ظاهرة العنف من منظور الثقافة السياسية
محمد محفوظ
الممارسة السياسية لا يمكنها أن تحقق انتصارات كاسحة على الطرف أو الأطراف السياسية الأخرى.. ومن يمارسها بعقلية الانتصارات الكاسحة، سيلجأ إلى ممارسة العنف والذي بدوره، سيستدعي عنفا مقابلا.. وبهذا تتحول الطموحات السياسية، إلى عنوان لممارسة العنف في الفضاء الاجتماعي..
لا ريب أن ظاهرة العنف بكل مستوياتها، نتاج عوامل وأسباب عديدة.. ولا يمكن إدانة العنف لإنهائها، إلا بإعطاء تفسير علمي واجتماعي دقيق وواقعي، لطبيعة العوامل والأسباب التي تشكل بشكل مباشر ظاهرة العنف بكل مستوياتها..
وحين التأمل في طبيعة وخيارات الثقافة السياسية السائدة في المنطقة العربية، ندرك أن هذه الثقافة وخياراتها وطبيعة نظرتها للسلطة السياسية ودور قوى المجتمع وتعبيراته المتنوعة، هي أحد العوامل الأساسية لإنتاج ظاهرة العنف.. بمعنى أن السياسة كممارسة وخيارات، هي على المستوى المبدئي القادرة على تفكيك موجبات العنف، وهي القادرة على معالجة الملفات الشائكة في أي بيئة اجتماعية، بعيدا عن خيارات العنف ومتوالياته المباشرة ذات الطبيعة الاستئصالية..
ويبدو أنه بدون تغيير أو تجديد نمط الثقافة السياسية في المنطقة العربية، فلن يتمكن العرب الانعتاق من ظاهرة العنف.. وثمة أسباب عديدة لهذه المسألة، إلا أن من أهم هذه الأسباب النقاط التالية:
السياسة ممارسة وحشية أم مدنية:
لو تأملنا قليلا في طبيعة ومعنى السياسة في المنطقة العربية، لوجدنا أن هذا المعنى ولوازمه العملية، هو الذي يساهم في إنتاج ظاهرة العنف.. وإن هذا المعنى غير قادر على معالجة هذه الظاهرة، وإن الممارسات السياسية المتبعة تساهم في تأجيج كل العوامل المفضية إلى العنف الرمزي أو المادي..
فالسياسة في أغلب دول المنطقة العربية، لا تمارس بوصفها حقلا مدنيا وبعيدا عن أحن التاريخ والنزعات الأيدلوجية الصارخة.. وإنما تمارس وكأنها حقل وحشي، لذلك فإنها تتوسل بوسائل غير مدنية لإدارة مصالحها أو منع تجاوزها.. لذلك تغيب من أغلب المجتمعات العربية فكرة التنافس السياسي السلمي والبعيد عن نزعات الخصومة والعداء..
ووفق هذه الممارسة نتمكن من القول إن الممارسة السياسية في أغلب دول العالم العربي، تساهم في إنتاج ظاهرة العنف بالمستويين الرمزي والمادي.. وإنه ما دام التعامل مع السياسة بعيدا عن مقتضيات المدنية والسلمية فإنها لا تنتج إلا العنف.. ولن نتمكن من إنهاء هذه الظاهرة الخطيرة على الممارسة السياسية وكذلك على المجتمع بكل دوائره ومستوياته، إلا بتأسيس الممارسة السياسية والتنافس السياسي بين التعبيرات والمكونات السياسية على قاعدة أن هذه الممارسة تجري في سياق النشاط المدني والذي يدير كل الممارسات السياسية بعيدا عن نزعات الإلغاء والإقصاء والتوحش..
ولو تأملنا في البواكير الأولى لنشوء ظاهرة العنف في المنطقة العربية، لوجدنا أن الحاضنة الأساسية والفعلية لهذه البواكير، هي نزعات التوحش في الممارسة السياسية والتي حولت البعض من موقع من يطمح إلى خدمة مجتمعه وأمته وانطلاقا من النشاط السياسي – المدني، إلى اللجوء إلى العنف كردة فعل على ما تعرض إليه من عنف نفسي وجسدي، انهى من تفكيره إمكانية العمل السياسي من دون دفع الفاتورة العالية لهذه الممارسة..
وستبقى السياسة وممارساتها من أهم الحواضن المساهمة والمنتجة لظاهرة العنف المادي والرمزي.. فتحولت السياسة إلى فضاء لممارسة كل أشكال الخصومة والتوحش، للظفر بالهدف الذي تسعى إليه سواء أكانت فردا أم مؤسسة أم دولة.. ويبدو أنه بدون تحويل السياسة من حقل لممارسة كل أشكال التوحش، إلى حقل مدني تمارس فيه السياسة بوسائل تنافسية سلمية، وتتوسل في كل أهدافها وغاياتها بوسائل سلمية وبعيدة كل البعد عن العنف الرمزي أو المادي، فلن تتمكن المجتمعات العربية من معالجة ظاهرة العنف السياسي..
فالسياسة ليست حقلا للقتل والاغتيال أو ممارسة العنف المادي للوصول إلى الأهداف السياسية.. فالسياسة كممارسة تدبيرية في المجتمعات، هي بمثابة فن صناعة الخير العام.. ولا يمكن أن يصنع الخير العام في أي بيئة اجتماعية بوسائل عنفية وقسرية.. وإنما يتحقق مفهوم صناعة الخير العام، كلما تلتزم السياسة فكرا وممارسة بالثقافة المدنية ومقتضياتها القانونية والدستورية والثقافية..
ونحسب أن من مآزق العالم العربي الراهنة، هو التعامل مع السياسة، ليس بوصفها ميدانا للتنافس المدني والذي لا يتعدى حدود المدنية والإنسانية، وإنما بوصفها حقلا للتوحش وممارسة القوة بعيدا عن العقل والضوابط القانونية والأخلاقية..
لهذا تغيب في العديد من المجتمعات العربية القدرة على التسوية أو الحلول الوسطى، التي تراعي جميع الأطراف، وتعمل على ضمان حق جميع الأطراف..
الممارسة السياسية لا يمكنها أن تحقق انتصارات كاسحة على الطرف أو الأطراف السياسية الأخرى.. ومن يمارسها بعقلية الانتصارات الكاسحة، سيلجأ إلى ممارسة العنف والذي بدوره، سيستدعي عنفا مقابلا.. وبهذا تتحول الطموحات السياسية، إلى عنوان لممارسة العنف في الفضاء الاجتماعي..
السياسة كممارسة هي فضاء للتعاون والتحالف والتضامن مع الآخرين، وليست فضاءا للتناكر والتباعد، وغرس الأحقاد بين الناس.. فكل الممارسات السياسية التي تمارس بذهنية التناكر وغرس الأحقاد، ستساهم في إنتاج ظاهرة العنف..
أما الممارسات السياسية التي تمارس بعقلية التعاون والتضامن والتحالف فإنها تعزز الثقافة المدنية والتعامل المدني مع السياسة فكرا وممارسة..
وعليه فإن الثقافة السياسية التي تغلب قيم التباعد والتناكر بين الناس أو أبناء الوطن والمجتمع الواحد، فإن هذه الثقافة السياسية تتحمل مسؤولية مباشرة في إنتاج ظاهرة العنف السياسي..
أما الثقافة السياسية التي تغلب قيم التواصل والتعاون وتنمية المشتركات وتعزز النسيج الاجتماعي وتعمل على زيادة وتيرة التلاقي والتفاهم بين الناس فإنها ثقافة سياسية، تساهم بشكل مباشر في إنتاج الثقافة المدنية وتعزيز الخيار المدني في المجتمع..
وتأسيسا على هذه الرؤية نتمكن من القول: إن المنطقة العربية تعاني من أزمات ومشكلات عديدة، وإنه لا يمكن معالجة هذه الأزمات والمشكلات، إلا بتغيير الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية..
وبوابة هذا التغيير والتجديد، هي تغيير معنى السياسة والممارسة السياسية.. فالسياسة ليست ممارسة للقهر وزيادة التوترات والمشكلات بين الناس، بل هي ممارسة لزيادة وتيرة التفاهم والتلاقي بين الناس، وتنمية الخير بكل مستوياته في المجتمع.. والاستناد في كل هذه الممارسات على قناعة عميقة وينبغي أن تكون ثابتة في الثقافة السياسية.. ومفادها الجوهري هو أنه كلما تبتعد هذه الثقافة عن المعنى المتوحش في ممارسة السياسة، فإن هذا المجتمع سيكون أقرب إلى الصلاح في كل شيء.. أما إذا مورست السياسة بذهنية التوحش فإنها ستكون مصدرا للكثير من الشرور في المجتمع..
وخلاصة الأمر: إن إنهاء ظاهرة العنف السياسي من فضائنا العربي، يتطلب العمل على تبديل أسس ومرتكزات الثقافة السياسية، بحيث لا تكون مصدرا لإنتاج العنف بكل مستوياته في المجتمع.