الحرب..الكتابة: إيحاءات مستلة من ذاكرة الزمن

د.عبد القادر مرزاق

 

لقد حظيت الحرب دوماً بمكانتها الخاصة في الفنون كلها، فهي (كائن) الخوف والتخييل، وهي وسيلة الشرف والدمار. إنها هناك، وراء نمو الفنون منذ القدم.

والحرب الكبرى، كما توصف في الأدبيات الغربية، وشمت ذاكرة ومخيلة أجيال كاملة، كما لم تفعله أي حرب شهدتها أوروبا. فهناك فداحة المجزرة، وتتمثل في موت ثمانية ملايين ونصف مليون من الجنود، وثلاثة عشر مليوناً من المدنيين! وهناك امتداد زمن المعارك إلى حد إرهاق الكتائب...، ففي أتون هذه الحرب، الحرب الصناعية الأولى، كانت أوروبا والعالم يتأرجحان خلال القرن العشرين.

 ولا شك أن عناصر متعددة قد ساهمت في هذا التغيير في النظر إلى الصراعات المسلحة في هذا القرن، فهناك، بدءاً، الأسلحة الأشد فتكاً، والأشد (موضوعية) أيضاً، إذ غدا التقتيل من أيسر الأمور!. ناهيك عن أن التغطية الإعلامية لهذه الأفعال الوحشية لم يكن في الوسع السيطرة عليها في ظل تطور وسائل جديدة في عالم الاتصال. نضيف إلى هذا أن استقرار الحدود والسياسات الذي حل فيه مفهوم العَقَدية/ الأيديولوجيا، محل الغزو الإقليمي، قد ساهم في هذه الحركة، وأصبح من الصعب معه تطويق الرهانات.(يمكن مراجعة: -Lila Gleizes et Claire Magnaval-Surtukian: Histoire(s) des arts et de la guerre

- و:Carolyn RC Wilson: Writing the War: The Literary Effects of World War One)

نقول، وباختصار شديد، إن وضعية جديدة للتفكير ستولد، فمع التقدم الطبي، وامتداد توقع متوسط العمر، وتنامي النزعة الفردية، لم يعد الموت أمراً عادياً ومقبولاً.

استناداً إلى الإشارات السالفة يمكن القول إن الحرب العالمية الأولى، هذا الصراع الغربي الأول، قد جر جموعاً غفيرة، بل ملايين عديدة من البشر، فلاحين، وعمالاً، وأغنياء، وفنانين، ومثقفين، إلى جبهات القتال، فقد تجرع هؤلاء جميعاً مرارة التجربة اليومية للرعب والمعاناة، وشهدوا علاقة جديدة للإنسانية والموت.

إنهم كثر، من بين الناجين، أولئك الذين أرادوا تسجيل شهاداتهم عن هذه التجربة، وعن معايشتهم اليومية، وسرد أهوال حرب لا توصف!

يأتي على رأس هؤلاء الشعراء والكتاب من أطراف الصراع، وهكذا سينبثق، منذ 1917، من أقلام الكتاب المحاربين، أدب غير مسبوق أبداً هو أدب الحرب.

إن أصحاب كراسات الخنادق، والرسائل، والجرائد، والسير الذاتية، والرسومات، معايشي الحرب، أبطال هذه المأساة، هم رواة آخرون لها، إذ بشهاداتهم القيمة منحوا روحاً لأحداثها، ولساحات المعارك في كتب التاريخ. (راجع: Bibliothèque municipale de Reims: Récits de la Grande Guerre)

فلنصغ، من تلك الذاكرة الموشومة بفعل الحرب الكبرى، إلى هذا العنوان المجازي الرمزي الرقيق للشاعر الفرنسي (كيلوم أبولنير Guillaume Apollinaire الورقاء المطعونة ونافورة الماء La colombe poignardée et le jet d’eau من أعماله الشعرية الكاملة:Calligramme poèmes de la paix et de la guerre 1913-1916، وقد كتبه وهو في الجبهة في هذه الحرب الطاحنة، محاولاً، وهو صاحب الرسامين التكعيبيين كبيكاسو Picasso، وبراك Braque، إبداع كتابة شعرية جديدة من خلال التلاعب بفضاء الصفحة، ويهمني في هذا المقام ما يعبر عن البعد الإنساني المأساوي لهذه الكارثة الغربية، وسأغض الطرف عن الجانب التشكيلي، إلا اللمم.

فالشاعر يثير من خلال صورتين، صورة الحمامة، وصورة نافورة الماء، قضية الحب المفقود، والأصدقاء الذين شتتتهم الحرب، وهو الذي ابتدع في العام 1918 مصطلح (النسخ البديع) Le Calligramme، ويعني به ما كان يسمى في التراث بـ(الأبيات المشكّلة) Les vers figurés، ويسمى الآن بـ(الشعر البصري)، أو (الشعر المشكّل)، وإذا كان الشاعر قد ابتدع المصطلح، فإنه لم يبتدع الأشياء، فـ(الأشعار رسوماتٍ) لها تاريخ طويل بدءاً مع الحضارة الإغريقية.

هناك إذاً، في القصيدة المرسومة، صورة الحمامة المطعونة، مبسوطة الجناح في الأعلى، وفي الصورة الثانية هناك نافورة الماء. الحمامة المغتالة، وهي رمز السلام، تشير إلى الحرب، وتتوجه إلى الحب المفقود لسارد النص الشعري. ومصدر القصيدة، الديوان، الصادر في أبريل عام 1918 مهدى إلى صديق الطفولة (رونيه داليز) René Dalize الذي أسس مع الشاعر مجلة (أمسيات باريس) Les soirées de Paris عام 1912، وهو أحد ضحايا الحرب، وقد ورد في الإهداء: في ذكرى أحد أقدم الرفاق/ المتوفى في ساحة الشرف/ السابع من ماي 1917.

إن البيت الأول من القصيدة ليأتي منكسراً في الوسط بموضع مفردة (مطعونة) وحرف (السين) المكبر في: (Chère)، وبهذا تكون الحرب قد مزقت العلاقات الودود التي يحفظها الشاعر ويرعاها: صور عذبة مطعونة...، هل تبكي، وتصلي، مثل نافورة الماء الشعرية، على أولئك الذين أخذتهم الدروب إلى الجبهة؟.

وفي مقطع (نافورة الماء) الوارد تحت (الحمامة المطعونة) يستحضر هؤلاء الأشخاص الأصدقاء بأسمائهم، رسامين، وكتاباً، وصحفيين، ومحبوبات، ومنهم، على وجه الخصوص، صديق الطفولة (رونيه داليز) الذي انقطعت أخباره بفعل آلة الحرب. هؤلاء جميعاً، هل قضوا نحبهم؟ فلهذا ها هي نافورة الماء تبكيهم بعين تجود ولا تجمد! إن مجرد ذكرهم بأسمائهم ليبعث الشجن في نفس الشاعر وقلبه.

 هكذا، في هذا الشعر المرسوم/ المشكل، تغدو القصيدة ضريحاً، كتابة- شهادة، وتاريخاً- مدونة على رمس! وكل ذلك إنما فعلته ويلات تلك الحرب الضروس.

هذه الحرب قد غذت، كما تقول إحدى الباحثات، الأدب طيلة قرن كامل، وظلت توحي إلى الكتاب، لأنها ليست مجرد إطار تاريخي فحسب، وإنما هي تمدهم بانعكاسات، ومحفزات، وتساؤلات، وبجو خاص جداً: هو وليد الانتظار، والمعاناة، والتفرقة، والتعصب، وتجاوز كل الحدود، والتجريد من الإنسانية، والنشر المطلق للموت، وصحيح أنها تقتسم كل هذا مع أحداث أخرى، ولكنها مزجت الكل بطريقتها الخاصة إلى درجة استثنائية. بكلمة أخرى إنها قد نظر إليها، واعتبرت، القطيعة الافتتاحية في الذاكرة الغربية.

في هذا الجو المخنوق، نسجل مع إحدى الباحثات، أنه يجب التذكر بأن الرقابة لم تطبق بشكل مستمر وجذري طيلة سنوات الحرب، فقبل الاحتجاج على الفجوة بين الأكاذيب المزينة، وواقع الحال الرهيب في الجبهات، قد عرفت سرديات كثيرة، قريبة من جنود الميدان البسطاء، عرفت طريقها إلى النشر. إن هذا التنامي للمنشورات ليفسر النجاح الذي لا تخطئه العين لرواية: النار: يوميات فرقة (Le feu journal d’une escouade)، لمؤلفها (هنري باربروس) Henri Barbarusse، والتي ظهرت حلقات في البداية، ثم صدرت في مجلد واحد عام 1916، وقد اعتبرت في نظر المراقبين حينها أحد أعظم كتب الحرب.

ونحن نشير إلى أن ميول صاحبها الاشتراكية جعلت ناشريها (الحزب الاشتراكي الماركسي اللينيني الماوي الفرنسي) ضمن: كلاسيكيات المادية الجدلية، تُصَدر الطبعة، المكونة من 185 صفحة فقط، بقولة مقتبسة من لينين: «لا حركة ثورية، بدون نظرية ثورية».

أما في طبعة أخرى، وتتكون من 451 صفحة، فيجعل الكاتب عتبتها: في ذكرى رفاقي الذين سقطوا بقربي في (لاكروي) La Crouy، وضمن الرقم التسلسلي 119. وهي تتكون من 24 فصلاً، اقتبس جزء يسير من فصلها الخامس عشر تحت عنوان: البيضة: ها قد صرفونا، لقد كنا جائعين، عطاشى، ففي هذه الثكنة البائسة.. لا شيء.

المؤونة، الاعتيادية المنتظمة، قد نفدت، لذلك قد بلغت الحاجة ذروتها (...) في المساء صادفت Paradis. ناداني، وقال لي بصوت ودود هامس، وهو ينظر إلى قدميه: «قل لي، كنت قبل قليل قد دفعت لي علبة أعواد ثقاب، إذاً، سأعوضك، خذ!». لقد دس شيئاً في يدي، وهمس لي: «حاذر، إنه هش!».

مفتوناً بالروعة، وبالبياض الماثل في يدي، لم أكد أجرؤ أن أصدق، قد عرفتها...إنها بيضة!

من هذه الإيحاءات المركزة من الرواية، نحط الرحال عند المؤلف نفسه، ولكن هذه المرة نتصفح أوراق عمل آخر له، إنها رسائله إلى زوجته، وقد عنونت بـ(رسائل هنري باربروس إلى زوجته) 1914- 1917. ومعلوم أن صفحات الكتاب (268 صفحة) عبارة عن خمسة قراطيس/مذكرات، مخيطة معاً كانت لا تفارقه، وكان يسجل فيها يومياً تحركاته والأحداث الموجعة التي يعيشها. هذه المعلومات المنجزة بسرعة نلفيها دقيقة جداً من وجهين، فهي تقدم لنا (كرونولوجيا) مضبوطة عن فترة من حياته اليومية محارباً، وهي، بصيغتها الموجزة بشكل لافت أحياناً، تحتوي على تفاصيل عديدة، وجد باربروس نفسه مضطراً إلى إسقاطها أو إضعاف أهميتها وهو يكتب إلى زوجه.

وإليك الآن بعض الشذرات المختارة بطريقة عفوية:

عزيزتي، هل ترغبين في بعض الأخبار؟ إنها أخبار مهمة جداً، فإنجلترا قد أعلنت الحرب ضد ألمانيا، وهذه التي يبدو أنها غدت فريسة في حالة من الجنون والهياج، لأن أوروبا كلها ضدها (...) يبدو أنها لن تنتصر ألبتة، وأعتقد أنها ستطلب السلام قبل أن تسحق. سنرى على كل حال (...) لقد بدأ القلق ينتابني قليلاً لأنني لم أتلق أي خبر منك.

السبت التاسع من يناير: في الخنادق المحفورة بالحراب. شرع القذف المدمر في الصباح. أخذنا نبحث عن مخابئ.

إن (لوتيم) Lethume مثخن بالجراح بقربي، و(ديمون) Dumont وأنا نعزز عند سفح الخندق بالقرب من مخبأ القناصة. تقريباً لا شيء يؤكل على الإطلاق. تناولت ما تبقى من بعض الخبز والشوكولا.

في الساعة...تضاعف القذف المدمر. وعلى مبعدة متر ونصف المتر مني، لحسن الطالع أنني تحركت يسيراً، والنوم يهاجمني، أصيب (د) في رأسه، وقد فتحت جمجمته، وأخذته الحشرجة، وأنا أحتمي، ومزمار القربة فوق رأسي، سمعت الطلقات (أعتقد أنه شخر، وبالتفاتي نحوه، رأيته ممدداً ملطخاً بالدم والتراب). و(ج)...مبتور الذراع، أصدر صراخاً مدوياً، عندما ضمد ما تبقى منه. القذف المسترسل تضاعف.

الأحد العاشر من يناير: في الصباح أعلن نصف الفرقة مريضاً، لقد أُعْلمنا أن الفرقة السابعة عشرة التي هوجمت لقي فيها أكثر من عشرين مقاتلاً حتفهم، وجرح أكثر من خمسة وخمسين (أكثر من مئتي رجل وضعوا خارج المعركة الليلة ما قبل البارحة، ويوم البارحة). لقد رُويت تفاصيل: الجرحى ملصقون في الوحل، ويتطلب الأمر الانتظام اثنين اثنين قصد انتشالهم من وحل الخنادق (...) بشكل عام لقد مر اليوم وهو من أكثر الأيام دموية من الأيام التي عشناها منذ اندلاع الحرب.

إذا كنا قد اكتفينا، بشكل مركز، على أديبين فرنسيين، فإننا نختم بما يذهب إليه أحد الدارسين الإنجليز، وليس القصد الإحاطة والتفصيل، إنما هي مجرد تلميحات، وإيحاءات مستلة من ذاكرة الزمن، كما نوهنا منذ العنوان. ذلك أن دراسة (أدب الحرب) لا يمكن أن تقتصر على الضحايا، وقدماء المحاربين، وإنما الواجب أيضاً النظر في صدمات ما بعد الحرب التي يصورها الأدب. فعديد من الأدباء كـ (ت- س- إليوت) T.S.Eliot، و(فرجينيا وولف) Virginia Woolf، و(د. ش. لورنس) D.H.Lawrence، وهم من المدنيين، قد حاولوا تصوير تجربة ما بعد الحرب، على الرغم من الأسئلة العويصة التي يمكن للمرء أن يصوغها.

فكيف يمكن لكاتب غير متورط في القتال التعبير بشكل مناسب عن الدمار، الجسدي، والنفسي، في مثل هذا الصراع؟! كيف يمكن نقل هذا الجنون إلى حياة ما بعد الحرب، ومن ثم إلى شكل أدبي؟! كيف يمكن تصوير الحرب وتداعياتها في عقود أدب ما بعد الحرب، والحدث الفعلي قد ولّى؟! كيف يمكن، باختصار شديد، أن يكون الكتاب، منذ الحرب العالمية الأولى، قد دونت أقلامهم واقع الحرب فعلاً، وكيف تكون مقاربة الحداثي مختلفة عن مقاربة شعراء الحرب؟!

هل هذا كل شيء، أو بعض من شيء عن الحرب والكتابة؟ وأحد من ذاقوا وبالها، مشاركة، وكتابة، افتتح مؤلفه بهذه القولة الشهيرة الرهيبة: أنقذونا، هناك رجال يقتلون؟! ما إخال إلا أنني حمت حول الحمى فحسب، ورضيت من الغنيمة بالإياب وكفى.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3669

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك