نقد نظم القيم في الثقافة العربية: محمد عابد الجابري

محمد أمين فرشوخ

 

يقول الجابري في مقدمة كتابه (العقل الأخلاقي العربي) أن "المكتبة العربية خالية من أية محاولة جادة وشاملة، تحليلية ونقدية، لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية". ثم يستعرض ما كُتب قديما وحديثا في مقاربة هذا الموضوع، ليستنتج "أن العرب لم ينتجوا في ميدان الفكر الأخلاقي ما يرقى إلى مستوى ما أنتجوه في الفكر الفلسفي، "وليجعل هذا الاستنتاج بمثابة فرضية يرتب عليها سؤاله: لماذا لم يقم علم للأخلاق في الثقافة العربية على غرار العلوم الأخرى.

 

بناء على ذلك جعل كتابه في قسمين: في القسم الأول - تحت عنوان: المسألة الأخلاقية في التراث العربي -حدد معاني المفردات/ المفاتيح: أخلاق، أدب، نظام، قيم، متحدثا عن "أزمة القيم" وأيهما يؤسس الأخلاق: العقل أم النقل. وفي القسم الثاني - تحت عنوان: نظم القيم في الثقافة العربية أصولها وفروعها - درس الموروث الفارسي، والموروث اليوناني، والموروث الصوفي، قبل أن يدرس الموروث العربي الخالص، و"الموروث الإسلامي في البحث عن أخلاق إسلامية"، ليعود في فصول هذا القسم الأخيرة إلى "أزمة القيم"، و"محاولات في أسلمة الأخلاق".

 

وقد رأى الدكتور الجابري - نظرا لخصوصية الموضوع - أن يكون" العمل من داخل تراثنا العربي الإسلامي، لا على أساس تصنيف حقوله المعرفية تصنيفا ايبستيمولوجيا؛ بل ذاك الذي يعترف بنوع من الاستقلال للموروثات الثقافية المتعددة التي تدخل في تكوين الحضارة العربية الإسلامية؛ لأن هذا التعدد يترتب عليه تعدد نظم القيم فيها".

 

وهكذا استعرض وناقش في القسم الأول معاني المفردات الاصطلاحية التي تعبر عن الحقل المعرفي لموضوع البحث، ففي اللغة العربية كلمتان يعبر بهما عن الأوصاف التي يوصف بها السلوك البشري:

 

خُلُق (والجمع أخلاق) وأدب (والجمع آداب)، والكلمتان غير مترادفتين مع أن الواحدة منهما قد تنوب عن الأخرى. وقد قرر الجرجاني في تعريفاته أن " الخُلُق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية"، مشيرا هنا إلى فكرتين هما: الرسوخ والتلقائية، وبهذا المعنى يكون الخلق غير السلوك، فهو ملكة أو هيئة في النفس تكون منبعا للسلوك. وبعد أن دقق الراغب الأصفهاني في ذلك - ناقلا عن المراجع الأفلاطونية والأرسطية في الأخلاق، مستحضرا في الوقت نفسه المرجعية الإسلامية - قال: "جُعل الخلق مرة للهيئة الموجودة في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر، وجُعل مرة اسما للفعل الصادر عنه باسمه"، ويخلص الجابري إلى الاستنتاج بأن للفظ الخلق أربعة استعمالات: الأوَّل: هو معنى "القوى الغريزية" وهو قريب من معنى السجية والطبع. والثاني: هو معنى "الحالة المكتسبة التي يصير بها الإنسان خليقا أن يفعل شيئا، كمن هو خليق بالغضب لحِدَّة مزاجه. والثالث: أن يكون اسما للفعل الصادر عن الحالة، وهنا توحيد بين السلوك وبين الخلق دافعه الغريزي. والرابع: أن يكون اسما للهيئة والفعل معا، مثل العفة والعدالة والشجاعة.

 

ومن المسائل التي أثيرت بشأن تحديد معنى الخلق مسألة ما إذا كان الخلق يتغير أم لا يتغير. وقد صنف الأصفهاني الآراء هذه داخل الفكر الإسلامي في صنفين: صنف يرى أن الخُلُق من جنس الخِلْقة لا أحد يستطيع تغييره مستشهدين بقول النبي: «من أتاه الله وجها حسنا وخلقا حسنا فليشكر الله». أما الصنف الثاني فيرى أنه يمكن تغيير الخلق مستدلا بقوله : «حسنوا أخلاقكم». وقد درس الرازي هذه المسألة مستنتجا أن الإنسان له قوتان: قوة نظرية وقوة عملية، "والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية، والخلق يرجع إلى كمال القوة الفعلية، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر"، ومن جهة أخرى، يتابع الرازي: "والخلق في اللغة هو العادة كان ذلك في إدراك أو فعل، والدين ليس عادة ولا في معنى العادة". بينما مسكويه الذي اهتم بالأخلاق فنجد عنده تصنيفات أدق، وفي تغير الخلق يرى رأي أرسطو: أن "ليس شيء من الأخلاق طبيعيا للإنسان ولا هو غير طبيعي له، ذلك أننا مطبوعون على قبوله، وإنما ينتقل بالتأديب والمواعظ، إما سريعا وأما بطيئا". ويعلق الجابري هنا بأننا إزاء توظيف للمفاهيم اليونانية لصياغة التصور الإسلامي. فإذا انتقلنا إلى الماوردي نجده يستحضر الموروث الفارسي، فيفاجئنا بتصنيف جديد، مميزا بين "أخلاق الذات" العائدة إلى الفطرة، والتي منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم، و"أفعال الإرادة" تلك التي تصدر عن العقل أو الرأي أو الهوى، وهو تصنيف مثير للالتباس، ففي الفرق بين الرذيلة والفضيلة يبدو كأنه يتبنى رأي أرسطو بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين، ثم هو يجعل الناس في مستويين تبعا لتصنيفه: فأخلاق الأمراء والملوك هي "أفعال الإرادة" ومنها الكرم والمروءة، والباقي "أخلاق الذات"، وهي أخلاق مطلق الناس، والتمييز هذا ينطق باسم الموروث الفارسي.

 

ثم ينتقل الجابري إلى البحث في معنى "الأدب" في المعاجم والشواهد الشعرية، والدراسات الحديثة، مشيرا إلى قول طه حسين في أن الكلمة: "كانت تدل منذ العصر الأموي على هذا النحو من العلم الذي ليس دينا ولا متصلا بالدين، وإنما هو خبر أو متصل بالشعر والخبر"، ساكتا عن معنى آخر ظل ملازما لكلمة أدب منذ العصر الأموي وهو الأخلاق، فابن المقفع له "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير"، وقد أشار بوضوح إلى أنهما في "الأخلاق"، ويؤكد هذا أيضا عبد الحميد - كاتب مروان بن محمد - إذ استعمل كلمة أدب بمعنى أخلاق في كثير من نصوصه. لقد شبه ابن المقفع الأدب بالغذاء، فهو مجموع النقول والمرويات من الأخبار والأقوال المأثورة الداعية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى التحلي بمكارم الأخلاق. ولما كان ابن المقفع قد ترجم من الفارسية كلا من الكتابين ترجمة حرفية أو بتصرف، فقد جاز لنا -يقول الجابري-: "أن نعتبر الموروث الفارسي المصدر الأول للكتابة الأخلاقية (أو صناعة أو علم الأخلاق) في الإسلام، موضوع بحثنا في هذا الكتاب".

 

ويتابع: ولما كان الأدب على ضربين: أدب النفس وأدب الدرس - وكأن الجامع بينهما هو اجتناب الخطأ في السلوك اللغوي والسلوك الأخلاقي - فقد أوضح الماوردي شارح "أدب الدنيا والدين" هذا المعنى، إذ قال: "والأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، فيعم القول والفعل والخلُق". وفي مقابل هذا الوصل والربط هناك ميل قوي في التراث العربي الإسلامي إلى الفصل والتمييز بين "علم الدين" و"علم الأدب"، وقد روي عن ابن عباس: "كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب، أن تروي الشاهد والمثل". وفي هذا السياق يندرج التمييز بين " أدب السياسة" و"أدب الشريعة"، وهنا يقول الماوردي: "أدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عمّر الأرض"، ولا يستبعد هنا أن تكون "الآداب السلطانية" قد دخلت الثقافة العربية من باب الموروث الفارسي.

 

ويشير الجابري إلى أن الأدب في اصطلاح الفقهاء كالتكملة للسُّنة؛ ذلك "أن الواجب ما شرع لإكمال الفرض، والسنة لإكمال الواجب، والأدب لإكمال السنة." وعلى هذا الأساس تحدثوا عن آداب العبادات والتي جمعت فيما بعد تحت عنوان: "الآداب الشرعية"، وابن عربي يفضل استعمال لفظ "أدب" على لفظ "أخلاق"، ويقدم تصنيفا آخر للأدب متفرعا عن ثنائية شريعة/حقيقة التي تحكم التفكير الصوفي، وهو عنده قسمان: أدب الشريعة وأدب الحقيقة، وهما متقابلان؛ إذ الشريعة تؤخذ من الواسطة (الرسول)، أما الحقيقة فتؤخذ بالكشف عندما يصل المتصوف إلى درجة الفناء. فالشريعة أدب، والحقيقة ترك الأدب بالفناء في الله.

 

بعد هذه الجولة في المراجع الأساسية التي تمثل الموروثات الخمسة للتعرف على الكيفية التي يتحدد بها في كل منها مفهوم "أدب" ومفهوم "أخلاق" يجد الجابري أن هناك اختلافا في استعمالهما، وكأنهما أصبحتا قيمتين في ذاتهما، قيمتين متصادمتين ولو في خفاء.

 

لذا يعمد إلى تعريف لفظ " قيمة" و"نظام القيم" تمهيدا لتأكيد وجود " أزمة قيم"، فيخلص إلى: "أن نظام القيم ليس مجرد خصال حميدة، أو غير حميدة، يتصف بها الفرد، فتكون خُلُقا له؛ بل هو بالدرجة الأولى معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحددات لرؤية العالم واستشراف المطلق".

 

ثم يستعرض في الفصول الثلاثة التالية من هذا القسم: "أسباب حضور موروثات ثقافية في الساحة العربية، وهو حضور يتجاوز المستوى العادي لتداخل الثقافات، وكأنه ظاهرة لا يمكن أن تفسر إلا "بالغزو الثقافي" الذي يصاحب أو يتبع الغزو العسكري والسياسي" مركزا على "أزمة القيم" التي عانى منها المجتمع العربي الإسلامي، والتي أفرزتها " الفتنة الكبرى"، وعمقتها الأحداث والتطورات التي تلتها.

 

ولما كان النقاش حول معطيات هذه الأزمة قد ارتفع خلال العصر الأموي إلى مستوى " التعالي بالسياسة"، فقد فسح المجال للنظر والبحث عن حلول فكرية لأزمة القيم المستفحلة. وهذا النقاش -الذي أطلق عليه فيما بعد اسم " علم الكلام "- تعامل مع أزمة القيم مثيرا موضوعات هي من صميم البحث في الأخلاق، وقد استنتج الجابري هنا أن النتيجة كانت سلبية؛ فالمتكلمون -من معتزلة وأشعرية- بحثوا بعمق في موضوعات تعرف في الفكر الفلسفي "بالمشكلة الأخلاقية"، ففصلوا في قضايا الحرية والمسؤولية والجزاء، ووجهات الحكم على الأفعال، ورغم أنهم أجمعوا على أهمية دور العقل -سواء بوصفه شرطا في التكليف، أو ملكة لإدراك الحسن والقبيح، والتمييز بين الخير والشر- فإنهم لم "يخصوا القيم والأخلاق بنظر واستدلال، يتعامل معها كعلم قائم بذاته".

 

لذا عاد الجابري للتأكيد أنه "في البدء كانت أزمة قيم" هذه الأزمة التي تطورت سياسيا إلى "محاكمة النوايا بتوظيف أسئلة إرهابية حول مرتكب الكبيرة، والإيمان والكفر، والفرق بين الكافر والفاسق، والقضاء والقدر، والمسؤولية والجزاء...". وبدا واضحا تنويه الجابري بالحل الذي ابتكره واصل بن عطاء، بدعوته إلى منطق " ثلاثي القيم يقول بالمنزلة بين المنزلتين، بين الإيمان والكفر، مثبتا الخطأ في حق جميع الذين شاركوا في الفتنة الكبرى، ومنهم صحابة كبار، ولكن لا على التعيين"، هذا الحل فتح النقاش النظري والاجتهاد الفكري للبحث عن طريق لتجاوز الأزمة، "وهو حل معقول كمخرج نظري، ولكنه لم يكن مطلوبا ولا معقولا كمخرج سياسي؛ لأن المشكلة سياسية أصلا"، فالأمويون كانوا يطلبون حلا فكريا آخر صالحا للتوظيف السياسي لفائدتهم، حلا يتجاوز أزمة القيم التي تطورت إلى أزمة سياسية خانقة، عمقها تمزق المجتمع والدولة في آخر عهدهم.

 

فما هو الحل المطلوب الذي يكرس قيما جديدة تخدم وحدة المجتمع والدولة؟ لقد وجدوه -يقول الجابري- في" قيمة الطاعة"، وهي قيمة كانت جاهزة في الموروث الفارسي، ملائمة لطبيعة الأزمة؛ لأنها تربط بين وحدة الدين والملك، وتجعل طاعة صاحب الدولة من طاعة الله.

 

أما القسم الثاني من الكتاب -الذي عني بنظم القيم الموروثة- فقد بدأ في بابه الأول بدراسة "الموروث الفارسي" أو "أخلاق الطاعة"، وهنا يؤكد الجابري أنه في هذا القسم كله لا يدرس الثقافة بوصفها أنماطا من التعبير الفكري أو السلوكي؛ أي أنه لن " يمارس البحث الأنثربولوجي ولا السوسيولوجي ولا السيكولوجي، وإنما هو نوع من التحليل التاريخي النقدي الذي يتحرك على مستوى الثقافة العالمة، فيما كتب وألف في مسألة القيم"، انطلاقا من سؤال: كيف اتخذت قيم الموروث الفارسي مسارها في الثقافة العربية؟ وعلى أي مستوى؟ وكيف كانت علاقتها بقيم الموروثات الأخرى؟ وإلى أين انتهى بها الأمر؟

 

هذه الأسئلة المؤسسة للبحث يليها سؤال البداية: "إن العصر الأموي الذي كان عربيا خالصا، والذي شهد التعصب للعرب وثقافتهم، ألم يكن في موروثه -أي الخطابة والشعر والرسائل- ما يسد الحاجة إلى التخفيف من أزمة القيم، دون الحاجة إلى الاستعانة بنظام للقيم يقع خارج الثقافة العربية وموروثها؟"

 

أن هناك حشدا هائلا من الخطب التي احتفظت لنا بها المراجع كانت حاضرة في هذا العصر في كل مكان، إلى أن نشطت حركة التأليف في الأدب، فكانت في جملة ما دون، بوصفها قولا أدبيا ضروريا "لأدب اللسان"، ومن خلاله صارت -عن قصد أو عن غير قصد - جزءا أساسيا من "أدب النفس"، يكرس عبر العصور-وإلى اليوم- قيما سياسية ودينية، فضلا عن القيم الأدبية، ومنها قيم الاستبداد القبلي بسلطة قول بليغ مشحون بالتهديد والوعيد.

 

والعصر الأموي لم يكن عصر خطابة فقط؛ بل شهد في أواخره ظاهرة أدبية تسمى "الترسل"، فرسائل ملوك بني أمية كانت من أهم الوسائل لنشر القيم، قيم الطاعة على الخصوص، تقرأ في المساجد والساحات... والترسل صيغة تفيد معنى التكلف، فإذا كان موضوع الرسالة "أمراً" يحتاج إلى جملتين، فإن الترسل هو صياغة هذا الأمر في نص بلاغي تتزاحم فيه الاستشهادات في قالب لغوي، يراد لها أن تقوم مقام التبرير الديني والبرهان العقلي. هذه الطريقة في الكتابة أعيد إنتاجها عبر العصور، وصارت تقلد وتتعلم، ولأنها تجمع بين البلاغة وبين الدعوة إلى التحلي بقيم معينة، اعتبرت النموذج الأعلى "للأدب الذي يجمع أدب اللسان وأدب النفس"، من هنا صار الترسل أول صيغة من صيغ التأليف في " الأخلاق" في الثقافة العربية الإسلامية. والفرق بين الخطابة والترسل -على مستوى آليات التأثير- أن الخطابة تلجأ إلى توظيف ضمير المخاطب للتأثير على المتلقي، بينما تلجأ الرسائل إلى ضمير الغائب، فتضفي على الغائب ما يفرض حضوره على المتلقي، من أوصاف وألقاب تحول غيابه إلى حضور دائم، إلى خلود. وترفع منزلته، فيتحول الخطاب إلى رسالة تعج بالقيم الدينية والأخلاقية التي تتحول بتكرار الألفاظ المعبرة عنها إلى قيم نمطية تفرض نفسها كعادات أخلاقية، وهكذا تصبح الطاعة مثلا قيمة لا تقبل النقاش عندما يتكرر ربط طاعة الأمير بطاعة الله، وتصبح الخلافة وضعا لا يجوز المس به، عندما يتكرر ربطها بـ"خلافة الله".

 

بعض "الكتّاب" الذين أسسوا لهذا النوع من الأدب أطلق عليهم لقب " المؤدب"؛ أي المعلم/المربي الذي يؤدب أبناء الأريستقراطية القبلية الأموية. وعبد الحميد (الكاتب) - والذي كان معلم صبية، ثم صار كاتب مروان بن محمد - يعدّ المؤسس الفعلي لخطاب الترسل هذا. في رسائله - كما في رسائل سالم الذي سبقه- " قيمة مركزية، هي قيمة القيم كلها، "هي الطاعة"، فمن أراد الله إسعاده وتوفيقه وتبصير حظه لزمها وعرف حقها...".

 

خطاب الطاعة الذي ابتدعه سالم وعبد الحميد لا نجد مرجعيته في الخطاب المؤسس لشرعية الحكم لدى الأمويين، كما لا نجده في القرآن، بل إن القرآن يطرح مفهوم الطاعة بشكل مختلف (هناك آية وحيدة تدعو إلى طاعة أولي الأمر) والنبي يقول: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فهي طاعة تراض وتوافق، كما أن الطريقة التي اعتمدتها نصوص سالم وعبد الحميد لم يسبق لها مثيل في الثقافة العربية، فأية مرجعية وراء هذا النوع من الخطاب؟

 

لقد اعتُمدت الدواوين (والكلمة فارسية) ونقلت إلى العربية زمن عبد الملك، والكتاب كانوا يتقنون الفارسية، وهنا يؤكد الجابري "أن معلوماتنا عن صلتهم بالثقافة الفارسية لا تترك مجالا للشك في هذا الحضور المبكر للموروث الفارسي في عملية تأسيس الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية"، ثم يتابع مستشهدا برسالة لعبد الحميد من نوع جديد، وجهها إلى معشر الكتاب؛ أي "طبقة الكتاب" التي ينتظم الملك بتدبيرها، مستوحيا دور هذه الطبقة في الإمبراطورية الفارسية، لينتهي بخلاصة تقول: "لقد بدأ خطاب الجبر والطاعة في نصوص الأمويين خطابا براغماتيا واقعيا واقعية "العصا لمن عصا"، ثم عندما ضعفت العصا وجدت الدولة المهزومة في كُتّابها الذين غرفوا من الموروث الفارسي ما مكنها من تعويض هشاشة العصا بسلطة القلم وسحر اللغة".

 

أما الدولة العباسية - يتابع الجابري- التي لم توظف الدين حين الدعوة، فقد تحولت بمجرد انتصارها إلى دولة تبني شرعيتها على الدين وتحكم باسمه، فقيل: "إنها ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تدينا، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة".

 

وهذا المفهوم لا يقول به الإسلام، لا على مستوى نصوصه ولا على مستوى تجربته التاريخية، إنه الموروث الفارسي الذي تم الشروع بنقله على عهد هشام بن عبد الملك، والذي غرف منه سالم وعبد الحميد، وله في العصر العباسي الأول حضور غزير: مؤلفات ذات أصل فارسي، أخبار وحكايات عن تاريخ الفرس، أقوال مأثورة مقتبسة لا تخلو منها كتب الأدب، والتي في مجال القيم تتمحور حول موضوعين: علاقة الدين بالملك من جهة، وعلاقة الطاعة بالعدل من جهة أخرى، وهذان الموضوعان يعودان إلى ملكين فارسيين هما: أردشير وكسرى أنوشروان.

 

اشتهر أردشير في كتب الأدب بوصيته السياسية إلى الملوك والمعروفة بـ"عهد أردشير"، وقد ترجم إلى العربية في أواخر العصر الأموي، وفيه" نَشْرُ وتكريس القيم الكسروية" من: أهمية توظيف الدين في تأسيس الدولة، وكيفية تأديب العامة وتدبيرها لتطيع وتعظم ملوكها، والأخلاق التي يجب أن تبنى عليها العلاقة بين الدين والملك وبين الملك والرعية، فالنظام الطبقي هو قيمة القيم، وهو يسمح أن يمارس الأعلى سلطته على الأدنى ولو بعنف، وهو عنف مبرر أخلاقيا ويسمى العسف، وهو التضحية بالبعض لصلاح الباقي".

 

كما اشتهر أنوشروان بتحالفه مع الأريستوقراطية المدنية والدينية، فتحدثت النصوص عن سيرته العادلة التي تؤكد أنه أعاد ترتيب الطبقات، وهو " العدل" في الفكر القديم، وإذا كان العدل مطلوبا في كل زمان، فهو قيمة في الأخلاق الكسروية ليست من أجل ذاتها، بل من أجل النظام نفسه "لتحصين الملك".

 

والجاحظ في كتابه "أخلاق الملوك" يقول: إن مصدره الأول فيه "ملوك الفرس"، وفيه: أنه ليس لأخلاق الملك الأعظم نهاية، ثم يتحدث عن الدخول على الملك، ومطاعمته، ومنادمته...وأن تقرب العامة إليه لا يكون إلا بالطاعة، وهذه هي القيم الكسروية التي انتقلت إلى المجتمع العربي الإسلامي.

 

ثم يستشهد الجابري بكتب ابن المقفع "أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وأيديولوجيا الطاعة في الساحة العربية الإسلامية" التي تجمع بين أدب اللسان وأدب النفس، مما جعلها "مرجعا خالدا" لمتعلمي العربية والمولعين "بالحكم"، وهو يرى أن "كليلة ودمنة" قسمان: الأول يركز على طاعة السلطان، والثاني يركز على خطر صحبته، ومصدر القسم الأول فارسي، مع إضافة من المترجم /المؤلف نفسه، ومصدر القسم الثاني هندي، أما هدف الكتاب فظاهره سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية، والكتاب يحدد فن أو "علم الأخلاق والسياسة"، الذي عرف من الموروث الفارسي "بالأدب"، ثم أطلق عليه فيما بعد "الآداب السلطانية". وفي الكتاب تناقض يبرره الجابري بتلون أخلاق السلطان التي لا تثبت على حال، أما الثابت فهو " الحذر"، والتناقض هذا يطبع "الآداب السلطانية" على العموم، وهو في الحقيقة أدبان: أدب السلطان الذي يجعل من الطاعة القيمة المركزية، وهو" الأدب الكبير"، و"أدب الكاتب" الذي يستحضر معاناة الكتّاب مع السلاطين، فيكتب في "صحبة السلطان"، وهو "الأدب الصغير" الموجه إلى الكتاب. وفي هذه الكتب نصائح كثيرة في الأخلاق، مستمدة مما ترجمه ابن المقفع من " القيم الكسروية" في أسلوب عربي "مبين"، رآه بعضهم نموذجا في الكتابة.

 

لقد كان ابن المقفع وعبد الحميد صديقين، تجمعهما المهنة والمحنة، وهما معا صاحبا مشروع نقل القيم الكسروية إلى الحضارة العربية، وتصرفهما ليس عن سوء نية؛ بل ما يمكن افتراضه - يقول الجابري- هو أنهما -بحكم وظيفتهما، وتفكيرهما بمصير الدولة العربية- كانا يفتشان عن بديل، وقد وجدا ذلك جاهزا في الموروث الفارسي، فاستوحيا منه شروط الإنقاذ ووسائله، وقدما ذلك كأيديولوجيا جاهزة للدولة العباسية الناشئة.

 

عندما توفي ابن المقفع كان قد مضى على الدولة العباسية نحو عشر سنوات، وعلى رأسها أبو جعفر المنصور الذي تبنى القيم الكسروية في كل مجال، فكان "النفوذ الفارسي" هو الذي طبع العصر العباسي الأول، مما ولَّد - مع مرور الزمن- ردود فعل مضادة تمثلت في "التجنيد لتدوين الموروث العربي الإسلامي في اللغة والشعر وأخبار العرب". وكانت النتيجة أن ظهرت الموسوعات الثقافية التي سميت: "كتب الأدب"، وقد اتخذ صنف من هذه الكتب شكل "سوق للقيم"؛ لكنه بقي محكوما برؤية من القيم السابقة نفسها وهي القيم الكسروية.

 

أول الذين دشنوا هذا النوع من التأليف هو ابن قتيبة (الدينوري النيسابوري) وهو الموسوعي المنفتح، والذي عاش في عصر "الانقلاب السني" على المعتزلة ونهاية النفوذ الفارسي، ومن الناحية الثقافية عاش المرحلة الثانية من عصر التدوين، حين غطت الثقافة العربية الإسلامية جميع حقول المعرفة المعروفة يومئذ، العقلية منها والنقلية. هذا الحقل المعرفي الجديد هو" الأدب"، وقد ألف ابن قتيبة فيه "عيون الأخبار"، والذي كان وما يزال أشهر كتبه. يقول ابن قتيبة: "فإن هذا الكتاب وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين...فهو دال على معالي الأمور، مرشد لطريق الأخلاق، زاجر عن الدناءة، باعث على صواب التدبير وحسن التقدير، ورفق السياسة وعمارة الأرض". هو "فن الأدب"، فن جامع، هدفه " تحقيق النجاح في الحياة لجميع الفئات والطبقات"، مما يقتضي الانفتاح على الثقافات كافة، أما مرجعياته فكثيرة صادرة عن أن "العلم ضالة المؤمن". هذه "الليبرالية" هي الاعتراف بالاختلاف وعدم التعصب لأي مصدر.

 

والكتاب، وإن كان ذا مظهر عربي إسلامي وقيمه لا تتعارض مع القيم العربية الإسلامية؛ فإنه في "سوق القيم" استمر في الإشادة بالقيمة المركزية نفسها المستمدة من الموروث الفارسي، وهي السلطان، وبالتالي "الطاعة"، وقد جاء ترتيب أبواب الكتاب مراعيا ذلك، فأولها: كتاب السلطان، ثم كتاب الحرب، فكتاب السؤدد، ثم كتاب الطبائع والأخلاق...فكتاب النساء، وهو نظام القيم المعروف، حيث السلطان في قمة الطبقات، والمرأة في آخره، وهي المرأة/البضاعة، لا الذات، كما في نظام القيم السلطاني تماما.

 

والشاهد الثاني على هذا النوع من كتب الأدب كتاب ابن عبد ربه الأندلسي " العقد الفريد"، والذي استنسخ نموذج ابن قتيبة نفسه بما يحمله من قيم كسروية، بقصد أو بغير قصد. وهو في خمسة وعشرين كتابا، انفرد كل كتاب باسم جوهرة، مرتبة حسب قيمتها، وقد نظر ابن عبد ربه إلى القيم نظرة جمالية ونظرة منطقية، مع التناقض الذي بينهما، فإذا ضحينا بالنظرة الجمالية في نظم الجواهر على أساس تكافؤ المتقابلات -يقول الجابري- نجد أن منطق التسلسل ينسجم مع طبيعة النظام الكسروي، أما "جديده" فهو "الفرش" الذي قدم به لكل جوهرة في كتابه. فأغلى جوهرة عنده هي "اللؤلؤة في السلطان" التي قدم لها بخطاب طويل ملخصه أن طاعة السلطان من طاعة الله، ثم اقترح "عقدا" بين الراعي والرعية، مضمونه أنه "على الرعية ألاّ تحاسب الإمام على كل شيء؛ بل عليها أن تنظر إلى جملة أعماله، فتسكت عن مساوئه في سبيل حسناته، فتتغاضى عن ظلمه وطغيانه، مقابل ما يوفره من أمن، وفي مقابل هذا السكوت من جانب الرعية يسكت الراعي عما في ضمائرها من "الكلام" فيه وعدم الرضى من تصرفاته".

 

والشاهد الثالث في هذا النوع من الأدب كتاب الأبشيهي "المستطرف في كل فن مستظرف"، والذي يضم أربعة وثمانين بابا، يقول الجابري فيه: "يضع المستطرف القرآن والحديث على رأس قائمة مراجعه مجتهدا، وأحيانا بتكلف، في الانطلاق عند الكلام في كل موضوع، من آية أو حديث...أما سلسلة الأبواب فقد تعرضت لانحراف بنيوي فيه؛ إذ بدأ بمعرفة الله بالنقل والعقل قبل باب خدمة السلطان... وفي فحص المضمون ما يدلنا على أن ما حدث ليس التحرر من أخلاق الطاعة بل أسلمة هذه الأخلاق نفسها، يعني تسخير القرآن والحديث (وكثير منه موضوع) لتكريس الطاعة كقيمة مركزية في هذا المستطرف كله".

 

ويختم الجابري مختصرا في عرضه كتاب القلقشندي " صبح الأعشى في صناعة الإنشاء"، والذي يجده: "أوسع "أسواق الأدب" في الثقافة العربية "(أربعة عشر جزءاً في 500 صفحة لكل جزء) يروج أيضا لأخلاق الطاعة، متوجها إلى "الكاتب السلطاني" ليثقفه ثقافة دنيا بقيمها وأخلاقها، فهو مدرسة لتخريج الكاتب السلطاني.

 

ثم يجمل الجابري ما كتبه في الموروث الفارسي مشيرا إلى أن الترسل وحكمة العجم وأسواق الأدب روجت على مدى ثمانية قرون لنظام قيم يحتل فيه السلطان - وبالتالي الطاعة- موقع القيمة المركزية، مضيفا أن المعارضين للأمويين استنجدوا أيضا بالموروث الفارسي، فَالفِرَق التي ظهرت في صفوف الشيعة - زمن هشام بن عبد الملك - غلوا في حق أئمتهم، وهذا النوع من التعظيم غريب عن الأفق العربي والاسلامي، وقد أكد الشهرستاني أنه يعود إلى الموروث الفارسي، وأخلاق الطاعة انتقلت عدواها أيضا إلى حظيرة أهل السنة، "ونحن ندهش من كثرة الأحاديث التي تروى في هذا الموضوع، مما يؤكد اختراق القيم الكسروية للموروث الإسلامي الخالص في أسمى أصوله بعد القرآن".

 

ينتقل الجابري من ثم في الباب الثاني إلى دراسة الموروث اليوناني أو " أخلاق السعادة"، فيشرح تحت عنوان " الأصول" بداية " الفلسفة"، وأن الأوائل من الفلاسفة اليونانيين كانوا علماء طبيعة، شغلهم إرجاع الظواهر الطبيعية إلى مبدأ واحد. واستقروا أخيرا على عَدّ العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار مكونات لجميع الأجسام بما في ذلك جسم الانسان. وقد وجدوا مقابل هذه المكونات قوى تتفاعل لتنتج الطباع والسلوك عند الإنسان، وعلى أساس نظرية الأخلاط والقوى كانت تفسر أخلاق الإنسان، في "نظرية طبية للأخلاق"، قام إلى جانبها من قال بأن التغيير هو المبدأ، وليس الثبات على مبدأ واحد، وبعد نقاش "المدارس الفلسفية" المبكرة ظهرت نظرية تقول إنه ليس في العالم شيء له حقيقة خاصة يمكن أن نجعل منها أصلا للكون، وإنما هو الإنسان الذي يضفي على الأشياء ما يراه حقائق ثابتة، فالإنسان هو مقياس الأشياء، كما أنه مقياس الشر والخير.

 

والنظرية الأخيرة هي ما عرف بالسفسطائية، وقد اتخذها بعضهم مذهبا، فنشرها ووظفها في الحياة العملية لتحقيق النجاح، وهكذا، فبدلا من الأساطير التي كانت تُعدّ مصدر القيم، أصبح الانسان نفسه -بعلمه ومهاراته- هو المنتج للقيم. وجاءت ردة الفعل على هذه النزعة من سقراط، الذي كان سفسطائيا ثم نأى بنفسه عن الجوانب السلبية في هذا المذهب محتفظا بالمنهج، مدشنا طريقة تتجه بالحوار وجهة إيجابية، يفرضها العقل، وقد اهتم بإثبات أن وراء الحس ماهيات هي "القيم"، ولمعرفة الخير يجب معرفة النفس، وحكمته: "اعرف نفسك بنفسك"، فالمعرفة هي الفضيلة، ونحن نخاف ما نجهل، إذن سعادة العالم لا تزول وهي الخير الأعظم.

 

ويأتي أفلاطون -تلميذ سقراط- ليوسع هذه الأفكار، فيفصل في عالم المُثُل، حيث النماذج الثابتة، ويتحدث عن قوى البدن وفضائلها، وأن التوازن بينها هو عماد الحياة السعيدة، وأن السعادة لا تكون مع الجهل، ولو كان الجهل مقرونا باللذات كلها. ولا يرى افلاطون مانعا من تحصيل العلوم جميعها مع ضرورة التمييز بين اللذات الحقيقية وتلك الشهوانية التي هي في الحقيقة فترات تفصل بين ألمين، فاللذات التي تتناغم مع العلم تزداد بازدياده، فيتحول العلم إلى لذة واللذة إلى علم، ومثل هذه اللذة نموذج من السعادة المطلقة وهي في الوقت نفسه الخير المطلق، والوصول إليه يحتاج إلى تدبير، إلى سياسة النفس، وهي تتلخص في تحقيق العدالة بين قوى النفس الثلاث، ولما كان الإنسان عضوا في المدينة لا يمكنه أن يعيش بمفرده، فسعادته تتوقف على تحقيق التوازن والعدالة بين القوى التي تتكون منها المدينة، وهكذا قدم أفلاطون جوابه عن كيفية تحقيق ذلك في محاورته المعروفة "الجمهورية", والتي ترجمت إلى العربية باسم "كتاب السياسة".

 

وننتقل إلى أرسطو الذي لم يعتمد منهج الحوار، بل أخذ على عاتقه تجميع المعارف التي راكمها اليونان، إضافة إلى أبحاثه الخاصة، وتصنيفها حسب موضوعاتها، ومعالجة كل صنف معالجة علمية، وبناء قضاياها بناء برهانيا. ففي "كتاب الأخلاق" اعتمد منهج الاستقراء في مقالاته العشر، بادئا "بالسعادة" ثم "الفضيلة"...حتى "الأخلاق والسياسة"، هادفا إلى شرح تصوره عن السعادة وكيفية تحصيلها بالأخص عند الفيلسوف، وقد خلص إلى أن السعادة خاصة بالإنسان العاقل، المدني بالطبع، ولكن هل تدوم؟ هنا يطرح أرسطو علاقة السعادة بالحياة والموت، فيجد أنها مرتبطة بالفضيلة الكاملة، وجعل الفضائل خُلُقية مثل الحرية والعفة، وفكرية مثل الحكمة والفهم، وهذه الأخيرة تكتسب بالتعليم والدربة. ولتحديد الفضيلة توصل إلى نظرية "الوسط"، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، إحداهما بالزيادة (الإفراط)، والأخرى بالنقصان (التفريط). ولمعرفتها لا بد من العمل لها والتحلي بها، ولأن الإنسان مدني بالطبع، فلا بد من نواميس لتنظيم تعليم الفضيلة للصغار وحمل الكبار عليها، وهذه "الصناعة" هي علم السياسة.

 

وبعد هذا العرض الذي يَعُدُّه الجابري ضروريا لفهم الكيفية التي وظفت الموروث اليوناني في الفكر العربي، يستعرض تيارا" تعرض للإهمال مع أهميته البالغة في مجال الأخلاق"، وهو المرتبط بالطبيب جالينوس.

 

كان جالينوس "أمة وحده" في الطب، وكان له اهتمام بالفلسفة والأخلاق، وهو في هذا المجال أفلاطوني الاتجاه، قال بنظرية طبية ترجع الأمراض جميعها إلى اختلال توازن الأخلاط، وأضاف نظريته في " الأمزجة"، فجواهر النفوس مختلفة باختلاف أفعالها وانفعالاتها، ولذلك هي مختلفة في قواها تابعة للمزاج. وقد عزز جالينوس نظريته هذه بما قررته كتب " الفراسة" التي تدل على أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن، ففينا جميعا بذور الفضائل والشرور، والصحة تكون في اعتدال المزاج.وهذا ما قرره أفلاطون فلسفيا وشرحه جالينوس فيزيولوجيا.

 

ثم ينطلق الجابري في فصلين متتاليين لدراسة النزعة العلمية في الفلسفة العربية، مبتدئا بكتب الكندي "العالم بالطب والفلسفة، صاحب النزعة الأرسطية"، والذي لم تسبق علاقته بجالينوس أن أثارت الاهتمام. ففي كتابه عن "دفع الأحزان" وسبل اتقائها نجد نصائحه جالونيسية. كذلك رسالة الرازي "في إصلاح الأخلاق" في كتابه " الطب الروحاني"، يبدو فيها أنه يتعامل مع النفس من منظور مهنته كطبيب يعالج مريضا، وهكذا ترتبط أخلاق "الطب الروحاني" عند الرازي من حيث مادتها وأفقها العلمي بجالينوس. وهناك كتاب لثابت بن سنان (الحراني) بعنوان "تهذيب الأخلاق" لم يعرف شهرة كتبه الأخرى، ذهب فيه "بطب الأخلاق" إلى أقصى مدى، إلى أبعد من جالينوس والرازي، وهو كتاب علمي في الطب النفسي، جعله في سبعة أبواب، وختمه بنداء إلى الموسرين يطلب فيه إنشاء بيمارستان خاص لطب الأخلاق على غرار بيمارستانات طب الأبدان؛ لكون أمراض النفس معدية.

 

ثم يثير الجابري مسألة تعدد نسب كتاب "تهذيب الأخلاق"، المنسوب تارة إلى الجاحظ، وتارة إلى يحيى بن عدي، وتارة إلى ابن عربي، والذي لا يتوافق مضمونه إطلاقا مع طريقة أي منهم، ويرى أنه لابن الهيثم " مفندا آراء كثيرة في المخطوطات المعتمدة، ومبينا أهمية الكتاب هذا " لبساطة أسلوبه، واستقامة عبارته، وتسلسل أفكاره بمنهجية محكمة، وخلوه من الحشو... وهو يتجه إلى المحافظة على الصحة وإزالة المرض وتحديد نظام في الحياة يضمن أعلى درجة من الصحة الجسدية والنفسية للإنسان"، ثم يفصل أبوابه.

 

ولابن حزم الأندلسي رسالة في الأخلاق مشهورة بعنوان: "رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل" نشرت مرات بالعربية، ويقول الجابري فيها: "لكننا لم نعثر فيما اطلعنا عليه على أية محاولة لتحديد موقع هذه الرسالة في الفكر الأخلاقي العربي... هذه الرسالة التي بقيت في مجال "الشرود" تنتمي أيضا إلى "النزعة الطبية"، وتقع داخل نطاق "أخلاق السعادة"، وتنتمي كمضمون إلى الموروث اليوناني وإلى جالينوس بالتحديد".

 

ويخلص الجابري في نهاية هذين الفصلين إلى أنه بعد إدخال كتاب ابن الهيثم وابن سنان في الحساب، برزت النزعة الطبية العلمية في الفكر الأخلاقي العربي واضحة جلية، ومع أنها كانت امتدادا لفكر جالينوس فهي لا تخلو من مظاهر الاستقلال، فأصحاب هذه النزعة ليسوا سجناء جالينوس ولا مجرد مقلدين له.

 

ويتابع: "كما أننا في عرضنا هذه النماذج نجد أنفسنا إزاء حقل في التفكير خال من تأثير القيم الكسروية، فالقيمة الوحيدة هنا هي الفرد الإنسان، فالفضائل فضائل الجميع والرذائل كذلك. ومن الجوانب الإيجابية في هذه النزعة شجب لاصطناع الزهد، والإلحاح على اعتماد الاعتدال في كل شيء، كما يسجل حرص هذه النزعة على الرفق بالحيوان، وعبارات الرازي مهمة في هذا المجال. ويختم الجابري: "ألسنا هنا إزاء قيم تنسف نسفا جميع القيم الكسروية التي توصي أن تجعل الناس طبقتين... ويخلو قاموسها من المحبة والتحنن... وتضع مكانهما الحذر و"افترسه قبل أن يفترسك"؟

 

ثم ينتقل الجابري في الفصلين التاليين إلى دراسة النزعة الفلسفية، مبتدئا بفلسفة الفارابي، المعلم الثاني بعد أرسطو، الذي فصل في" أخلاق السعادة"، "لكن لا السعادة لجميع الناس بل تلك التي تخص الفيلسوف، والذي فصل في السياسة أيضا، لكن لا السياسة التي تعنى بتشييد المدينة الفاضلة؛ بل إلى نظريات وعقائد إذا عرفها أهل مدينة وعملوا بها صارت مدينتهم فاضلة، فنظام القيم لدى الفارابي ليس أفلاطونيا محضا ولا أرسطيا محضا، بل هو نظام يجمع بينهما ويجمعهما مع أشياء أخرى".

 

وفي الأخلاق للفارابي كتاب" التنبيه على سبيل تحصيل السعادة" يقول فيه: "السعادة هي غايةٌ ما، يتشوقها كل إنسان، إنها كمالٌ ما"، والكمال مفهوم أرسطي، والأخلاق التي منها الجميل ومنها القبيح، "مكتسبة بالاعتياد، ولما كانت من عوارض النفس كالأفعال، فمتى كانت على حال التوسط والاعتدال، حصل منها الخلق الجميل، والصناعة التي مقصودها الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة، وتسمى الحكمة".

 

وإلى السياسة ينتقل الفارابي ليعرفنا على مجال" تطبيق السعادة "بعد التعرف عليها، وهي "المدينة الفاضلة"، وهو لا ينتقل مثل أرسطو من الأخلاق إلى المدينة؛ بل من الميتافيزيقا إلى السياسة، أي من نظام الكون إلى نظام الاجتماع، وله هنا كتابان، يكرر الواحد منهما الآخر، هما: "مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة"، و"كتاب السياسة المدنية الملقب بمراتب الموجودات"، وفيهما محاولة الفارابي "تشييد مدينته الفاضلة على غرار مدينته الإلهية"، مبتعدا في ذلك عن مفهوم كل من أفلاطون وأرسطو، وواقعا تحت تأثير إشكاليات علم الكلام الإسلامي، فدراسته وضع رئيس المدينة- وهو القيمة الأولى ومصدر القيم كلها- ومن يليه في الحكم، جعلت البعض يتهمه بأنه إسماعيلي الهوى، يقول الجابري: "الفارابي لم يكن فاعلا سياسيا، بل كان فيلسوفا كلاسيكيا، لم يطمح إلى التغيير، وكان كل طموحه الجمع والتوفيق، لكن المقارنة بين نموذج أردشير ورئيس المدينة الفاضلة عند الفارابي تبدو أكثر إغراء، فهل استحضر هذا النموذج شعوريا أو لا شعوريا؟ ليبقى السؤال مفتوحا: متى يتحرر الحلم العربي الإسلامي من نموذج أردشير؟".

 

وفي الباب الثالث من الكتاب يدرس الجابري "الموروث الصوفي" أو "أخلاق الفناء وفناء الأخلاق"، موطئا باستعادة الكلام في هدف الكتاب، وأنه "كتابة تاريخ الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية، يطمح إلى تدشين القول في نقد هذا الفكر بوصفه يحمل ويروج لنوع من القيم السلبية، ما زال كثير منها يؤثر في السلوك ويوجه الرؤى في حياتنا المعاصرة".

 

وهكذا فـ"أخلاق الفناء" وفكرة "الفناء" هي أبعد ما تكون من "أخلاق الحياة" كما قررها القرآن والنبي بسلوكه وحديثه، والصحابة بممارساتهم التعبدية والدنيوية. هذا إلى جانب أن فكرة "الفناء" لا تستقيم قط مع عقيدة التوحيد كما قررها القرآن، فإذا لم يكن لها أصل ولا مرجعية في الموروث الإسلامي؛ فلا بد أن تكون وافدة إما مع الموروث الفارسي، وإما مع الموروث اليوناني، ويكون كلام بعض المتصوفة بأن علم التصوف انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالقرآن والسنة ادعاء بعيدا عن الحقيقة التاريخية لأصول التصوف، النظري منه والعملي.

 

وإذا أضفنا أن الدين الذي قامت هذه الحضارة على أساسه يبشر بقيم إيجابية نحو الحياة، أدركنا أيّ "لغز" ينطوي عليه انتشار أخلاق الفناء في الحضارة العربية، ولا بد أن يتجه التفكير بالباحث عندئذ إلى "العامل الخارجي".

 

بداية وصل الجانب النظري -أي العرفان كنظام معرفي- مع الموروث اليوناني إلى الثقافة العربية الإسلامية، عبر مدارس الإسكندرية ثم أنطاكية وأفامية، وكان المتصوفة يمارسون التصوف العرفاني -مثل ذي النون المصري- كأفراد، كما حدثتنا المصادر عن "صوفية" ظهروا في الإسكندرية عام 200 للهجرة ترأس عليهم أبو عبد الرحمن الصوفي، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي سورية والعراق -كما في مصر- عرف "سائحون" و"عباد" من المسيحيين وغيرهم، كانوا يتحركون كأفراد.

 

فإذا انتقلنا إلى الكوفة والبصرة في أواسط العصر الأموي فسنجد ظاهرة مختلفة تماما: إنه الموروث الصوفي الفارسي بأشكاله المختلفة. ففي الوقت الذي تبنت فيه الدولة سلاح القيم الكسروية لتحارب به الحركات المعارضة، بعد أن ألبسته لباسا إسلاميا، عمدت بعض هذه الحركات إلى تبني السلاح نفسه، وعملت هي أيضا على إلباسه لباسا إسلاميا، فجعلت من "أخلاق الفناء" بالتأويل، أخلاقا إسلامية، بهدف توظيفها ضد الحكام الأمويين، إن لم يكن ضد "دولة العرب" ككل.

 

وينقل الجابري: "وهذا يؤكده باحثون إيرانيون معاصرون، منهم د. قاسم غنيم الذي يقول: كان الفرس -الذين يعتبرون أنفسهم أبناء الأحرار، وكانوا ينتقصون العرب في زمن الساسانيين- قد وصلوا إلى درجة من الذل والهوان بحيث أطلق عليهم الموالي، وصاروا في عداد العبيد وأبناء الأسرى، وبلغت الحال بمصعب بن الزبير ضرب أعناق أربعة آلاف رجل منهم في يوم واحد وذلك بعد تغلبه على المختار. ويضيف الشيبي الذي أورد هذا الرأي قائلا: وهو يرى مع براون أن التشيع والتصوف كانا من الأسلحة التي حارب بها الفرس العرب للقضاء عليهم. ويقول باحث إيراني آخر في مقدمة ترجمته لكتاب د. غنيم: وقد ظهر التصوف في إيران في عصر تسلط فيه على وطننا عدو قوي، فلما لم يجد الإيرانيون في أنفسهم قدرة على مخالفة الأعداء ومبارزتهم سلكوا سبيل الهزيمة واتخذوا القوى الغيبية معتقدا لهم، وألقوا سلاحهم في ميدان تنازع البقاء، وعلى هذا فقد كان التصوف حينئذ ضرورة من الضرورات وليس اليوم كالأمس. ويؤكد د. قاسم غنيم أن ذلك لم يكن عن خطة ولكن كان أكثر ذلك متأتيا بحكم الانفعال النفسي وبتأثير العواطف"(ص432).

 

ثم يستعرض الجابري تاريخ الزهاد "ملوك الآخرة" في الكوفة والبصرة، وأنه جاء من فارس، ومن أوائل الزهاد في خراسان إبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، وهؤلاء كانوا أغنياء، فالزهد عندهم سياسي جماعي، مما يؤكد أن الزعامة كانت في جملة الدوافع التي تحرك " أمراء الزهد"، ويشير إلى أن "أزمة القيم" التي مرت في إثر الحرب المأساوية الأهلية أوقعت " الضمير الديني " في أزمة أيضا، مما عبر عنه البعض "بالحياد" و"اعتزال الفتنة"، فعرفنا الزهاد و"التوابين".

 

ويعرض الجابري من ثم فصلاً يطلعنا فيه على "آداب التصوف"، وهو ثالث أنواع الأدب: أدب أهل الدنيا، وأدب أهل الدين، وأدب أهل الخصوصية؛ أي المتصوفة، والأدب عندهم عظيم الشأن " فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد". والمتأدب بآداب الصوفية هو "المريد" "المسافر" الذي يريد الوصول إلى الله، فينقطع عن أهل الدنيا؛ ليبني علاقات مع: الشيخ المرشد، والأصحاب رفاق الطريق، والله فقط.

 

هذه" الصحبة" هي "فريضة" في نظر المشايخ والمريدين، وهي "إطار للتكوين"، تكوين الجماعات من المريدين، التي لكل منها "شيخها". ويؤكد القشيري في رسالته (في علم التصوف) ضرورة الشيخ للمريد وضرورة خضوع المريد للشيخ والتماس رضاه، ويضيف: "وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته... ومن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. "فيعلق الجابري: "فتأمل كيف يعملون على امتلاك البسطاء المريدين الجدد"، فالمريد يستأذن شيخه في كل أمر، ولا يخالفه، "إنه الفناء في الشيخ... ونحن لا نملك هنا إلا أن نذكر أمرين اثنين: هيمنة القيم الكسروية على علاقة الشيخ بالمريد، والثاني أننا هنا إزاء ملوك الآخرة في الدنيا قبل الآخرة".

 

ومن الشيخ والمريد إلى "الولاية" أو "الإمامة العظمى" في الدولة الروحية الصوفية، التي كرست القيم الكسروية نفسها، وقدمت نفسها على أنها البديل الحقيقي لدولة أهل السنة، أما الشيعة فلم يكن في دولتهم لمثل هذه الإمبراطورية الروحية الصوفية مكان؛ لأن الدولة الشيعية هي أصلا "إمبراطورية روحية".

 

وتُجمع المصادر على أن أول من تكلم من المتصوفة في " الولاية" هو أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي، وأن العرفانيين من غير الشيعة عملوا على تأسيسها شرعا بالتماس سند لها من القرآن والسنة واللغة العربية، وتعليقا على الأحاديث الكثيرة التي "جمعت" قال الهجويري (الذي كتب بالفارسية لإثبات الولاية): "والمراد من هذا هو أن تعرف أن لله -عزَّ وجلَّ- أولياء قد خصهم بمحبته وولايته، وهم ولاة ملكه الذين اصطفاهم وجعلهم آية إظهار فعله، وخصهم بأنواع الكرامات وطهرهم من آفات الطبع"، أما عددهم فآلاف، وأهل الحل والعقد منهم أقل، يتدرجون من "الأخيار" إلى "الأبرار" إلى "الأوتاد" إلى "النقباء" حتى "القطب والغوث".

 

وفي الباب الرابع، يدرس الجابري الموروث العربي الخالص -أي أخلاق المروءة- مبتدئا بمراجعة تلخص ترتيب مسار كتابه، فيشير إلى أن التداخل كان واضحا بين الموروثين الفارسي واليوناني، والمنافسة بينهما كانت ظاهرة، مثل التلازم والتداخل بين الموروثين العربي والإسلامي، والتبرير هو تاريخي فقط للبدء بالموروث العربي الخالص المنسوب إلى ما قبل الإسلام، والذي عرف حضورا في العصر الأموي، ثم متابعة ذلك مع الموروث الإسلامي.

 

أما التداخل بين مصادر كل من هذين الموروثين الأخيرين فهو قليل؛ لأن هاجس التوفيق بينهما غائب، فالموروث الجاهلي انحصرت قيمته في كونه مصدرا مساعدا، لغويا، لفهم القرآن، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأخلاق والقيم، ومصادره إذن هي كتب الأدب، وهذه الكتب فيها كم هائل من المرويات، ولو رتبها أصحابها بنظام معين، فالمهم فيها هو مادتها وليس مستوى نظام القيم فيها، كما لن يكون هناك اهتمام لدرجة "صحة" هذه المرويات، فالتركيز سيكون على رواجها وحملها قيما معينة فقط.

 

ومن "حكماء" هذا الموروث اثنان كبيران: أكثم بن صيفي والأحنف بن قيس، وهما من جملة من عدوا "مرجعيات في الحكمة"، أما أكثم بن صيفي التميمي فهو" أشهر حكماء العرب في الجاهلية وأشهر خطبائهم وحكامهم"، خطبه" حِكَم" تجمع بين بلاغة اللفظ وعمق المعنى، هي كلمات قصار تقرر قيما دون الحاجة إلى برهان، مثل: تحلوا بالجود يكسبكم المحبة، إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم، المودة لا تحتاج إلى قرابة...والخطيب هنا " مؤلف جماعي في مجال القيم، بمعنى أن الجماعة وليس الفرد هي التي تنتج القيم، ولو نسبناها إلى فرد منها".

 

وقد يجوز القول -يكتب الجابري- إن أكثم كان مختصا بالحكمة القولية النظرية، والأحنف مختصا بالحكمة العملية الفعلية. فالأحنف بن قيس بن معاوية الذي مات في الكوفة عام 67 يضرب به المثل في الحلم والسيادة، فقد كان "واقعيا"، وعى أن السيادة لا تكون بالحلم وحده ولا بالفضائل وحدها، بل كان يربط ذلك برضا" الدهماء ووجود السفهاء، من أقواله: لأن يعطيني سفهاء قومي أحب الي من أن يعطيني حلماؤهم، وفي خطبه لاشك أنه كان "عالما"؛ إذ كانت تصدر عن تأمل وتفكير ومنطق داخلي، بعيد عن السليقة والعفوية.

 

ويعتقد الجابري أن "المروءة" هي القيمة المركزية في الموروث العربي الخالص، مستندا إلى مصدر أول في ذلك وهو ابن قتيبة (في عيون الأخبار) الذي جعلها في "كتاب السؤدد"، بعد "كتاب الحرب" "وكتاب السلطان"، ضمن" أخلاق طبقة الخاصة"، ومستندا إلى مصدر ثان هو ابن عبد ربه (في العقد الفريد) الذي جعلها أيضا في باب السؤدد، معتمدا تلخيص ما أورده ابن قتيبة، أما ابن المقفع فيراه المروج الأكبر للفظ المروءة كفضيلة أخلاقية.

 

والمروءة يجمع" مفهومها " الخصال المحمودة كلها، وعلى رأسها الكرم، المرتبط بالعطاء، وهو مصدر أساسي من مصادر العيش في المجتمع العربي قبل الإسلام وبعده، والكريم هو الكثير الخير، وها هو ذا ابن عبد ربه يفرد صفحات طوالا لذكر الجود وأهله، والعطاء وسيلة لاستمالة القلوب، دافعه ذاتي واجتماعي معا، وله وظيفة، لكن الكرم "لا يتضمن معنى الشجاعة، ولا يقتضيها، وليس من شروطه العدل والحكمة، لذا لا يعدّ قيمة مركزية، بل له دور في قيم أخرى، أهمها: الفتوة والمروءة".

 

ثم بدأ الجابري يستعرض أقدم النصوص في الأخلاق، في حقل الموروث الإسلامي: للمحاسبي، والماوردي مع الأصفهاني، ثم للغزالي، فللعز بن عبد السلام.

 

الحارث بن أسد المحاسبي (165-243) -الذي عاش في البصرة وبغداد عصر الخلافات وتنوع أساليب الحياة - شكا وآخرين من أزمة روحية (في كتابه الوصايا أو النصائح)، "أفرزت أزمة أخلاق حادة ومتشعبة دفعت بعضهم إلى اعتزال الحياة العامة، والامتناع عن الانخراط في الصراع، ومن كان قريبا من التصوف صار يدعو إليه"، لكن المحاسبي لم يكن متصوفا، بل كان متكلما وفقيها مجادلا، فكان خروجه مرتين: مرة عن صف المتكلمين والفقهاء ليلتحق بالغرباء الذين رأى فيهم "الفرقة الناجية"، ومرة عن صمت المتصوفة، فتكلم في التصوف. وكان خروجه تدشينا لمرحلة جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي.

 

أما مشروعه الرائد فكان في تشييد علم "أخلاق الدين" في رسالته "كتاب العلم" التي فرضت نفسها كأول نص يجب الانطلاق منه. وفيها ميز بين ثلاثة أصناف من العلم تتخذ الدين موضوعا لها: العلم بالحلال والحرام (الفقه)، والعلم بأخلاق الدين، والعلم بالله، أما علم أخلاق الدين فهو علم أحكام الآخرة -علم الباطن- فخاطب "أهل الدين" ناقدا سلوكهم، فاحصا عن مظاهر التراخي في شؤونهم العامة والخاصة، راسما بذلك صورة المتدين المثالي، وكانت مرجعيته وحيدة في كل ذلك، وهي القرآن.

 

يقول الجابري: "ولكن هل هذه الأخلاق هي وحدها الأخلاق الإسلامية؟ وهل هي وحدها التي يمكن استخلاصها من القرآن؟ أليس الإسلام دينا ودنيا؟ والجواب واضح: فأخلاق المحاسبي لا تمثل الإسلام ككل، لقد غطت وملأت كفة "أدب الدين"؛ لكنها أعرضت عن "أدب الدنيا"، فكيف يمكن الجمع بينهما؟ إن مشروع "الفكر الأخلاقي الإسلامي" قد حبل به عمل المحاسبي الهادف إلى تأسيس "أخلاق الدين"، ولكن ميلاد ذلك المشروع سيحتاج إلى مخاض عسير.

 

هنا ينتقل الجابري إلى الماوردي (374-450) الذي عاش في بغداد، وكان من كبار الأشاعرة والفقهاء الشافعية، وكانت له مكانته عند الخلفاء العباسيين وعند ملوك بني بويه. والماوردي صاحب كتاب "أدب الدين والدنيا"، ففي مضمون أدب الدين لا يظهر أنه يستحضر المحاسبي، ولم يكن كتابه ردا عليه، بل قد نتساءل إذا كان في كتابه يسلك سلوك الديبلوماسي أم سلوك الفقيه، فالمروءة عنده - كما أورد- تقوم على "المراعاة وليس على التلقائية، وتقتضي التفتح على الغير".

 

في خطبة الكتاب يبدو تلازم صلاح الدين وصلاح الدنيا، وهو التلازم الذي سيصبح بمثابة " القاعدة الأصولية" التي تمنح للكتابة في "الأخلاق والسياسة " شرعيتها الفقهية. ثم يستهل كتابه ببيان فضل العقل وذم الهوى، وهدفه تقرير أن العقل أساس الأخلاق، وحين ذكر أنواع الآداب كان "أدب طلب العلم " في الطليعة، وكما أن الدين ضروري للإنسان كالعلم والأدب، وكما أن للعلم أدبا فكذلك للدين أدب، وهكذا أفرد "لأدب الدين" الباب الثالث، وإن استنسخ بنية علم الأخلاق كما كان يؤلف في عصره، يقول الجابري: "إلا أننا نظلمه إذا أغفلنا كونه يميز بين أدب الدين والدنيا معتمدا مرجعيته الإسلامية: العقل والشرع، أما أن نراه حاملا لمشروع تشييد "أخلاق إسلامية" فذاك ما يصعب الدفاع عنه، فلننظر من جاء بعده".

 

وهو الراغب الأصفهاني(ت: 502هـ)، والذي لم يُعرف عنه إلا أنه كان منقطعا للتدريس والتأليف في الفقه والتفسير والأدب والأخلاق. وللراغب الأصفهاني " الذريعة إلى مكارم الشريعة"، والذريعة هي الوسيلة التي يمكن بها اقتناص "مكارم الشريعة"، التي اجتهد ليجعلها موضوعا لعلم خاص، مبدؤها طهارة النفس باستعمال التعلم والعفة والصبر والعدالة، ونهايتها التخصص بالحكمة والجود والحلم والإحسان، وقد حاول أن يضفي الطابع الإسلامي على "علم الاخلاق" المتداول في عصره، مما هو يوناني في صياغته إنساني في مضمونه، فيكون مشروعه يرمي فعلا إلى "أسلمة علم الأخلاق" المتداول في عصره، وهو مشروع طموح وجديد. ويتساءل الجابري: "وهل يكفي الاستشهاد بالقرآن والحديث لتحويل علم نشأ خارج الإسلام إلى علم إسلامي أو "مؤسلم"؟

 

لقد وعى الراغب الأصفهاني بعمق الحاجة إلى كتاب في "الأخلاق الاسلامية" بديل للمؤلفات التي تنتمي إلى الموروثين اليوناني والفارسي، غير أن ما كان ينقصه هو المنهجية التي يتطلبها مثل هذا المشروع، ومثل هذه المنهجية تحتاج إلى معرفة بـ"آلة العلوم "؛ أي ما اطلق عليه الغزالي " معيار العلم"(المنطق).

 

ومع أبي حامد الغزالي (455-505) المعروف بمؤلفاته في الفقه والأصول والكلام والمنطق والفلسفة والتصوف، يقف الجابري أمام كتابه "إحياء علوم الدين"، فيراه منتميا إلى "المرتبة نفسها "لكتابه الآخر" ميزان العمل"(وهو في أخلاق العقل).

 

أما " إحياء علم الدين" فهو كتاب في أخلاق الدين، وهو في بنيته العميقة مرتبط بالأخلاق اليونانية، يلبس لباس الفقه لكنه ليس منه، فبينما كان الراغب الأصفهاني يحصر مجال الفقه في أحكام الشريعة، ويجعل مجال " مكارم الشريعة " هو الاستخلاف، استخلاف الله الإنسان في الأرض بقصد عمارتها، يخص الغزالي الفقه بـ"مصالح الدنيا" بما في ذلك عمارة الأرض، ويخص "علم المعاملة" بـ"مصالح الآخرة"، مع أن السعادة عند كل منهما هي في الآخرة، فالكتاب إذن هو في "علم الآخرة"، وقد كان شديد التأثير في مسار الحضارة العربية الإسلامية وفي نظام القيم الذي ساد فيما بعد.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/82

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك