المنهج والمسجد ونبذ التطرف

د. إبراهيم المطرودي

    

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني

كيف نُواجه التطرف؟ سؤال يُطرح بقوة هذه الأيام، ويدفع إلى التفكير فيه أن المفتي العام دعا إلى محاربة التطرف، والتضييق عليه، ودعا إلى مثل دعوته فريق من المشايخ والأكاديميين، وردت دعوتهم في جريدة الرياض، يوم السبت الثالث والعشرين من شهر صفر، وهذه الدعوة وتلك تدلان على الخوف من التطرف، وتسعيان إلى بذل الجهد في مدافعته، ومكافحة شروره.

وأنا في هذا المقال أختصر مشاركتي في جواب هذا السؤال الراهن والصعب قائلا: إن جزءا كبيرا من حل هذا البلاء، ومطاردة أصحابه، والتضييق عليهم، وسد الأبواب إلى مجتمعنا أمامهم؛ نجده في منهج "الدراسات الاجتماعية والوطنية" للصف الثالث المتوسط، ويبقى علينا تعميم هذه الثقافة، والمسارعة في صوغ حياتنا وفقها، ورسم كل مناهجنا ومقرراتنا في ضوئها، وإلزام المساجد وخطبائها بها؛ إذ المساجد تُعد أداة فعالة في نشر هذه الثقافة، وتعميمها بين الناس، فأقوى الأفكار انتشارا، وأوسعها ذيوعا، تلك التي يتبنّاها المسجد، ويشارك في نشرها، خاصة الحرمين الشريفين، وأضعف الأفكار في بلادنا تلك التي تقف مساجدنا في طريقها، وتجري خطب المساجد على غير هداها.

كثيرة أقوال الناس حول الطريق إلى معرفة الأمم، والوعي بحالها؛ فمنهم من يرى الأعياد حجة على الأمة، ودليلا عليها، ومنهم من يرى أماكن العبادة، وما يدور فيها، كاشفة عن الأمة، ومُجلية عن واقعها، ومنهم من يرى التعليم، وما فيه، ناطقا عن وضع الأمة، وما تعيشه، ومنهم من يذهب إلى أن البيئة، وتعامل أهلها معها، دالة على حال الأمة، ومخبرة عنها، ومع أن كل هذه مداخل جزئية في النظر إلى الأمة، ومعرفة حالها؛ إلا أن المساجد، والجوامع منها على وجه الدقة، تُظهران للناس عبر خطابهما الديني حال معظم الأمة، وتُعبران بصدق عن الإطار الثقافي المهيمن فيها، وهذا ما يدعوني إلى المطالبة بنقل ما في هذا المقرر الدراسي، الذي تلقاه طلابنا في مدارسهم، إلى خطاب المساجد، وتمكينه فيها؛ حتى لا تصدر خطبة، ولا تخرج كلمة، ولا تُلقى موعظة، إلا منه، وعلى سمته وطريقته، وبمثل هذا تصبح تلك الثقافة التي بُثت في الكتاب، وأُطعمت به أذهان أبنائنا وبناتنا، نهجا لاحبا، وطريقا واضحا، يدرسه الطلاب والطالبات في مدارسهم، ويسمعونه من خطبائهم وأئمتهم، فمن الاضطراب في الخطاب الإصلاحي، المناهض للتطرف، والمحارب له، أن يدرس أبناؤنا وبناتنا مثل هذا الخطاب، ثم يسمعون غيره في المساجد حين يذهبون إليها، ويُنصتون إلى خطبائها.

في مقرر "الدراسات الاجتماعية والوطنية" الدرس الحادي والعشرين (194 وما بعدها)، وعنوانه "الحوار وتقبل الرأي الآخر"، وفيه فكرتان بهما تحل مشكلة التطرف، ويُقطع دابر أهله؛ غير أن هذا كله لا يقوم إلا بتضافر الجهود، وتعاضد الجميع، تقول الفكرة الأولى: "الاعتراف بالرأي الآخر واحترامه: جعل الله الناس مختلفين في نشأتهم وطبائعهم وثقافاتهم وميولهم؛ لأن الاتفاق والاختلاف أمر طبعي، وهو حق مشروع لكل إنسان! فمن حق الآخرين التفكير بطريقة مغايرة لتفكيرك مثلما لك الحق في ذلك. إذاً: لا بد من تقبل الرأي الآخر بصدر رحب" (195).

يدرس الطالب والطالبة هذه الفكرة، ويُوضحها لهما المعلم والمعلمة، ويخرجان من المدرسة، وينتظران من الواقع خارج جدران محاضن التعليم؛ أن يساعد في ترسيخها، والإقناع بها، فمن البر بمثل هذه الأفكار، المؤسسة لثقافة الانفتاح، أن يقف المجتمع، بكل مؤسساته ومنابره، على رعايتها، والتمثل بها، والتمثيل لها، والانتصار لها حين يخرج عليها بعض الجهلة والعميان، وأولَى المنابر بهذا بيوت الله تعالى الذي جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتهاجوا، ويتسابّوا، ويسخر بعضهم من بعض، والمساجد حين يقوم أئمتها بهذه الوظيفة، ويُسخّرون أنفسهم لها، يؤدون دورين عظيمين؛ أولهما صناعة القدوة للناس في تلك الفكرة، وثانيهما إظهار بيوت الله داعية إلى الحوار والتعارف بين الناس، وهو الهدف الذي يصبو الإسلام إلى نشره في العالمين، ويُعد المسجد من أوائل طرائقه المعدودة، ووسائله المشهورة؛ إذ ينتشر المسجد في هذا العالم كله تقريبا، وفي مقدوره حين يتولى هذه الفكرة، ويضع نفسه من حُماتها، أن يُحدث من التغيير ما يرجوه المسلمون، ويريدون الخلوص إليه، وفي هذا ما فيه من إبطال التهم، وردها على المتهمين الذين يستدلون على دور المسجد في التطرف ببعض الخطب التي تُحرّض على المختلف، وتدعو عليه.

والفكرة الثانية في هذا المقرر (198) تقول: "تقبل الرأي الآخر: يطلق مصطلح الآخر على كل من هو غيرك من بني البشر، ويقصد به أيضا: المجتمعات الإنسانية، بأديانها وحضاراتها وأوطانها: العرب والمسلمون، الشرق والغرب، الأديان والمذاهب، فالآخر شريك في الحضارة، تربطنا به قضايا مشتركة، ونتبادل معه المصالح الضرورية، فلزم التعامل معه وفق الطريقة التي حددها ديننا الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".

ما أروع هذا الكلام، وما أصوبه، وما أدقّه! "الآخر هو غيرك من بني البشر"، تُعطي هذه الفكرة المختلف عنا اسمه الذي يستحقه، والذي يُنتظر منا أن نُطلقه عليه، وبناء عليها فلا نبتدئه بالعداوة اللفظية، ونقابله بالمصطلح المؤذي، ونترقب منه بعد كل هذا أن يُعاملنا بغيره، ويتسامح معنا في لغته، ونحن لم نفعل مثله، ولم نمتثل بما نأمره به.

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني، ونُوجّه أئمة المساجد وخطباءها إلى استعماله، والاكتفاء به، وما لم نسرْ في خطابنا الديني عليه، ونذهب إلى تعميمه في خطابنا التعليمي؛ فلا أظنه قادرا على الانتشار والذيوع، ومستطيعا مواجهة فريق من المتطرفين آثر أن يكون خطابه تشويها لديننا ومجتمعنا.

هاتان الفكرتان قادرتان على الكثير، وجاهزتان في إحداث نقلة نوعية في الإنسان والثقافة؛ متى ما فتّش كل إنسان نفسه بهما، وجعلهما ميزانا لآرائه وأقواله وأفعاله، ومتى ما اتُّخذتا قاعدة عامة في صياغة برامج التعليم ومقرراته، ومتى ما أصبحتا أمام عين كل رجل دين، وإمام مسجد، يريد أن يعظ الناس، ويُؤثر فيهم، وتلك هي طروحتي في محاربة التطرف، وعلاج المصابين به، وتلك هي مشاركتي فيما دعا إليه المفتي العام للبلاد، حفظه الله، وأخشى ما أخشاه أن يتعلّم طلابنا وطالباتنا هاتين الفكرتين في المدارس، ويجدون ما يُعارضهما في بعض بيوت الله تعالى، وعلى ألسنة بعض رجال الدين الذين يُعدون القدوة في نشر مثل هذه الثقافة، والدفاع عنها.

http://www.alriyadh.com/1108349

المنهج والمسجد ونبذ التطرف

د. إبراهيم المطرودي

    

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني

كيف نُواجه التطرف؟ سؤال يُطرح بقوة هذه الأيام، ويدفع إلى التفكير فيه أن المفتي العام دعا إلى محاربة التطرف، والتضييق عليه، ودعا إلى مثل دعوته فريق من المشايخ والأكاديميين، وردت دعوتهم في جريدة الرياض، يوم السبت الثالث والعشرين من شهر صفر، وهذه الدعوة وتلك تدلان على الخوف من التطرف، وتسعيان إلى بذل الجهد في مدافعته، ومكافحة شروره.

وأنا في هذا المقال أختصر مشاركتي في جواب هذا السؤال الراهن والصعب قائلا: إن جزءا كبيرا من حل هذا البلاء، ومطاردة أصحابه، والتضييق عليهم، وسد الأبواب إلى مجتمعنا أمامهم؛ نجده في منهج "الدراسات الاجتماعية والوطنية" للصف الثالث المتوسط، ويبقى علينا تعميم هذه الثقافة، والمسارعة في صوغ حياتنا وفقها، ورسم كل مناهجنا ومقرراتنا في ضوئها، وإلزام المساجد وخطبائها بها؛ إذ المساجد تُعد أداة فعالة في نشر هذه الثقافة، وتعميمها بين الناس، فأقوى الأفكار انتشارا، وأوسعها ذيوعا، تلك التي يتبنّاها المسجد، ويشارك في نشرها، خاصة الحرمين الشريفين، وأضعف الأفكار في بلادنا تلك التي تقف مساجدنا في طريقها، وتجري خطب المساجد على غير هداها.

كثيرة أقوال الناس حول الطريق إلى معرفة الأمم، والوعي بحالها؛ فمنهم من يرى الأعياد حجة على الأمة، ودليلا عليها، ومنهم من يرى أماكن العبادة، وما يدور فيها، كاشفة عن الأمة، ومُجلية عن واقعها، ومنهم من يرى التعليم، وما فيه، ناطقا عن وضع الأمة، وما تعيشه، ومنهم من يذهب إلى أن البيئة، وتعامل أهلها معها، دالة على حال الأمة، ومخبرة عنها، ومع أن كل هذه مداخل جزئية في النظر إلى الأمة، ومعرفة حالها؛ إلا أن المساجد، والجوامع منها على وجه الدقة، تُظهران للناس عبر خطابهما الديني حال معظم الأمة، وتُعبران بصدق عن الإطار الثقافي المهيمن فيها، وهذا ما يدعوني إلى المطالبة بنقل ما في هذا المقرر الدراسي، الذي تلقاه طلابنا في مدارسهم، إلى خطاب المساجد، وتمكينه فيها؛ حتى لا تصدر خطبة، ولا تخرج كلمة، ولا تُلقى موعظة، إلا منه، وعلى سمته وطريقته، وبمثل هذا تصبح تلك الثقافة التي بُثت في الكتاب، وأُطعمت به أذهان أبنائنا وبناتنا، نهجا لاحبا، وطريقا واضحا، يدرسه الطلاب والطالبات في مدارسهم، ويسمعونه من خطبائهم وأئمتهم، فمن الاضطراب في الخطاب الإصلاحي، المناهض للتطرف، والمحارب له، أن يدرس أبناؤنا وبناتنا مثل هذا الخطاب، ثم يسمعون غيره في المساجد حين يذهبون إليها، ويُنصتون إلى خطبائها.

في مقرر "الدراسات الاجتماعية والوطنية" الدرس الحادي والعشرين (194 وما بعدها)، وعنوانه "الحوار وتقبل الرأي الآخر"، وفيه فكرتان بهما تحل مشكلة التطرف، ويُقطع دابر أهله؛ غير أن هذا كله لا يقوم إلا بتضافر الجهود، وتعاضد الجميع، تقول الفكرة الأولى: "الاعتراف بالرأي الآخر واحترامه: جعل الله الناس مختلفين في نشأتهم وطبائعهم وثقافاتهم وميولهم؛ لأن الاتفاق والاختلاف أمر طبعي، وهو حق مشروع لكل إنسان! فمن حق الآخرين التفكير بطريقة مغايرة لتفكيرك مثلما لك الحق في ذلك. إذاً: لا بد من تقبل الرأي الآخر بصدر رحب" (195).

يدرس الطالب والطالبة هذه الفكرة، ويُوضحها لهما المعلم والمعلمة، ويخرجان من المدرسة، وينتظران من الواقع خارج جدران محاضن التعليم؛ أن يساعد في ترسيخها، والإقناع بها، فمن البر بمثل هذه الأفكار، المؤسسة لثقافة الانفتاح، أن يقف المجتمع، بكل مؤسساته ومنابره، على رعايتها، والتمثل بها، والتمثيل لها، والانتصار لها حين يخرج عليها بعض الجهلة والعميان، وأولَى المنابر بهذا بيوت الله تعالى الذي جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتهاجوا، ويتسابّوا، ويسخر بعضهم من بعض، والمساجد حين يقوم أئمتها بهذه الوظيفة، ويُسخّرون أنفسهم لها، يؤدون دورين عظيمين؛ أولهما صناعة القدوة للناس في تلك الفكرة، وثانيهما إظهار بيوت الله داعية إلى الحوار والتعارف بين الناس، وهو الهدف الذي يصبو الإسلام إلى نشره في العالمين، ويُعد المسجد من أوائل طرائقه المعدودة، ووسائله المشهورة؛ إذ ينتشر المسجد في هذا العالم كله تقريبا، وفي مقدوره حين يتولى هذه الفكرة، ويضع نفسه من حُماتها، أن يُحدث من التغيير ما يرجوه المسلمون، ويريدون الخلوص إليه، وفي هذا ما فيه من إبطال التهم، وردها على المتهمين الذين يستدلون على دور المسجد في التطرف ببعض الخطب التي تُحرّض على المختلف، وتدعو عليه.

والفكرة الثانية في هذا المقرر (198) تقول: "تقبل الرأي الآخر: يطلق مصطلح الآخر على كل من هو غيرك من بني البشر، ويقصد به أيضا: المجتمعات الإنسانية، بأديانها وحضاراتها وأوطانها: العرب والمسلمون، الشرق والغرب، الأديان والمذاهب، فالآخر شريك في الحضارة، تربطنا به قضايا مشتركة، ونتبادل معه المصالح الضرورية، فلزم التعامل معه وفق الطريقة التي حددها ديننا الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".

ما أروع هذا الكلام، وما أصوبه، وما أدقّه! "الآخر هو غيرك من بني البشر"، تُعطي هذه الفكرة المختلف عنا اسمه الذي يستحقه، والذي يُنتظر منا أن نُطلقه عليه، وبناء عليها فلا نبتدئه بالعداوة اللفظية، ونقابله بالمصطلح المؤذي، ونترقب منه بعد كل هذا أن يُعاملنا بغيره، ويتسامح معنا في لغته، ونحن لم نفعل مثله، ولم نمتثل بما نأمره به.

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني، ونُوجّه أئمة المساجد وخطباءها إلى استعماله، والاكتفاء به، وما لم نسرْ في خطابنا الديني عليه، ونذهب إلى تعميمه في خطابنا التعليمي؛ فلا أظنه قادرا على الانتشار والذيوع، ومستطيعا مواجهة فريق من المتطرفين آثر أن يكون خطابه تشويها لديننا ومجتمعنا.

هاتان الفكرتان قادرتان على الكثير، وجاهزتان في إحداث نقلة نوعية في الإنسان والثقافة؛ متى ما فتّش كل إنسان نفسه بهما، وجعلهما ميزانا لآرائه وأقواله وأفعاله، ومتى ما اتُّخذتا قاعدة عامة في صياغة برامج التعليم ومقرراته، ومتى ما أصبحتا أمام عين كل رجل دين، وإمام مسجد، يريد أن يعظ الناس، ويُؤثر فيهم، وتلك هي طروحتي في محاربة التطرف، وعلاج المصابين به، وتلك هي مشاركتي فيما دعا إليه المفتي العام للبلاد، حفظه الله، وأخشى ما أخشاه أن يتعلّم طلابنا وطالباتنا هاتين الفكرتين في المدارس، ويجدون ما يُعارضهما في بعض بيوت الله تعالى، وعلى ألسنة بعض رجال الدين الذين يُعدون القدوة في نشر مثل هذه الثقافة، والدفاع عنها.

http://www.alriyadh.com/1108349

المنهج والمسجد ونبذ التطرف

د. إبراهيم المطرودي

    

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني

كيف نُواجه التطرف؟ سؤال يُطرح بقوة هذه الأيام، ويدفع إلى التفكير فيه أن المفتي العام دعا إلى محاربة التطرف، والتضييق عليه، ودعا إلى مثل دعوته فريق من المشايخ والأكاديميين، وردت دعوتهم في جريدة الرياض، يوم السبت الثالث والعشرين من شهر صفر، وهذه الدعوة وتلك تدلان على الخوف من التطرف، وتسعيان إلى بذل الجهد في مدافعته، ومكافحة شروره.

وأنا في هذا المقال أختصر مشاركتي في جواب هذا السؤال الراهن والصعب قائلا: إن جزءا كبيرا من حل هذا البلاء، ومطاردة أصحابه، والتضييق عليهم، وسد الأبواب إلى مجتمعنا أمامهم؛ نجده في منهج "الدراسات الاجتماعية والوطنية" للصف الثالث المتوسط، ويبقى علينا تعميم هذه الثقافة، والمسارعة في صوغ حياتنا وفقها، ورسم كل مناهجنا ومقرراتنا في ضوئها، وإلزام المساجد وخطبائها بها؛ إذ المساجد تُعد أداة فعالة في نشر هذه الثقافة، وتعميمها بين الناس، فأقوى الأفكار انتشارا، وأوسعها ذيوعا، تلك التي يتبنّاها المسجد، ويشارك في نشرها، خاصة الحرمين الشريفين، وأضعف الأفكار في بلادنا تلك التي تقف مساجدنا في طريقها، وتجري خطب المساجد على غير هداها.

كثيرة أقوال الناس حول الطريق إلى معرفة الأمم، والوعي بحالها؛ فمنهم من يرى الأعياد حجة على الأمة، ودليلا عليها، ومنهم من يرى أماكن العبادة، وما يدور فيها، كاشفة عن الأمة، ومُجلية عن واقعها، ومنهم من يرى التعليم، وما فيه، ناطقا عن وضع الأمة، وما تعيشه، ومنهم من يذهب إلى أن البيئة، وتعامل أهلها معها، دالة على حال الأمة، ومخبرة عنها، ومع أن كل هذه مداخل جزئية في النظر إلى الأمة، ومعرفة حالها؛ إلا أن المساجد، والجوامع منها على وجه الدقة، تُظهران للناس عبر خطابهما الديني حال معظم الأمة، وتُعبران بصدق عن الإطار الثقافي المهيمن فيها، وهذا ما يدعوني إلى المطالبة بنقل ما في هذا المقرر الدراسي، الذي تلقاه طلابنا في مدارسهم، إلى خطاب المساجد، وتمكينه فيها؛ حتى لا تصدر خطبة، ولا تخرج كلمة، ولا تُلقى موعظة، إلا منه، وعلى سمته وطريقته، وبمثل هذا تصبح تلك الثقافة التي بُثت في الكتاب، وأُطعمت به أذهان أبنائنا وبناتنا، نهجا لاحبا، وطريقا واضحا، يدرسه الطلاب والطالبات في مدارسهم، ويسمعونه من خطبائهم وأئمتهم، فمن الاضطراب في الخطاب الإصلاحي، المناهض للتطرف، والمحارب له، أن يدرس أبناؤنا وبناتنا مثل هذا الخطاب، ثم يسمعون غيره في المساجد حين يذهبون إليها، ويُنصتون إلى خطبائها.

في مقرر "الدراسات الاجتماعية والوطنية" الدرس الحادي والعشرين (194 وما بعدها)، وعنوانه "الحوار وتقبل الرأي الآخر"، وفيه فكرتان بهما تحل مشكلة التطرف، ويُقطع دابر أهله؛ غير أن هذا كله لا يقوم إلا بتضافر الجهود، وتعاضد الجميع، تقول الفكرة الأولى: "الاعتراف بالرأي الآخر واحترامه: جعل الله الناس مختلفين في نشأتهم وطبائعهم وثقافاتهم وميولهم؛ لأن الاتفاق والاختلاف أمر طبعي، وهو حق مشروع لكل إنسان! فمن حق الآخرين التفكير بطريقة مغايرة لتفكيرك مثلما لك الحق في ذلك. إذاً: لا بد من تقبل الرأي الآخر بصدر رحب" (195).

يدرس الطالب والطالبة هذه الفكرة، ويُوضحها لهما المعلم والمعلمة، ويخرجان من المدرسة، وينتظران من الواقع خارج جدران محاضن التعليم؛ أن يساعد في ترسيخها، والإقناع بها، فمن البر بمثل هذه الأفكار، المؤسسة لثقافة الانفتاح، أن يقف المجتمع، بكل مؤسساته ومنابره، على رعايتها، والتمثل بها، والتمثيل لها، والانتصار لها حين يخرج عليها بعض الجهلة والعميان، وأولَى المنابر بهذا بيوت الله تعالى الذي جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتهاجوا، ويتسابّوا، ويسخر بعضهم من بعض، والمساجد حين يقوم أئمتها بهذه الوظيفة، ويُسخّرون أنفسهم لها، يؤدون دورين عظيمين؛ أولهما صناعة القدوة للناس في تلك الفكرة، وثانيهما إظهار بيوت الله داعية إلى الحوار والتعارف بين الناس، وهو الهدف الذي يصبو الإسلام إلى نشره في العالمين، ويُعد المسجد من أوائل طرائقه المعدودة، ووسائله المشهورة؛ إذ ينتشر المسجد في هذا العالم كله تقريبا، وفي مقدوره حين يتولى هذه الفكرة، ويضع نفسه من حُماتها، أن يُحدث من التغيير ما يرجوه المسلمون، ويريدون الخلوص إليه، وفي هذا ما فيه من إبطال التهم، وردها على المتهمين الذين يستدلون على دور المسجد في التطرف ببعض الخطب التي تُحرّض على المختلف، وتدعو عليه.

والفكرة الثانية في هذا المقرر (198) تقول: "تقبل الرأي الآخر: يطلق مصطلح الآخر على كل من هو غيرك من بني البشر، ويقصد به أيضا: المجتمعات الإنسانية، بأديانها وحضاراتها وأوطانها: العرب والمسلمون، الشرق والغرب، الأديان والمذاهب، فالآخر شريك في الحضارة، تربطنا به قضايا مشتركة، ونتبادل معه المصالح الضرورية، فلزم التعامل معه وفق الطريقة التي حددها ديننا الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".

ما أروع هذا الكلام، وما أصوبه، وما أدقّه! "الآخر هو غيرك من بني البشر"، تُعطي هذه الفكرة المختلف عنا اسمه الذي يستحقه، والذي يُنتظر منا أن نُطلقه عليه، وبناء عليها فلا نبتدئه بالعداوة اللفظية، ونقابله بالمصطلح المؤذي، ونترقب منه بعد كل هذا أن يُعاملنا بغيره، ويتسامح معنا في لغته، ونحن لم نفعل مثله، ولم نمتثل بما نأمره به.

هذ المصطلح (الآخر) حين يصبح عاما، ويدخل قاموس الناس اللغوي، ويدرج إلى ألسنتهم، وتُقبل عليه قلوبهم، سيكون أحد طرائق محاربة التطرف، وإقصاء أهله، وإفشال خطابهم، وهو محتاج منا، إن أردنا نصرته، والوقوف معه، أن نتخذه في خطابنا الديني، ونُوجّه أئمة المساجد وخطباءها إلى استعماله، والاكتفاء به، وما لم نسرْ في خطابنا الديني عليه، ونذهب إلى تعميمه في خطابنا التعليمي؛ فلا أظنه قادرا على الانتشار والذيوع، ومستطيعا مواجهة فريق من المتطرفين آثر أن يكون خطابه تشويها لديننا ومجتمعنا.

هاتان الفكرتان قادرتان على الكثير، وجاهزتان في إحداث نقلة نوعية في الإنسان والثقافة؛ متى ما فتّش كل إنسان نفسه بهما، وجعلهما ميزانا لآرائه وأقواله وأفعاله، ومتى ما اتُّخذتا قاعدة عامة في صياغة برامج التعليم ومقرراته، ومتى ما أصبحتا أمام عين كل رجل دين، وإمام مسجد، يريد أن يعظ الناس، ويُؤثر فيهم، وتلك هي طروحتي في محاربة التطرف، وعلاج المصابين به، وتلك هي مشاركتي فيما دعا إليه المفتي العام للبلاد، حفظه الله، وأخشى ما أخشاه أن يتعلّم طلابنا وطالباتنا هاتين الفكرتين في المدارس، ويجدون ما يُعارضهما في بعض بيوت الله تعالى، وعلى ألسنة بعض رجال الدين الذين يُعدون القدوة في نشر مثل هذه الثقافة، والدفاع عنها.

http://www.alriyadh.com/1108349

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك