وأنَّ القدم أخصّ وصف لذاته الكريمة. لذلك حارب المعتزلة كلّ مذهب أو رأي يرون بعقولهم أنَّه يتعارض مع مبدأ التّوحيد كمسألة قدم القرآن [5]. لقد حمل المأمون والمعتزلة النّاس على القول بخلق القرآن حتّى لا يتغلب النّصارى عليهم بألوهيّة المسيح الّتي أنكرها المسلمون، و حتّى لا يقع المسلمون في الشّرك [6].



 ولهذا عندما سُئل الإمام مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. ويعلّق علاّل الفاسي على هذه العبارة فيقول أنّها كلمة يرددها كثيرًا علماء القرويين في فاس نسبة للإمام مالك. وقد نسبها له الشّيخ الطيّب ابن كيران في شرحه لتوحيد ابن عاشر [7]. وما كان يقصده الإمام مالك بأنَّ المعتزلة من الكفر فروا هو ما بيناه، أي أنّهم قالوا أنَّ القرآن مخلوق تجنُّبًا للشّرك وهروبًا بالتّالي من الكفر.



 هكذا، في الختام، يظهر لنا أنَّ المعتزلة حاولوا إنقاذ الإسلام باعتباره دينا جديدا عقيدته هي التّوحيد، فواجهوا اللاّهوتيين المسيحيّين بالقول بقوّة أنَّ القرآن مخلوق كما أنَّ المسيح مخلوق، وأنَّ الله وحده هو القديم ولا قديم غيره. وبهذا يكون المعتزلة قد خدموا الإسلام أكثر من خصومهم ممَّن كانوا يقولون أنَّ القرآن قديم أو أنَّه كلام الله لا أكثر دون أن يدركوا ما الّذي سيترتَّب عن أقوالهم من نقد لمبدأ التّوحيد الّذي هو جوهر الإسلام.



هوامش وحواشي:



* نسجّل هنا أنَّه حتَّى فرقة الأشاعرة الّتي خرجت من رحم الاعتزال، فمؤسّسها أبو الحسن الأشعري كان معتزليًّا قبل أن ينتقد الإعتزال، هذه الفرقة لم تسلم بدورها من الوصف بأنّها فرقة ضالَّة ومبتدعة رغم أنّها اليوم تحسب من أهل السّنّة والجماعة .
1 ـ يشرح أبو الحسن الأشعري في مؤلّفه مقالات الإسلاميّين قول المعتزلة في التّوحيد، وقد أخذنا منه ما يهمّنا، وممّا يقول في شرحه: أجمعت المعتزلة على أنَّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، و لا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون ..إلخ . انظر: أبي الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين، الجزء الأوّل، تحقيق: محمد محي الدّين عبد الحميد، المكتبة العصريَّة ـ بيروت، طبعة :سنة 1990م، ص : 235 .
2 ـ الأعري ، مصدر نفسه، ص ص ص: 267 ـ 268 ـ 269. 
3 ـ زهدي جار الله، المعتزلة، الأهليّة للنَّشر والتّوزيع، ط 1، ص ص: 77 ـ 78.
4 ـ خصص علاّل الفاسيّ هامشًا كبيرًا في دراسته: نضاليّة الإمام مالك ومذهبه، لمناقشة رأي المعتزلة في خلق القرآن وفي ردّ الإمام مالك على من سأله عن كفر المعتزلة. انظر: علاّل الفاسيّ، نضاليّة الإمام مالك و مذهبه، مجلَّة الإيمان، عدد: 10، ص : 20.
5 ـ زهدي جار الله، مرجع سابق، ص: 61.
6 ـ علاّل الفاسيّ، مرجع سابق، ص: 20.
7 ـ علاّل الفاسيّ، نفسه، ص: 20. 

المصدر: http://alawan.org/article14647.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك