الدعاية الألمانية في شمال المغرب ضد فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى

 د. محمد أحميان

 

سعت ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى إلى استغلال المجال المغربي لمشاكسة فرنسا، من خلال دعم حركة المقاومة ضدها، في محاولة منها لإضعاف الجبهة الأوروبية بتشتيت القوة العسكرية الفرنسية. وتجدر الإشارة إلى أن التدخل الألماني في المنطقة له سوابق، تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. ورغم أن التسوية الألمانية-الفرنسية في 4 نوفمبر 1911، (تنازل ألمانيا عن المغرب مقابل تنازل فرنسا عن جزء من الكونغو لصالح ألمانيا)، أقفلت الباب في وجه ألمانيا فيما يخص المسألة المغربية، فإن الرأي العام الألماني لم يتقبلها وبدأت ألمانيا تتحين الفرصة لخرقها، فأصبح المغرب منذ بداية الحرب العالمية الأولى في صلب إستراتيجيتها الكبرى لزعزعة الوجود الفرنسي في شمال أفريقيا. وشكلت القيادة الألمانية في برلين لهذا الغرض مصلحة للتجسس والاستعلامات بطنجة مهمتها تنظيم الدعاية الألمانية، لإذكاء القلاقل في المغرب وإقامة علاقات مع شخصيات نافذة في مصر وتونس والجزائر والمغرب.

وبعد الفشل الألماني في جنوب المغرب، من خلال دعم حركة أحمد الهيبة ضد التوسع الفرنسي، انتقلوا إلى الشمال، ووقع الاختيار على عبد المالك بن محي الدين (حفيد الأمير عبد القادر الجزائري) نظراً لعدائه القوي لفرنسا ولحنكته العسكرية، ما جعل السفير الألماني في مدريد الكونت دي راتبور يستقطبه لفتح جبهة جديدة ضد مصالح فرنسا في المغرب. وبدوره كان عبد المالك بن محي الدين على أتم استعداد للتعاون معهم، فوعدوه بالدعم العسكري والمالي، فأظهر لهم ولاءه الكامل.

وكان أول لقاء رسمي جمع بين الألمان وعبد المالك في قبيلة غياثة شمال المغرب، عندما اتصل به عميل ألماني يدعى (فرنسيسكو فار) (Farre F.)، الذي طلب منه الانتقال إلى نواحي مليلية للبحث عن نقطة آمنة بالساحل المتوسطي لإنزال شحنة من الأسلحة من سفينة ألمانية للعمل ضد فرنسا. لكن ولأسباب مجهولة لم تصل السفينة، فعاد عبد المالك نحو قبيلة كزناية وهي نقطة تماس بين منطقة النفوذ الفرنسي والإسباني، وبدأ في وضع الخيام التي اشتراها من مليلية في مركز الكيفان الذي اتخذه مقراً له، وشرع يؤسس لحركته، قاعدتها العسكرية مكونة من 1000 جندي نظامي من المغاربة الفارين بعد انتفاضة أبريل 1912، وبضعة عشرات من الألمان الذين فروا من سجون معسكرات دبدو (شرق المغرب) في غشت 1914. وكانت الذخيرة والأموال تصله (عبد المالك محي الدين) عبر ساحل الريف من مليلية وتطوان. وفي محاولة من عبد المالك لإيجاد موطئ قدم على الساحل المتوسطي لتسهيل الاتصال المباشر مع الألمان توجه مساعده (فرنسيسكو فار) إلى قبيلة بني سعيد المطلة على البحر، والموجودة في خط المواجهة مع القوات الإسبانية المتقدمة من مليلية نحو نهر الكرت. ووعد القبيلة بتقديم السلاح مقابل السماح له بالحصول على مرفأ في ساحل قبيلة ايت سعيد الريفية لإنزال الأسلحة والذخيرة، وتوجيهها نحو جبهة كزناية لمواجهة القوات الفرنسية. لكنه فشل في مسعاه، لكون الأهالي اعتبروا أن ذلك -حسب صاحب كتاب الظل الوريف- سيشغلهم عن مقاتلة عدوهم الذي هو الإسبان الذي يريد احتلالهم.

ولإعطاء دفعة قوية للدعاية الألمانية في شمال المغرب، عملت الاستخبارات الألمانية على استقطاب شخصيات قادرة على التأثير في الأهالي بفضل نفوذها. وفي هذا الإطار وقع الاختيار الألماني- التركي كذلك على الأسرة الخطابية، قصد قيامها بتعبئة القبائل الريفية وضمهم إلى كتائب عبد المالك المذكور. وفعلاً تحمست الأسرة للمشروع، ولاسيما أن الدعوة إلى تأييد السلطان التركي محمد رشاد -بصفته مسلماً- كانت منتشرة في المغرب آنذاك، كما تزامن ذلك مع الرغبة التي عبر عنها القاضي عبد الكريم الخطابي في قطع علاقاته السياسية مع الإسبان والتزام الانعزال. وهكذا ففي نوفمبر من سنة 1914 قام ضابط تركي كمبعوث سري بزيارة عبد الكريم في أجدير، حيث عرض عليه المساعدة الألمانية المادية للقبائل الريفية غير المحتلة للقيام بعمل مسلح ضد فرنسا، وفي تلك الآونة كذلك ورد عليه المندوب الألماني (فرنسيسكو فار) قادماً من مليلية بحراً بتوجيه من ابنه محمد المستقر بمليلية، وكانت تمثل هذه المدينة بالنسبة للألمان نقطة إستراتيجية لتسهيل اتصالهم مع متعاونيهم المحليين.

ويبدو أن المساعي الألمانية بدأت تأتي أكلها، إذ في 30 شتنبر من سنة 1915، كتب القاضي عبد الكريم الخطابي إلى عبد المالك بن محي الدين دعاه فيها إلى القدوم ليعسكر بقواته على ضفاف نهر النكور بالقرب من الساحل المتوسطي، قصد توحيد صف المتطوعين، وقد كلف ابنه الأصغر امحمد بنقل تلك الرسالة بعدما اعتذر هو عن الذهاب لملاقاته. وقد أثارت هذه التحركات التي قام بها الخطابي حفيظة إسبانيا، فبادرت إلى مطالبته بتصريح علني لفائدة إسبانيا وبالتعهد بعدم العمل لصالح الألمان. ولإيجاد مخرج من هذا المأزق، لجأ القاضي إلى المراوغة، حيث حافظ على اتصاله بعبد المالك، وصار شغله الشاغل هو إخراج محمد من مليلية وإعادة امحمد من مدريد حيث كان يتابع دراسته.

وفي هذه الحقبة المتسمة (بصراع الخطابي مع فرنسا)، تحدثت الصحافة الفرنسية عن زيارات الألمان المتكررة إلى سواحل الريف، فأوردت أن مركباً اسمه (بيتر جينت) قادماً من هامبورغ أنزل بعض المسافرين بالريف، وأن مركباً آخر يدعى (مرغريت) سلم بأصيلة أسلحة تم جلبها من امستردام. والواقع أن الألمان انخرطوا على نطاق واسع في عمليات تهريب الأسلحة، بمساعدة بعض وكلائهم القنصليين، ما أثار حنق الدبلوماسية الإسبانية والفرنسية. ومع تصاعد حدة الصراع الفرنسي–الألماني، وظفت السلطات الألمانية ورقة تهريب الأسلحة، كأداة لإثبات حضورها في المغرب، ومزاحمة فرنسا وعرقلة توسعها في المغرب. وتؤكد الوثائق الإسبانية دعم ألمانيا لحركة تهريب الأسلحة إلى الريف ومنه إلى المنطقة الفرنسية، حتى انطلاقاً من الغرب الجزائري، عبر ساحل الريف.

وقد أفرز أيضاً دور ألمانيا في تهريب الأسلحة والذخيرة إلى الريف، أزمات سياسية مع مدريد، بعد وقوفها على تورط ألمانيا في هذه الأنشطة المحظورة. حيث تمكنت البحرية الحربية الإسبانية المكلفة برصد ومراقبة سواحل منطقة نفوذها، من إيقاف مجموعة من المتواطئين الألمان في ساحل الريف. وتشير وثائق الأرشيف الإسباني المحفوظة بالكالا دي يناريس، إلى تمكن الحرس المدني الإسباني في مالقة، خلال شتنبر 1915 بعد إجراء التحريات من إيقاف أحد المتورطين الريفيين في تهريب الأسلحة والذخيرة، والذي اعترف بتسلمه السلاح من قبل القنصل الألماني، الذي كان منزله مقصد مهربي الأسلحة، لدعم حركة المقاومة في إكزنّاية ضد القوات الفرنسية، وفي هذا الإطار، قد زارت الغواصات الألمانية سواحل الريف الأوسط، ولاسيما مرسى بوسكور. ما أثار حفيظة الدبلوماسية الإسبانية، بعدما تأكدت من وقوف السلطات الألمانية وراء تهريب الأسلحة إلى منطقة نفوذها.

عموماً، بفضل هذه الإستراتيجية التي اهتدت إليها ألمانيا، تمكنت من التشويش على فرنسا في مستعمراتها في شمال أفريقيا، وتخفيف الضغط الفرنسي على الجبهة الأوروبية، وإن فشلت في الأخير في حسم الصراع لصالحها.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3673

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك