الفلسفة الإلحادية (المادية) وتفكيك الإنسان

سلمان بونعمان

تحولات المفكرين نحو الإيمان

نقد النموذج المعرفي المادي عند المسيري (1-2)

شكل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، حالة متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية، ليس فقط بالنظر إلى شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة، ولكن بالنظر أساسا إلى أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي.

لقد كان رحمه الله صاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بتعدد أبعاد مشروع التأسيس الحضاري في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع، مما جعله يطور مشروعا فكريا تجديديا منهجيا له امتدادات إيمانية وإنسانية، بما يمتلكه من أدوات معرفية في صياغة وصقل جوانب أساسية في هوية الحضارة العربية الإسلامية.

ويعد المسيري أحد أبرز المهتمين بالقضايا المعرفية والمنهجية، حيث طور دراسة النماذج المعرفية وتعمق في دراسة الفكر الغربي والحضارة الغربية، من خلال بناء معالم منهجية ابستيمية في التعامل مع التراث الإنساني عموما والتراث الغربي خصوصا، تعاملا علميا ونقديا يستوعب إيجابياته ويتجاوز قصوره وسلبياته، مستخدما آلية النقد والتفكيك والتركيب من الداخل، بما يمنح القدرة على تحسين الأداء النظري والتفسيري لعلم اجتماع المعرفة في محاولة إدراك الواقع بشكل أكثر تركيبا، دون الاستنامة للمقولات الاختزالية العامة والجاهزة.

لقد جسدت مسيرة عبد الوهاب المسيري مسار الباحث المهموم بشؤون العلم والمعرفة والمحترق بنار الأسئلة القلقة والإشكالات المركبة؛ حيث شهدت رحلته الفكرية منعطفات مفصلية وتحولات عميقة دالة، ابتدأت بالمسيري التقليداني والمحافظ إلى المسيري القومي الساذج، مرورا بالانتماء إلى الإخوان المسلمين ثم  تبني الماركسية لتتوج  بالارتباط بالإسلام المتحرر والمنفتح واعتماده أرضية للاجتهاد والنهضة الحضارية؛ والغريب في كل هذه التحولات الحادة، أن الرجل وهو يتحول إيديولوجيا لم يتحول سلوكيا وقيميا، فقد ظل شخصا محافظا ومستقيما، بل حتى فترة شيوعيته وصفها بأنها كانت "ماركسية على سنة الله  ورسوله".

يقول المسيري في ذلك:"(...) بدأت مسيرة الإلحاد، ورغم أنني في ذلك الوقت لم أكن أؤمن بالله، إلا أنني كنت أؤمن بالقيم المطلقة للإنسان والقيم المطلقة للأخلاق، وكان هذا الإيمان بالمطلقات يتنافى مع الإلحاد الكامل، وهو إيمان بثوابت ومنطلقات لا يمكن أن تستند إلى عالم المادة وعالم الطبيعة، ولكنها تستند إلى الله، ويمكن القول أن هذه الفترة يمكن أن نسميها مرحلة التساؤل العميقة"(1) (...) لقد التحقت في بداية حياتي لفترة قصيرة بـ"الإخوان المسلمين" في مرحلة الصبا، ثم اتجهت إلى الماركسية، وعشت مرحلة من الشك ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عاما عدت مرة أخرى إلى الإسلام لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية، فرغم التحولات التي مررت بها، فإن مكونات رؤيتي وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج. فجوهر رؤيتي للعالم أن الإنسان كائن فريد وليس كائنا ماديا"(2) .

ويضيف المسيري:"إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية"؛ إنها "سيرة إنسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام"(3) .

ويعبر المسيري عن ذلك في سيرته الذاتية والفكرية قائلا: "ومما ساعد على تعميق شكوكي بخصوص النموذج المادي الغربي، دراستي للحركة الرومانتيكية، فهي في جوهرها كانت ثورة على الفكر العقلاني المادي الآلي الذي ساد في أوربا في القرن الثامن عشر بعد ظهور البورجوازية واقتصاديات السوق والتبادل والتجارة الحرة (دعه يمر) وهيمنة أسطورة أن حركة السوق حركة آلية تلقائية تؤدي إلى خدمة الصالح العام للجميع: التجار-المستهلك –العامل، هذا لو تركت الأمور وشأنها. وهي رؤية مغالية في الفردية ومغالية في الذرية تطورت فيما بعد لتصبح النظرية الداروينية. أدرك الشعراء الرومانسيون وحشية هذه الرؤية واختزاليتها، فهي لا ترى الإنسان بحسبانه كائنا حضاريا مركبا له قلب وعقل، وحواس ووجدان، وإحساس بذاته وبالآخر، فرد لكنه يكتسب إنسانيته من جماعته وحضارته، يعيش في المقدس وغير المقدس، وإنما تراه بحسبانه إنسانا طبيعيا يعيش بمفرده له حاجات مادية وخاضع لقوانين معروفة مسبقا.والحركة الرومانتيكية هي محاولة لرد الاعتبار لتركيبية الإنسان أمام اختزالية العقلانية المادية الآلية"(4) .

من يقرأ للمسيري عن المادية سيجد عنده نزعة موغلة في الاتجاه الإنساني نظرا لسيطرة المادة على الواقع الإنساني وتفكيكها له، فقد أثار المسيري  في دراساته للنموذج المعرفي المادي إشكالات مركبة، يمكن رصدها من خلال طرحه الأسئلة المنهجية الحارقة الآتية:

ما هي علاقة الإنسان بالمادة؟ وهل الإنسان كائن مادي وحسب؟ وما هو مفهوم التفكيك الذي تدعو إليه الفلسفة المادية؟ وما هي المرجعية التي تشكل أفكار الإنسان؟ ويرجع إليها كل أساس فكري ؟ وهل يمكن وصفها بالإطلاق؟

ـ هل يمكن تعميم قوانين العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية ؟ وهل يمكن تفسير الظواهر الإنسانية كمياً كما هو الحال في العلوم الطبيعية؟ ولماذا تنكر الفلسفة المادية النموذج الكلي؟

ـ ما هي نظرية الحقوق الجديدة التي دعت إليها الفلسفة المادية؟ وما هو دور القيم في الإطار الفلسفي المادي؟ وهل استطاعت الفلسفة المادية إخراج الإنسان من أزماته؟

يمكن تصنيف هذه الدراسة بأنها محاولة في تعريف الفلسفة المادية وسر جاذبيتها وكشف مواطن قصورها، وتحليل النماذج الكامنة في هذا النموذج المادي من خلال دراسة أهم القضايا المنهجية والطروحات المعرفية النقدية للمفكر عبد الوهاب المسيري، إذ في النهاية سيتبين إخفاق النموذج المعرفي المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، وعجزه عن إدراك الواقع في أبعاده المتعددة والمركبة والمعقدة.

أولا- مرتكزات الفلسفة المادية عند المسيري

يعد مفهوم الطبيعة مفهوما أساسيا في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة خصوصا في الغرب، إذ يرى المسيري أن هذا المفهوم تعبير مهذب يحل محل كلمة "المادة". ويعرف المسيري "المادية" في موسوعته بأنها المصدر الصناعي من كلمة "المادة"، وهي لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض. ويمكن للإنسان المادي المغالى في ماديته أن يكون زاهداً تماماً في النقود والدنيا (كما هو الحال مع إنجلز وإسبينوزا)، فالفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي يقبل المادة فقط باعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعية والبشرية، ومن ثم فهي ترفض الإله بوصفه شرطا من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزا للنظام الطبيعي/ المادي. ولذا فالفلسفة المادية ترد كل شيء في العالم(الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد هو القوة الدافعة للمادة والسرية في الأجسام والكامنة فيها والتي تتخلل في أثنائها وتضبط وجودها، فهو قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضا. وإن دخل عنصر آخر مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية(5) .

إن الفلسفة المادية تُشكِّل البِنْيةَ الفكرية التحتية، أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة، كالماركسية والبرجماتية والداروينية وغيرها، كما أنها تشكِّل الإطارَ المرجعيَّ الكامنَ لرؤيتنا للتاريخ والتقدُّم وللعلاقات الدولية، بل وأحياناً لأنفسنا. وقد ارتبطت الفلسفة المادية في عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدُّم والتسامح... إلخ، مع أن الواقع أبعدُ ما يكون عن ذلك! ويذهب المسيري في دراساته المتعددة إلى أن الوقت قد حان لفتح باب الاجتهاد بخصوص هذه الفلسفة، نظراً لأهميتها وهيمنتها على بعض أعضاء النُّخَب الثقافية والفكرية العربية، وأي نموذج فكري، مهما بلغ من مثالية أو غيبية، لابد أن يتبنى نموذجا تفسيرا ماديا حين يتعامل مع بعض الظواهر، فالواقع مركب والعناصر المادية مكون أساسي فيه. وقد حققت المادية نجاحاتها في العصر الحديث لأن النموذج المادي عنده مقدرة تفسيرية هائلة إن نظرنا إلى الجانب المادي في حياة الإنسان. ولكننا لو نظرنا في الجوانب غير المادية الأخلاقية والجمالية والروحية، فإن مقدرته التفسيرية تضعف وتكاد تنعدم(6). لكن تكمن الهرطقة المادية في أن الفلسفة المادية لا تكتفي بتفسير بعض جوانب الواقع وإنما تصر على تفسير كل الواقع، بما في ذلك الإنسان في كل جوانب وجوده، من خلال مجموعة موحدة من المقولات التفسيرية مستمدة من وجودنا المادي اليومي، ثم ترد الواقع الطبيعي والإنساني إلى مبدأ نهائي واحد دون حاجة إلى إدخال مجموعة أخرى من المقولات غير المادية المختلفة عن الأولى، وهو ما يُبسط الواقع ويختزله(7) .

يرجع المسيري جاذبية الفلسفات المادية لسببين: الأول يتعلق بالمستوى الابستمولوجي، نظرا لكون التفسير المادي للظواهر سهل، ويمكن الحصول بشكل سريع على المعلومات عن العالم المادي وقياسها والترابط المادي بين الظواهر أمر يمكن رصده بشكل موضوعي محسوس وحركة المادة نتيجتها مباشرة. أما المستوى الثاني فيرتبط بالبعد النفسي، حيث تحوّل الفلسفات المادية الإنسان إلى جزء من كل أكبر، فلا يوجد له هوية أو حدود أو إرادة مستقلة عن هذا الكل المادي ترد إليه، وهذا يعني إنكار الهوية الفردية المستقلة والمسؤولية الخلقية والاختيار الحر(8) .

يتمثل السعي المتواصل لنقاد المادية الغربية في التركيز على خطورة تأليهها السوق والمجتمع والدولة على حساب الإنسان ووجدانه ودوره الفاعل. وكذلك محاولة الكشف عن خطورة المنطق الكامن وراء التحول لما يسميه المسيري"الغيبية العلمية الجديدة"، التي تزعم لنفسها احتكار الحقيقة المطلقة، تلك الغيبية التي أسستها التوجهات المادية المسيطرة في الحضارة الغربية والتي تنسب إلى نفسها القدرة على تحقيق الفردوس الأرضي، إذ يؤكد هذا المنطق أهمية السعادة الدنيوية المباشرة، في حين ينكر أن الإنسان كيف مركب فريد، وصانع البيئة التاريخية التي تشكل وجدانه(9) .

ومن جهة أخرى، تمثل العلمانية الشاملة رؤية عقلانية مادية للعالم ترى العالم في إطار مرجعية مادية كامنة فيه فالعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، والعقل قادر على استخلاص القوانين التي تلزمه لإدارة حياته، وهي ترفض المرجعية المتجاوزة وكل الثنائيات الناجمة عنها، وضمن ذلك ثنائية الإنسان والطبيعة، فترد العالم بأسره إلى مبدأ طبيعي/ مادي واحد، إذ ثمة نزعة جنينية كامنة في الإنسان نحو فقدان الحدود والهوية، وثمة نزعة قوية نحو الرغبة في الذوبان في الكل، كما أن على الإنسان أن يتعامل مع بعض الجوانب الطبيعية/ المادية لحياته الإنسانية من خلال نماذج طبيعية/ مادية(10) .

ويذهب المسيري إلى أن إسبينوزا ونيتشه ودريدا هم أهم فلاسفة المنظومة العلمانية المادية، وأن معظم الفلسفات الغربية التي ظهرت في القرن العشرين (بما في ذلك الصهيونية والنازية) خرجت من تحت عباءة نيتشه وأن فكر ما بعد الحداثة (بكل تياراته) هو امتداد لمنظومة نيتشه الفلسفية. وتعود أهميته نيتشه إلى أنه ساعد على استكمال الطفرة الفلسفية التي سيتحقق من خلالها النموذج العلماني المادي ويتعين ويتبلور، فأسس فلسفته انطلاقا من كثير من المقولات الكامنة العدمية للرؤية المادية وأطلق عبارته الشهيرة "لقد مات الإله"، ثم بذل قصارى جهده في أن يطهر العالم من أي ظلال يكون قد تركها الإله على الأرض بعد موته(11) .

ويمكننا أن نتجاوز المضمون الديني الإلحادي المباشر لهذه العبارة لنحدد مضمونها ومن ثم تضميناتها المعرفية التي لا تشمل الإله وحسب بل وتشمل الإنسان والكون. ويساعدنا هايدجر في هذا حيث يقول إن الإله بالنسبة لنيتشه هو "العالم المتسامي"، العالم الذي يتجاوز عالمنا؛ عالم الحواس: الإله هو اسم عالما لأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية، فهذه العبارة تعنى في واقع الأمر ما يلي:

1 - نهاية فكرة الإله المتجاوز والمفارق للمادة: المجاوز للطبيعة والتاريخ: الذي يمنح الكون تماسكا وهدفا نهائيا، أي نهاية فكرة المركز الكائن خارج المادة وهي حلولية كمونية(12) كاملة.

2- إنكار وجود أي حقيقة ثابتة متجاوزة لعالم التجربة المادية المباشرة وعالم الصيرورة.

3- كل هذا يعنى إنكار فكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكا يعلو على الأشياء، أي إنكار فكرة المركز الكامن في المادة.

4 - العالم إذن أجزاء لا تشكل كلا ولا مركز لها.

5 - كل هذا يعنى إنكار فكرة العام والعالمي والإنساني بشكل عام.

6 - كل هذا يعنى نهاية الميتافيزيقا، بل ونهاية فكرة الحقيقة فالقضاء على بقايا الميتافيزيقا المتمثلة في الحديث عن الكل المتجاوز أدى إلى القضاء على الحقيقة(13) .

يذهب الدكتور المسيري إلى أن النيتشوية التي هي موضوع شكل نقطة كبرى في نقده للنص الثقافي الغربي تعتبر أهم شكل من أشكال التعبير الفلسفي عن الرؤية الداروينية، فهي فلسفة فردية عدَمية تعبِّر خير تعبير عن الأوضاع الحضارية والفكرية للمجتمع الغربي في ذروة مرحلة التوسع الإمبريالي. وقد تأثر كثير من المفكرين الصهاينة بفكر نيتشه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق تشرب الموضوعات النيتشوية المختلفة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نظرة الإنسان الأوروبي للكون في هذه الفترة. إذ يربط الدكتور المسيري بين العقيدتين إن شئت التعبير من عدة جهات، فالنيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، ديانة علمانية ملحدة تعلن موت الإله ("نعم لقد مات الإله وماتت الآلهة جميعاً")، وهي وحدة وجود مادية ترد الكون بأسره إلى مبدأ زمني واحد هو إرادة القوة. وتتبدى إرادة القوة هذه عند نيتشه في الإنسان الأعلى السوبرمان superman، أما في الإطار الصهيوني فهي إرادة القوة اليهودية التي يمثلها الصهاينة من خلال نشاطهم الاستيطاني المسلح. كما أن النيتشوية تعادي الفكر وتحتقره وتسبغ نوعاً من الروحية والقداسة على الفعل والحركة، المنفصلين عن القيمة. وقد دعا نيتشه الإنسان إلى أن يعود لحالة الحيوية والطبيعة، ويكون كالحيوان المفترس الأشقر، وينبذ العقائد الدينية وأخلاق الضعفاء. فالقوة بالنسبة له هي "الفضيلة السامية، والضعف هو النقيض في الشر. الخير هو الذي يستطيع أن يحيا ويظفر، أما الشر فهو ما يخور ويهوي"(14) .

لقد نادت الفلسفة المادية بالعقلانية، ولكن مع الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده، دون مساعدة من الوجدان/ الإلهام والعاطفة والوحي، حيث اقتصرت على القول بأن العقل إن هو إلا جزء من الحقيقة المادية الصلبة باعتباره لا يوجد إلا داخل حيز التجربة المادية، مقيدا بحدودها لا يمكنه تجاوزها. وهذا يعني في الواقع أن العقل عقل مادي، يقوم بإعادة إنتاج العالم المادي عن طريق مقولات الطبيعة/المادة فقط، والعقل المادي يتعرف على الحقائق المادية فقط. فالفلسفة المادية فلسفة وضعية تتعامل مع الأشياء والظواهر والإنسان نفسه ككائنات قابلة للتجربة، ولا تلتفت في صياغتها وجدان الإنسان إلى التاريخ والقيم والميتافيزيقا. ومن هنا فهي تخط صورة واحدية للإنسان، وتنظر إليه إما كشخصية صراعية دموية تستطيع اختراق كل الحدود وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو كشخصية قادرة على التكيف مع الواقع والخضوع لقوانين الحركة(15) .وتبدأ الفلسفة داخل منظومة العلمانية الشاملة في الانسلاخ عن العقيدة والمطلقات الأخلاقية والدينية والإنسانية، وتظهر الفلسفات العقلانية المادية التي لا تقبل إلا المرجعية النهائية المادية وتحاول الوصول إلى الحقيقة الفلسفية عن طريق التجريب والحواس الخمس، أو على النقيض من ذلك، عن طريق الحدس والخيال المنفصلين عن العقل والتجريب، وعن طريق الوعي بعيدا عن أية عقيدة أو إيمان بغيب، أو عن طريق العقل الخالص المنفصل عن القلب والخيال...فتظهر الفلسفات العقلانية المادية التي ترى العقل باعتباره مقولة مطلقة، مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها، يصل إلى المعرفة بدون وسائط بشرية أو إلهية. هذا العقل عقد مادي محض لا يتجاوز بأية حال عالم الطبيعة/ المادة، فهو جزء لا يتجزأ منها، والفكر ليس سوى تعبير باهت عن المادة... وبالتدريج يتم استبعاد الإنسان، إذ ينتصر التجريب العلمي الحسي على أية غائيات، ثم ينفصل التجريب عن العقل والعقلانية، وتسري القوانين المادية على كلّ من الطبيعة والإنسان وما هو مطرد وقابل للقياس وما يُترجم نفسه إلى أرقام، ولكنها لا تكترث بالكيف أو الأبعاد الداخلية للإنسان أو بمقدرته على التمييز الواعي والاختيار الأخلاقي الحر(16) .

المصدر:

مركز نماء للبحوث و الدراسات

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك