بحثًا عن تفسير لتسونامي الكراهية
بقلم: سمير طاهر
ما بين الهجوم الإرهابيّ الأخير على باريس، وقبله تفجير بيروت، وقبله تفجير الطَّائرة الرُّوسيَّة، وبقية جرائم الإرهاب الإسلامويّ، والاضطهاد العنصريّ للمسلمين في بورما والصين وغيرهما، وموجة العنصريَّة ضدَّ العرب والمسلمين في الغرب عمومًا، واشتعال الصراعات القوميَّة في تركيا وغيرها، و.. و... سنرى كم إنَّ الكراهية بين الشُّعوب، وبين أبناء الشَّعب الواحد، قد تفشَّت بسرعة وبشدَّة لم يسبق لهما مثيل عبر التَّاريخ بحيث تحوَّلت إلى تسونامي لا يبقي ولا يذر. في كلّ بلد تأخذ هذه الكراهية شكلاً وذريعة يناسبانه. وإذا كانت العنصريَّة أحد أشكال هذه الكراهية فإنَّها هي أيضًا تتفرَّع بدورها إلى أشكال مختلفة. فالعداء بين المواطنين بسبب الدّين أو بسبب الطَّائفة داخل الدّين الواحد أو بسبب الهويَّة القوميَّة داخل الوطن الواحد، كلُّها مظاهر مختلفة من العنصريَّة. لم يسلم – إلاَّ نادرًا - أتباع أيّ دين من تسونامي الكراهية هذا. فصرنا نرى أديانًا تحض نصوصها القديمة المقدَّسة على المحبة والتَّسامح يقترف أتباعها اليوم جرائم جماعيَّة بشعة بحقّ “الآخر”. وأصبحت السّياسة تَستثمِر في الصّراعات الدّينيَّة، والأخيرة تَستثمِر في السّياسة، والمال يَستثمِر فيهما معًا، فتنتفخ أرصدة الشَّركات والدُّول الكبرى، وتدور، بل ترقص، دواليب صناعة السّلاح.
ما الَّذي يحصل للبشريَّة؟ ما سرُّ هذه الحمى المجنونة نحو كره البشر بعضهم البعض؟ لم تنقطع محاولات المفكّرين وأطروحاتهم في سبيل فهم هذا الوضع، وكالعادة تضاربت أفكارهم مع بعضها. ولأسباب مفهومة، أخذ التَّفسير السّياسي شعبيَّة كبيرة عندما أرجع هذه الحالة إلى محاولة الولايات المتَّحدة فرض إرادتها على بقيَّة العالم بوسائل من بينها إشعال الصّراعات الدَّاخلية مع ما يرافق هذه العمليَّة من عنف وخسائر. وإذْ لم يكن التَّفسير السّياسي كافيًا لفهم كلّ مظاهر الكراهية الجماعيَّة فإنَّ المنظور الاقتصادي – الاجتماعي يقترح ربط موجة العنصريَّة بالأزمة الرَّأسماليَّة العالميَّة وعواقبها الاجتماعيَّة بما فيها البطالة والمنافسة في سوق العمل. وهناك تفسيرات أخرى ربَّما بعدد البلدان الَّتي شهدت تصاعدًا في هذه الظَّاهرة.
ثمَّة تفسير آخر يضاف في هذا المجال، يطالعنا متسائلاً: هل الكراهية والعنصريَّة حقيقتان أصيلتان أم تعبيران عن حقيقة خفية؟
يلفت هذا التَّفسير انتباهنا إلى أنَّ هذا الطَّابع الجديد لعالمنا، طابع الحروب والفوضى الدَّاخليَّة وصعود العنصريَّة، قد برز ابتداء من عام 2011، سواء في بلداننا كما في بقية مناطق العالم، مشيرًا بذلك إلى أنَّه العام الَّذي وقف فيه السكرتير العام لهيئة الأمم المتَّحدة معلنًا أنَّ سكَّان الأرض قد بلغوا 7 مليارات نسمة. وكأنَّ هذا الاعلان جاء بمثابة ناقوس خطر أرعب النَّاس ودفعهم إلى التَّساؤل فيما إذا كانت موارد الكوكب ستكفي لاعالة كلّ هذه المليارات من البشر؛ فانطلقت روح التَّنافس على الموارد معبّرة عن نفسها بأشكال مختلفة، ومقنَّعة بذرائع مختلفة. فسواء كانت الذَّريعة كراهية عنصريَّة أو تعصبًا دينيًا أو طائفيًا فمضمونها واحد وهو إنَّ مجموعة سكَّانيَّة معينة تريد أن تنفرد بالتَّمتع بموارد البلاد وتقصي مجموعة أخرى من البلاد أو من الحياة برمتها. ففي سياق الصّراع على الموارد يبتكر العقل الحجج المناسبة ويبتكر القادة شعارات جذَّابة، فينجرف الجمهور وراء هذه الحجج والشّعارات باعتبارها الشَّيء الرئيسي وليس غطاءً له.
الدّين، الحجَّة الَّتي يستخدمها المتشدّدون الإسلاميون لتبرير الإرهاب ويستخدمها العنصريون لمحاربة أوتحقير المسلمين، فهو بحدّ ذاته ليس مصدرًا للعنف ولكنَّه يُصَيّر كذلك لتبرير العنف. لم يُعرف حتَّى الآن دين قام على أساس دعوة إلى العنف، ولكن أتباع الأديان وجدوا أنفسهم – على أيَّة حال - يمارسون العنف بدوافع مختلفة. فمصدر الإرهاب الإسلامويّ ليس الدّين (كما يصرُّ عنصريون غربيون وكتاب “علمانيون” عرب) وإنَّما التَّلاعب به. المسألة هنا هي البحث عن أيَّة حجة أخلاقيَّة لإشهارها لتبرير جريمة الاستئثار بحقّ العيش وحرمان آخرين منه. بالطَّبع كان الدّين، بما فيه الطائفيَّة، قد استخدم من قَبْل مرَّات كثيرة شعارًا لتسويغ جرائم القتل الجماعيّ، سواء على يد حكام مسلمين أو مسيحيين، ولكن في معظم تلك الحالات كانت تكمن أهداف ماديَّة مباشرة أو غير مباشرة، فقد انقضى إلى الأبد ذلك الزَّمن الَّذي كان فيه القائد، كما وصف ول ديورانت، يقول لجنوده بكلّ صراحة أنَّه يريد غزو البلد المجاور لكي يستولي على ذهبه الَّذي يحتاج إليه في تزيين قصره؛ ففي حروب اليوم يطلق من الأكاذيب أكثر ممَّا يطلق من القذائف.
باختصار، قد يكون الأصل في الحروب القائمة على الكراهية، وفي العنصريَّة، وفي الإرهاب، هو التَّنافس على موارد الأرض؛ ويقوم العقل بالتَّلاعب بالمعلومات وبالنُّصوص المقدَّسة وبالتَّقاليد السَّائرة لتدبير ذرائع تخفي هذا الأصل. لست أنا – على أيَّة حال - صاحب هذا الاستنتاج وإنَّما هو مفكّر رحل أواخر القرن الماضي. نشر علي الوردي (1913- 1995) رأيه هذا في أواسط القرن الماضي، في ثنايا كتابه لمحات اجتماعيَّة من تاريخ العراق الحديث. وفحوى رأيه “إنَّ العقل في الانسان ما هو إلاَّ عضو كسائر الأعضاء، وهو إنَّما خلقه الله في الانسان لكي يساعده على تنازع البقاء كمثل ما خلق الخرطوم الطويل في الفيل، أو المخالب القويَّة في الأسد (....) إنَّ العقل ليس المقصود منه اكتشاف الحقيقة، أو التَّمييز بين الخير والشَّر، كما كان القدماء يظنُّون، بل المقصود منه اكتشاف كلّ ما ينفع الانسان في الحياة وما يضرُّ خصمه”.