صورة الحرب في الرواية العربية
د.جمعة العوني
عندما انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى في أغسطس من سنة 1914، كانت الرواية العربية ما تزال تخطو خطواتها الأولى، مترددة بين وصف مغامرات ذاتية، أو تسجيل أمجاد الماضي التاريخية، أو الوعظ الديني، أو ترجمة بعض الآثار الروائية العالمية في أحسن الأحوال، لذلك لم يحفل الروائيون العرب كثيراً بهذا الحدث العالمي الكبير، وقد استمر الأمر إلى حدود سنة 1939، تاريخ صدور رواية (الرغيف) للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد، التي استمدت متنها الحكائي من أحداث (الحرب الكبرى)، وتأثيراتها على المنطقة العربية، وبذلك اعتبرت أول رواية عربية عن الحرب العالمية الأولى.
صدر توفيق يوسف عواد روايته بـ(مدخل)، وقد صور فيه السارد/ الكاتب منظر الجنود الأتراك وهم يدخلون إحدى القرى اللبنانية في تشرين الثاني من سنة 1914، وكان عمر الكاتب حينها أقل من أربع سنوات، لكنه يتذكر تلك التفاصيل بدقة حتى وإن لم يدرك معناها إلا بعد أن كبر، كما ختم الكاتب روايته بـ(تنبيه)، أشار فيه إلى كون شخصيات وحوادث الرواية مختلقة ومن خيال الكاتب، ولا صلة لها بشخصيات أو حوادث معينة، حتى وإن كانت الرواية تستفيد من أخبار الثورة العربية التي استقاها الكاتب من المذكرات وكتب الأخبار والصحف.
المتن الحكائي
تجري أحداث الرواية زمنياً بين سنتي 1914 و1918، وتدور مجمل وقائعها بقرية لبنانية صغيرة تدعى (ساقية المسك)، وتحكي سيرة بطل ثائر هو (سامي عاصم)، الذي يبدأ مقاومة الاحتلال العثماني من قريته هاته، ضمن صفوف الجمعية (القحطانية) التي كانت تناضل من أجل استقلال الدول العربية عن الخلافة العثمانية، فيصبح مطارداً يختبئ في ضواحي القرية بـ(مغارة الخورية)، لا يعرف مكانه إلا حبيبته (زينة) التي كانت تزوره بين الفينة والأخرى لتمده بالأكل والأخبار، وبعد عدة محاولات يقع أسيراً في أيدي الجنود الأتراك الذين ينكلون به قبل أن يضعوه في سجن (عالية)، حيث يعاني أبشع أنواع التعذيب والاستنطاق، قبل أن يصدر في حقه حكم بالإعدام ضمن حملة الإعدامات التي قادها جمال باشا ضد المقاومين اللبنانيين.
وبعد معاناة طويلة يفر من السجن هو وأحد الحراس، وقد ظن الجميع أنه قتل أثناء محاولته الهرب من السجن، كما أوهمتهم السلطات التركية، لكنه نجح بالفرار، والتحق بالثورة العربية في الصحراء التي انطلقت من الحجاز سنة 1916 بقيادة الشريف حسين، وقد قاد عدة هجمات عسكرية ضد القوات العثمانية في المناطق العربية، حتى وصل إلى حدود بيروت، عمليات كانت تتم غالباً بمساعدة من الطائرات الإنجليزية التي توفر غطاء جوياً، وتقضي على بعض الآليات الحربية العثمانية، فقد كان العرب في هذه المرحلة يرون الخلاص في القوات الأوروبية والإنجليزية بالخصوص، وتحالفوا معها على إضعاف القوات التركية، إن التركي هو العدو الأول للعرب في هذه المرحلة، لما عانوه من ويلات من الجنود الأتراك وكذا المتعاونين معهم من الإقطاعيين الذين استولوا على الخيرات وأفقروا الناس، وذلك ما نستشفه من حوار الطفل (طام) مع أخته (زينة):
الناس يقولون إن رئيس العصابة البيضاء لا يقتل إلا الأتراك، وإبراهيم بك ليس تركياً!
- إبراهيم بك فاخر عدو لا يقل شره عن الأتراك، بل إن شره أعظم.
- زعيم العصابة البيضاء كان يقول لي: البك وأمثاله هم العدو الداخلي والأتراك هم العدو الخارجي، الأتراك يسلبون الناس حريتهم، وإبراهيم بك فاخر وأمثاله من الأغنياء الجشعين، يسلبونهم خبزهم). (ص:178).
وفي هذه المرحلة كانت (زينة)، خطيبة (سامي عاصم)، رفقة باقي أفراد القرية يناضلون في صفوف (العصابة البيضاء) التي تسعى إلى إقامة العدل، وإعادة الحقوق إلى المظلومين فيما يشبه قانون الصعاليك في المجتمع العربي القديم، ولم ينعم البطل سامي عاصم بتحقق حلمه، حيث يموت في معركة للقوات العربية على مشارف قريته.
يسعى هذا المتن الحكائي إلى رصد تأثيرات الحرب العالمية الأولى على العالم العربي من خلال مجتمع مصغر يتمثل في قرية (ساقية المسك)، بما عرفته من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، مقارنة مع حالتها قبل بداية الحرب.
وضعية القرية/ العالم العربي قبل الحرب
كانت القرية تعيش في هدوء، مكتفية بذاتها اقتصادياً، وتنعم بخيراتها على قلتها، وتعتمد على بعض عائدات المهاجرين، حيث كان يوجد في كل عائلة تقريباً فرد يعمل مهاجراً في أمريكا، كما يصورها السارد:
(كانت ساقية المسك تعيش، قبل الحرب الكبرى، على مواردها المحلية من زراعة الكرمة وتربية دود الحرير) (ص:23).
(على أن مورد ساقية المسك الأعظم كان من مهاجري أبنائها إلى أمريكا) (ص:23).
لكن مع بداية الحرب الكبرى تغيرت أحوال القرية، وأصبح سكانها مضطرين للبحث عن قوتهم اليومي، وحتى النساء خرجن للعمل، فهذه (وردة) تضطر الآن لفتح دكان أمام الزبناء رغم كونها امرأة، وقد كان فتح الحانات في السابق حكراً على الرجال، كما أن سكان القرية كانوا دائمي الفرح والغناء، (ثم كان أن نشبت الحرب، فانقطعت النساء والصبايا في ساقية المسك عن أغان كن يوقعنها على طقطقة المكوك) (ص:26).
رغيف الحرية
يحتل (الرغيف) دلالة محورية في الرواية بداية من العنوان وإلى النهاية، فهو يتكرر في جل الحوادث، وتنبني عليه مقاطع أساسية في الرواية، ولعل الدلالة الأساسية للرغيف تتمثل في الجانب الاقتصادي، أي ما يعانيه سكان القرية من جوع، حيث نجد إشارات مهمة في هذا الاتجاه:
(وأخرجت البقرة لسانها صوب زينة، وكررت خوارها موجعاً هذه المرة، فمسح أبو سعيد على ظهرها، وهز رأسه مكتئباً:
أنت أيضاً يا صبحا تجوعين!) (ص:37 - 38).
(أما محطة عالية فكان عليها وجوم مخيف، يروح الجنود بحرابهم اللامعة ويجيئون، والناس أشباح منتصبة، شيوخ وأطفال يبسطون أيديهم للحسنة، ونساء وصبايا في أسمال بالية، وعيون ملتاعة بارزة، يعرضن جمالهن برغيف خبز). (ص:63).
فالكل يمر بمرحلة جوع سواء تعلق الأمر بالإنسان أو الحيوان، بل إن الرغيف قد يصبح عملة صعبة يشتري بها مالكها أعراض الناس وصمتهم وتأييدهم وخضوعهم، مما يعني أن الرغيف يتعدى دلالته إلى ما هو أبعد، فهو يرتبط بالحرية، فالحصول على الرغيف هو حصول على الحق وحصول على الحرية، (فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، وإنما بالحرية والعدل واكتساب الحقوق.
وهذا ما يؤكده خطاب (سامي عاصم) إلى سكان القرية:
(يا ناس لماذا تموتون جوعاً؟ قوموا، قوموا واقتلوا ظالميكم، واحموا الرزق الذي يغتصبونه منكم، أتخافون أن يقتلوكم؟ ولكنكم لا تخافون الموت أنتم، لأنكم تموتون كل يوم بالمئات... بل أنتم تخافون الحياة). (ص:48)
وبذلك فقد قدم الروائي توفيق يوسف عواد صورة عن أوضاع العالم العربي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً في مرحلة الحرب العالمية الأولى، صورة انتقلت من مجتمع مصغر يتمثل في قرية (ساقية المسك) اللبنانية الصغيرة في صمودها ومقاومتها للوجود العثماني، ثم ربط الروائي بين أوضاع القرية والوضع العربي عامة في هذه المرحلة من خلال انتقال البطل (سامي عاصم) إلى الحجاز، وانضمامه إلى الثورة العربية في الصحراء التي كانت تسعى لإقامة خلافة عربية بديلة للخلافة العثمانية.
المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3672