ماكس فيبر: الدين وأخلاق العمل والرأسمالية

برّاق زكريا

 

ليس من همّ السوسيولوجيا دراسةُ جوهر الظاهرة الدينية، ولا مُساءلةُ هذه الديانة أو تلك في مدى صِحّتها أو زَيْفها، وإنما يتركّز شأنُ عالِم الاجتماع في رصد السلوك الذي تُتيحه الظاهرة الدينية؛ كونها تستند إلى بعض التجارب الخاصة وإلى غاياتٍ وتصوُّرات محدّدة، "فالدينُ ظاهرةٌ سوسيولوجية ذاتُ توظيفات شتّى على أصعدة الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية، وعلى العالِم أن يدرُس هذه التوظيفاتِ بذاتها... فالمطلوبُ عِلميّاً هو دَرْسُ ما يحدث في المجتمع، وتحديدُ نسبة الحدث الديني وقُوّته، وتبيانُ أثره وتأثيره"(1). ومن هنا، فإنّ ما كان محلَّ اهتمام ماكس فيبر(**) (Max Weber)هو السلوك المعبِّر للمُتديّن؛ إذ لا مجال للتأمُّل في القيمة الخاصة بالعقائد والنظريات اللاهوتية المتنافسة أو بالفلسفات الدينية، كما ليس المقصود اتخاذ الموقف الوضعي القائم على إنكار الدين أو احتقاره والتقليل من شأنه، وإنما كانت غايةُ فيبر فَهْمَ تأثير السلوك الديني في بقية النشاطات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبهذا المعنى تُصبح سوسيولوجيا الدين في الوقت نفسِه أبحاثاً متعلّقة بسوسيولوجيا الاقتصاد أو السياسة، وبخاصةٍ سوسيولوجيا الأخلاق(2)، يقول فيبر في هذا المعنى: "لا يُهِمّـنا بالتأكيد ما كان يجري تعليمُه نظريّاً ورسميّاً في كُتب اللاهوت الأخلاقي... [وإنما همُّنا] اكتشافُ الحوافز البسيكولوجية التي تمتدُّ جذورُها إلى المعتقدات والممارسات الدينية التي ترسم للفرد سُلوكه"(3).

 

وما ذلك بغريبٍ عن فيبر، سيّما وأنه عُرف عنه تميُّـزُه عن زملائه وأقرانِه الكبار (من أمثال تونيز وسومبارت وغيرهما) بنُزوعِه البيّن إلى حصر الظواهر و"نَمْذَجتِها" أو عَقْلَنتِها "في نماذجَ صافيةٍ (Types patterns) لِتسهُـل مقاربتُها ودراستُها من ضمن المشروع الكبير لقراءة التاريخ الغربي بطريقةٍ غائيةٍ بوصفِه "محاولاتٍ مستمرّةً ومتعرّجةً في عملية تطوُّرٍ مُعقلَن -أو تطوُّر طويل المدى باتجاه العقلنة" ليس بالمعنى التقويمي للظاهرة، بل بمعنى إخضاع الطبيعة والإنسان لمبادئَ عقلانيةٍ وأيديولوجيةٍ واجتماعية واقتصادية، هي [تلك] التي أوصلتْ إلى الرأسمالية"(4).

 

ولا مِـراء في أنّ شُهرة فيبر الطائرة إنما تعُود إلى دراسته حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، إحدى أهم الدراسات الدينية التي قدّمها، وفحواها أنّ الأخلاق البروتستانتية -الكالفينية بخاصة- كانت أحد أهم العناصر التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تطوُّر الروح الرأسمالية الحديثة؛ إذ إنّ تلك الأخلاق قد "أنتجت قِيماً ومعاييرَ شجّعتْ العمل الحرّ والتنسُّك والادّخار، وبذلك خَلقتْ مناخاً ذِهنيّاً خاصّاً، ساعد بدوره على تطوُّر "المشروع الاقتصادي الحرّ"، وبالتالي على نُموّ وتطوُّر الرأسمالية في الغرب"(5). وقد اتّخذ فيبر من دراسته هذه أساساً يدحض به -دونما قصدٍ منه- نظرية كارل ماركس في أمر غَلَبة العنصر الاقتصادي وسيطرته في توجيه الفكر الديني والمشاعر الروحية. فقد كان ماركس ينظر إلى البروتستانتية بحسبانها أيديولوجيا الرأسمالية، ذاهبا إلى أنّ الظاهرة الدينية تُعَـدّ ظِلاًّ للظاهرة الاقتصادية، أمّا ماكس فيبر فعكَس القضية، مُقِيماً الحُجّة على أنّ الأخلاق الدينية -البروتستانتية الكالفينية خصوصاً- هي التي أثّرتْ أيّما تأثير في الاقتصاد، بل في ظاهرةٍ اقتصادية هي قمّةُ ما بلغه التفكير العقلاني الاقتصادي: الرأسمالية الغربية الحديثة(6).

 

السؤال المحوري الذي انطلق منه فيبر هو: إلى أي مدًى تؤثّر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي للمجتمعات كافةً؟. فطَفِق يبحثُ جادّاً عن الإجابة على هذا التساؤل في تشكيل السلوك الإنساني، مُعارضاً الاتجاهَ المادّي الماركسيَّ الذي يقوم على فكرةٍ جوهرية، مُفادُها أنّ خاصية السلوك الديني ما هي إلاّ مجرّدُ وظيفةٍ يحدّدها الموقع الاجتماعي للطبقة التي تَظهر وسطها، كما لو كانت هذه الشريحةُ هي الحاملَ المميِّز لهذه الوظيفة، أو أنها لا تُمثّـل إلا أيديولوجيتها(7). لقد انبرى فيبر لتفنيد ما يدّعيه ماركس في نظريّته حول التاريخ من أسبقية العنصر الاقتصادي، حيث إنه يذهب إلى أنّ التغيُّرات في العلاقات الاقتصادية بين الأفراد قد أدّت إلى تغيُّراتٍ في المجالات الأخرى، الاجتماعية والثقافية... إلخ، مُستبعِداً العاملَ الديني من أنْ يكون ذا أثرٍ في التغيُّر الاجتماعي، وذاهباً إلى أنّ المِلْكية الفردية خلال التاريخ كلِّه -وكذلك العلاقات الاقتصادية والصراعات الطبَقية الناشئة عن هذه العلاقات- كانت هي العاملَ المؤثّر في تطوُّر الجنس البشري. يقول ماكس فيبر في نصٍّ له بعنوان "نقد الاقتصاد الماركسي": "إنّ ما يُعرف بـ"التصوُّر المادّي للتاريخ" -في معناه القديم البدائي والعبقري كما ورد في "البيان الشيوعي"- لا يُمارِسُ في أيّامنا أيّ ضغطٍ إلاّ على بعض الجَهلة والهُواة"(8).

 

ولمّا كانت الرأسمالية قد أصبحت هي القوةَ الأكثر تأثيراً وحسماً في تحديد مصير الحياة الحديثة؛ فقد كان لا بدّ برأيه من دراسة الإيمان والمعتقدات من الزاوية الخاصة المرتبطة بفعاليّتها الاقتصادية. وبعد البحث والاستطلاع لاحظ فيبر أنّ ثمة ارتباطاً جليّاً بين نشأة الرأسمالية وظهور البروتستانتية في المناطق الهامّة من أوروبا الغربية. وكان مَرامُه من وراء ذلك تأكيد قضيّـتين أساسيّتين:

 

- أُولاهُما: أنّ سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات لا يمكن فهمُه إلاّ في سياق تصوُّرهم العام للوجود، ولا شك في أنّ المعتقداتِ الدينيةَ وتفسيراتِها هي إحدى التصوُّرات للعالم، وهي تؤثّر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي.

 

- وثانيتُهما: أنّ التصوُّرات الدينية هي بالفعل إحدى مُحدِّدات السلوك الاقتصادي، كما تُعدّ من بين أسباب تغيُّر أنماط هذا السلوك(9).

 

وقد تبيّن له أنّ ثمة تطابُقاً أو تناسُباً بين العقلية البروتستانتية في إنجلترا والولايات المتحدة وغيرهما -ولا سيما لدى المتزمّتين البروتستانت المعروفين بـ "البيوريتان"(Puritans)- وبين الاتجاه العام نحو الحياة، ذلك الاتجاه الذي يحضّ على العمل بنشاطٍ وحيوية. فالبروتستانتية حسب فيبر -في شِقِّها الكالفيني بخاصة- هي مجموعةٌ من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، وتحصيل الثروة والإسهام في زيادة ازدهار الحياة الاقتصادية، بل إنها تمنح المهنةَ قيمةً أخلاقية كبرى وتُقدّس العمل إلى درجة أنها ترى في تأدية العمل -بأمانةٍ وحيويةٍ وحماسةٍ- واجباً مقدّساً، "فمبدأ العادة (Habitus) لدى بنيامين فرانكلين ليس معناه حُبّ المال، أو حُبّ الكسب، أو حُبّ الحياة الثرية؛ بل هو "صيغةٌ مبدئية أخلاقية لطرائق العيش المُثلى". وهذا المبدأ الكالفيني لا يرى في العمل وسيلةً للكسب من أجل العيش، بل إنّ العمل ذاته هو فلسفةُ الحياة ومعناها، أو أنه هو الذي يُسوّغ نفسه"(10).

 

كما بدا لفيبر في أثناء عُكوفِه على دراسة البروتستانتية -وخصوصاً كتابات البيوريتانيين- أنّ الكالفينية بصورةٍ خاصة تُشدّد على الطابع الفردي للخلاص، وانتهى من ذلك كلِّه إلى أنّ الروح التي تميل إلى الحصول على الكسب المادّي بطريقةٍ رشيدة منظّمة -وهي روح الرأسمالية- ثمرةٌ غير مقصودة من ثمار الكالفينية(11).

 

لقد برهن فيبر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية على أنّ الرأسمالية -من حيث كونُها أهمَّ ظاهرةٍ اقتصادية حديثة- هي من نتاج الروح الديني البروتستانتي بأخلاقه وقِيمه ومعتقداته، وخصوصاً لدى أتباع الكالفينية؛ إذ إنّ هذه الطائفة البروتستانتية تعمل على تشجيع الادّخار والاستثمار، بل إنّ أتباعها يُقدّسون العمل ويحترمون أرباب المهن، بالإضافة إلى فرضِها الواجباتِ والقواعدَ التي تُنظّم السلوك الاقتصادي، ونبذِها الخمولَ والتكاسلَ والتواكلَ، وتحذيرِها أتباعَها ضَعفَ الهِمّة وخَوَرَ العزيمة، وتنفيرِها إياهم من الركود والرُّقود والقعود، وحثِّها على الحركة والنشاط من أجل العمل والكسب، باعتبار العمل سبيلاً لتحقيق الخلاص الفردي(12). ولا أدلَّ على ذلك -كما لاحظ فيبر- من أنّ المناطق التي تسُود فيها البروتستانتية -الأراضي المنخفضة (هولندا وبلجيكا في أيامنا هذه) وإنكلترا وغيرها...- هي أهمُّ الدول الصناعية التي تطوّرت فيها الرأسمالية، على حين أنّ المناطق التي تعتنق الكاثوليكيةَ بغالبيتها العُظمى هي الأقلُّ تطوُّراً من الناحية الصناعية والاقتصادية.

 

وبعبقريّةٍ فريدة، تنبّه ماكس فيبر للاعتراض الذي قد يُوجَّه إلى أطروحته، ومؤدّاه التفسيرُ العكسي لها القائل: لماذا لا نعكس القضية، فنفترض أنّ الازدهار الاقتصادي -الذي تتميّز به هولندا وإنجلترا وغيرُهما- من الدول الصناعية كان سبب اعتناق أبناء هذه البلاد العقيدة الروتستانتية؛ إذ بدا لهم أنّ مثل هذا المذهب (=البروتستانتية الكالفينية بخاصة) مُلائم لهم ولمكانتِهم الاقتصادية بل ومُبارِكٌ لأخلاقياتهم ورُوحهم في العمل، لا أنّ الروح البروتستانتيةَ وأخلاقياتِها العملية هي التي جعلتهم أغنياء؟.

 

وجواب فيبر على هذا الافتراض العكسي أنه خاطئ بل متهافتٌ من أساسه، ويُدلّل لذلك بأنّ هناك عدداً من الفقراء الذين اعتنقوا البروتستانتية في روما وفرنسا وإنجلترا، وذاعت الآن شهرتُهم نظراً لارتفاع حالتهم الاقتصادية، وما قدّموه من نشاط صناعي ملحوظ، ودورِهم الرائد في مجال الأنشطة الاقتصادية(13).

 

ولا يوافق صاحبُ الأخلاق البروتستانتيبة وروح الرأسمالية على الطرح الذي يذهب إلى أنّ تدفُّق المعادن كان باعث الرأسمالية، كما يعترض على القول: إن النموّ السكّاني في القرن الثامنَ عشرَ كان السبب المُوجِب لهذا الاقتصاد؛ إذ إنّ النمُو السكّاني المماثل في الصين -مثلاً- في الحِقبة ذاتِها أعاق الرأسمالية بدلاً من تشجيعها، كما يُلمع فيبر. بَيد أنّه لا يرى أنّ هناك سبباً واحداً فقط للرأسمالية، فهناك عدّة أسباب وعوامل تضافرت في هذا الشأن، وعلى التحليل الذي يتوخّى الكمال ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ألاّ يُهمل الوضع الاقتصادي للمدن الإيطالية منذ عصر النهضة. ولا نِزاع في أنّ تشعُّب أسباب الرأسمالية وتعدُّد العناصر التي ما زالت تتدخّل في مجرى تطوُّرها التاريخي يُبيّنانِ أنه ليس هناك رأسمالية واحدة. لهذا السبب ومن أجل إكساب هذا التصوُّر الاقتصادي الواسع وحدةً شكليةً على الأقل -وإنْ اختلف باختلاف البلدان والعصور- يُفضّـل فيبر الكلام على "روح" الرأسمالية(14).

 

فما المقصود بالرأسمالية، وما هي الدعائم والقواعد التي تقوم عليها؟

 

تقوم المسلّمةُ الأعمُّ للرأسمالية الحديثة على جعل الحساب "العقلاني" قاعدةَ جميع مؤسّسات الإنتاج الكبرى التي تُعنى بتغطية الحاجيات اليومية، وتفترض هذه العقلانيةُ بدَورِها:

 

1- امتلاك جميع الوسائل المادّية: (أراضٍ، أجهزة، آلات، معدّات...) كمِلكيةٍ مطلقة لمؤسّسات خاصة مستقلّة.

 

2- حُرّية السوق: التي حلّت محلّ التقييد اللاعقلاني للتجارة.

 

3- تِقْـنية عقلانية: تُتيح التوقُّعَ والمَـكْـنَنة الكبيرة في آنٍ معاً، سواءٌ في ميدان الإنتاج أم في ميدان تداوُل السلع.

 

4- حُرّية العمل: بمعنى أنّ الأفراد الذين يبيعون طاقاتِهم لا يفعلون ذلك بدافع الواجب القانوني وحسب، وإنما لأسبابٍ اقتصادية كذلك.

 

5- تسويق الاقتصاد: بإتاحة الفرصة لمن يرغب في المشاركة بالمؤسّسة كمساهم.

 

على أنه لا مِراء برأي فيبر في أنّ الرأسمالية في الاقتصاد كانت نتيجة العَـقْـلَنة المُتزايدة للحضارة الغربية منذ العهد اليوناني(15).

 

وتظهر الروح الرأسمالية بجلاءٍ في موعظة بنيامين فرانكلين، الكاتب الأميركي ذي النزعة الرأسمالية الحادّة والمُتغالية، بل لَكأني بها تنطِق على لسانه، فهو تَرجُمانُها؛ إذ يقول: "تَذكّرْ أنّ الوقت هو المال... تذكّر أنّ الائتمان هو المال، [وإذا] ما ترك أحدُهم مالَهُ بين يدي بعد انتهاء أجلِه فإنه يكون قد قدّم لي فائدةَ المبلغ أو كلَّ ما يمكن أن أستفيده من ماله خلال هذا الوقت... تذكّرْ أنّ المال هو بطبيعته مُولِّدٌ وكثير الإنتاج. المالُ يولّد المال، و"أولادُه" يمكن أن تَلِد أكثر، وهكذا دَوالَيك... [إنّ الذي] يقتل خِنزيرةً فهو يقتل ذُرّيتها حتى الجيل الألف، والذي يغتال قطعةً من النقود من خمسة شلنات يقضي على كل ما يمكنها أن تُنتجه: أكوامٌ من الليرات الاسترلينية!... مَن يخسر خمسة شلنات لا يخسر هذا المبلغ فحسب، بل أيضاً كلَّ ما كان يمكن أن يربحه إذا استخدم المبلغ في المشاريع"(16). وفي هذا المعنى يقول باكستر (Baxter) أحد كبار مُنظّري الفكر الطُّهري: "اِحفظْ للوقت اعتباره، وكُنْ حذِراً كي لا تخسرَ شيئاً من وقتك كل يوم، وبهذا لا تخسر شيئاً من ذهبك وفِضّـتك"(17).

 

وقد تَحدّد الشكل الحديث للرأسمالية الغربية -حسب فيبر- بتطوُّر الإمكانات التقنية، كما ترتبط عقلانيتُه بإمكان تقدير العوامل التقنية الأكثر أهمّية. وكأنه يصبُو من وراء ذلك إلى أنْ يُقيم علاقةً بين الرأسمالية الغربية الحديثة وبين العلم الحديث، لا سيّما بعلوم الطبيعة القائمة على أساس الرياضيات والتجربة العقلانية. وليس مقصودُه من ذلك أنْ يصل إلى القول: إنّ المصالح الرأسمالية هي التي أدّت إلى ولادة الرياضيات أو علم الميكانيكا، وإنما غايةُ مَرامِه الإلماعُ إلى أنّ استخدام المعرفة العلمية استخداماً تِقْـنيّاً قد تلقّى في الغرب دَفْعاً إلى الأمام ودعماً ملحوظاً بفعل الإيجابيات والمنافع الاقتصادية التي وفّرها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه المنافع المهمّة على صعيد ظروف السكّان المعيشية إنما هي متأتّيةٌ من البِنية الاجتماعية الخاصة بالغرب.

 

لكن، ما هي السماتُ الأساسية للعقلانية الغربية التي جعلَتْها تفضُل غيرَها من أشكال العقلانيات التي يُسلّم فيبر بوجودها في الدهور الخالية لدى حضاراتٍ وبلدان أخرى (الهند، الصين، بابل... إلخ) فالعقلنةُ الغربية -بنظره- هي عقلنةٌ نوعية خاصةٌ بالحضارة الغربية؟ لا بدّ بحسب فيبر من التسليم بأهمّية الاقتصاد الأساسية في هذا المضمار؛ ذلك لأنه "إذا كان تطوُّر العقلانية الاقتصادية مرتبطاً... بالتقنية وبالقانون العقليَّين؛ فهو مرتبطٌ أيضاً بالقدرات وبالكفاءة التي يتمتّع بها الإنسان ليتبنّى بعض أشكال السلوك العقلاني العملي"(18). أمّا العناصر ذاتُ الأهمّية الكبرى في تكوين السلوك فهي -وَفْق فيبر- القُوى السحريةُ والدينية، ناهيك عن الأفكار الأخلاقية والقِـيَمية المتعلّقة بها.

 

وعلى الرغم من أنّ فيبر يُقرّ بأنه قد كان ثمة عناصرُ أوّليةٌ أو جَـنينيةٌ للرأسمالية في المجتمعات القديمة (المجتمع البابلي والصيني...) فإنّ هذه العناصر لم تُؤدّ -من وجهة نظره- إلى العقلنة التي تُميّز تطوُّر الرأسمالية الحديثة في الغرب الذي شهد وحده شكلاً آخرَ من الرأسمالية في الأزمنة الحديثة، هو التنظيمُ العقلاني الرأسمالي الدقيق للعمل الحرّ، والذي لا يمكن اعتبارُه الخاصيةَ الوحيدةَ للرأسمالية الغربية؛ إذ ما من ريبٍ في أنّ ذلك لم يكن مُمكناً من دون عامِلَين آخَرين، هما: فصلُ العمل المنزلي عن المؤسّسة، والمحاسبةُ العقلانية. كما ارتبط بالرأسمالية وَفْق فيبر ما يُسمّى عموماً "التتجير" بمعنى تحويل كل شيءٍ إلى سلعة، وتطوُّرُ المِلكيات القابلة للتبادل، والبورصةُ التي هي "عقلنة المضاربة"، "والمطلوب فهمُه قبل كل شيء هو الرأسمالية الحديثة كما نعرفها منذ نحو ثلاثة قرون"(19).

 

على أنه ينبغي ألاّ يعزُب عنّا أن ماكس فيبر لا ينفكُّ يُشدّد على أنّ الرأسمالية لا تتعلّق بالرغبة في الكسب، ولا بالبحث عن الربح، ولا بالسعي الحثيث وراء جمع المال؛ ذلك أنّ رُوّاد المقاهي، والأطباء، والفنّانين، والجنود، واللصوص، بل حتى العاهرات والإسكافيين والمتسوّلين... كلّ هؤلاء -من منظور فيبر- قد يكونون مسكُونين بهذه الرغبة الجَمُوح أو بهذا التعطُّش الكبير للكسب، بل إنّ حُمّى الكسب والنهَم إلى الذهب لدى إسكافيٍّ من نابولي قد تكون أكثر قوةً بكثير ممّا هي لدى إنجليزي (بروتستانتي) يعيش في ظروفٍ مشابهة؛ "فالحاجة للكسب غير المحدود لا تنطوي أبداً على مُقوّمات الرأسمالية ولا حتى على رُوحها"(20). إنّ الرأسمالية كما تبدو تحت قلم فيبر تعني البحث عن الربح، إنما الدائم المتجدّد عبر مؤسّسة عقلانية، بكلمة: إنها البحث عن المردودية. والمقصود بأنّ الكسب الرأسمالي هو كسبٌ عقلاني "أنه إذا استَخدم الفعلُ منهجيّاً الموادَّ أو الخدماتِ الشخصيةَ كوسيلةٍ للكسب؛ فإنّ حصيلة المشروع بالأرقام المالية في نهاية مرحلةٍ مُعيّـنة منه... ينبغي أن تتجاوز الرأسمال؛ أي قيمةَ وسائل الإنتاج المادّية المُستخدَمة في سبيل الكسب"(21).

 

ويُلاحِظ فيبر أنّ الإحصاءاتِ المهنيةَ في ألمانيا تُبيّن أنّ كبار رجال الأعمال، وأصحاب الحيازات الرأسمالية، ومُمثّلي الشرائح العليا من اليد العاملة والملاك التِّـقْني والتجاري في المؤسّسات الحديثة هم بأغلبيتهم العُظمى من البروتستانت، عِلماً بأنّ ألمانيا بلدٌ تتعايش فيه طوائفُ دينيةٌ متعدّدة. كما أنّ غالبية سكّان المدن الغنيّة والأكثر تطوُّراً من الناحية الاقتصادية قد اعتنقت البروتستانتية منذ القرن السادسَ عشرَ. والسؤال المُلِحُّ في هذا الصدد هو: "لماذا تَظهر أكثرُ المناطق تقدُّماً من الناحية الاقتصادية مُؤهَّـلةً... لاحتضان عمليةٍ ثورية في الكنيسة؟"(22). وفي الجواب على ذلك، يرى فيبر أنّ التحرُّر من الاتجاه الاقتصادي التقليدي هو أحد العوامل التي ينبغي أن تُقوّيَ ميل الإنسان إلى التشكيك أيضاً بالتراث الديني وإلى التمرُّد والخروج على السلطات الكلاسيكية؛ بَيد أنه ينبغي أن يكون منّا على بالٍ -كما يشدّد فيبر- أنّ الإصلاح الديني لا يعني البتّة إزالة سيطرة الكنيسة على شؤون الحياة بشكلٍ نهائي، وإنما استبدالُ سلطةٍ مُتراخية مُغْرِقةٍ في التراخي بأخرى تكون شاملةً لكلّ ميادين الحياة العامة والخاصة، فارِضةً تنظيماً للسلوكِ شديدَ الوطأة والقساوة، وهذا هو حال الكالفينية. فإنها تُمثّل من منظورِه أكثرَ أشكال الرقابة الكَنَسية على الفرد إزعاجاً بالمطلق، ولكنْ على الرغم من ذلك فقد تحمّلتْ البلدانُ ذات الاقتصادات الأكثر تطوُّراً -وكذلك طبقاتُها الوسطى الناهضة- بصبرٍ وجلَدٍ طُغيانَ الطُّهْرية المُتزمّـتة، بل راحتْ تُدافع عنها وتُناصرُها باستبسالٍ قلّ أنْ نجد له مُضارِعاً ونظيراً.

 

ويرُدّ فيبر أسباب إمساك البروتستانت بالنصيب الأكبر من الرأسمال وبالحصّة الكبرى من مراكز الإدارة في إطار الحياة الاقتصادية المعاصرة في الغرب -فضلاً عن الثروات الكبرى التي ورِثُوها عن آبائهم منذ القرن السادسَ عشرَ- إلى عامِلَين رئيسين:

 

أحدُهما: نوع التعليم الثانوي؛ إذ إنّ حمَلة البكالوريا من الطُلاّب البروتستانت الذين تخرّجوا من مؤسّساتٍ تُحضّر للدراسات التقنية وللوظائف الصناعية والتجارية، يفُوقون في أعدادِهم نُظراءهم من الطلاّب الكاثوليك الذين يُفضّـلون دراسة الآداب القديمة، وهو اختلاف بَـيّـنٌ في ألمانيا الغربية والمجر وغيرهما...

 

وثانيهما: أنّ الشبّان الكاثوليك يميلون إلى البقاء في المُحترَف كَيْما يتحوّلوا إلى مركز "رئيس شغّيلة"، على حين أنّ أقرانهم من البروتستانت يَجنحُون إلى العمل في المصانع حيث يُشكّلون الكادرات العليا من اليد العاملة ويضطلعون بالمهمّات الإدارية، ولا جَرَم -كما يُومِئ فيبر- "أنّ اختيار المَشاغل -وبالتالي القطاع الوظيفي- أمرٌ تُحدّده الخصوصياتُ لدى الطائفة أو الوسط العائلي"(23)، بمعنى أنه انعكاسٌ عمليٌّ للبيئة الدينية بأخلاقِها وقِيمها وفلسفتها في الحياة ورُوحها في العمل.

 

لذلك، فمن المهمّ برأيه معرفةُ ماهية العناصر الخاصة الموجودة لدى هذه الطوائف التي أثّرت في ذلك. وفي هذا السياق يسُوق فيبر بعض التحليلات التي حاولت التعبير عن تلك الفُروق بين هذه الطوائف، لا سيّما بين الكاثوليكية والبروتسانتية: فبعضُ الباحثين يرى أنّ الكاثوليكية أكثرُ انفصالاً عن العالم؛ إذ إنها تُرسّخ في أذهان مُعتنِقيها لامُبالاةً كبرى إزاء ثروات هذا العالم، ولا كذلك البروتستانتيةُ، فإنّ البروتستانت يرفضون أنماط المثال النُّسُـكي في السلوك الكاثوليكي. ويردُّ الكاثوليك برفض "المادّية" على اعتبار أنها إحدى نتائج "عَلْمَنة" أو "تَزْمِـين" كلّ مجالات الحياة على يد البروتستانتية، قَريعتِهم اللدُود. ومن الباحثين مَن يذهب إلى أنّ التعارض الظاهر بين الكاثوليكية والبروتستانتية في علاقاتهما بالحياة الاقتصادية يكمُن في أنّ "الكاثوليكي هو أكثرُ هُدوءًا، [و] مسكونٌ بعطشٍ قليل جدّاً إلى الكسب، ويُفضّل حياةً آمنةً، ولو مع مدخولٍ ضئيل جدّاً، على حياةِ إثارةٍ ومُجازفةٍ ولو وَفّرتْ له الثرواتِ والأمجاد. تقول الحكمة الشعبية بطرافةٍ: "إمّا أنْ تأكل جيداً، أو أن تنام جيداً"، في الحالة الحاضرة يُفضّل البروتستانتي أن يأكل جيّداً، بينما يفضّل الكاثوليكي أن ينام هادئاً"(24).

 

وعند فيبر أنّ الكالفينية -من بين سائر الطوائف البروتستانتية- هي التي تُثير روح المشاريع، بل إنه ينقل عن غوتان (Gothein) وَصْـفه الشتات الكالفيني (في فرنسا وهولندا) بأنه "منجم الاقتصاد الرأسمالي". من هنا، فلا يعود مُستغرَباً أنْ نرى الكالفينية -تلك الطائفة التي خضعت للإصلاح الديني أكثر من غيرها- هي التي أدّت -دون غيرها- دوراً مؤثّراً أقوى تأثيرٍ في تطوير روح الرأسمالية(25). وإذا ما أردنا تحديد خلفية تلك الأفكار التي أسهمت في تكوين الروح الرأسمالية والبحث عن منبعها، فإننا لَنجدُها حسب فيبر عند بعض الطبقات البروتستانتية -الكالفينية (Le Calvinisme) والتَّـقَوية (Le Pietisme) والمِيثودية (Le Methodisme) والمعمدانية (Le Baptisme)- التي يتميّز نهجُها الحياتي بتقشُّفٍ يمكن التدليلُ عليه بكلمة "الطُّهْرية". بَيد أنّ ما يُهمّه ليس التعاليم النظرية والرسمية لكُتب اللاهوت الأخلاقي، وإنما الحوافزُ النفسية النابعة من المعتقدات والممارسات الدينية، ويعدّ فيبر هذه الحوافز نموذجاً مثاليّاً مترابطاً بقدر الإمكان، "إنه يريد أن يفهم بواسطة هذه اليوتوبيا العقلانية كيف أثّرت هذه الحوافزُ في الواقع لتكوين الروح الرأسمالية"(26). فما هو هذا النموذجُ المِثالي للذهنية الخاصة بهذه الأوساط؟.

 

ينطلق اللاهوت الكالفيني من أنّ الله قد قدّر كلّ شيءٍ منذ بدء الخليقة، فاختَصّ برحمته مَنْ شاء وحجَب نِعمته عمّن شاء؛ فما مِن أحدٍ يستطيع جَلْب النعمة لنفسه ولا أن يَدفعها عنها إذا لم يكن الله قد أراد ذلك. وبما أنه لم يتأتَّ لأحدٍ أن يطّلع على ما كَتبه الله وما قدّره للناس ولا أن يعرف أيُّهم الناجي المُصطفَى المقدّس ولا أيُّهم الهالِكُ الفاسق المدنَّس، ولمّا كان البروتستانتي لا يؤمن بالواسطة فيما بينه وبين الله، ويرفض الاعتقاد بأنّ ثمة أسراراً يجب على المرء الإيمانُ بها حتى ينالَ الخلاص -كما يفعل الكاثوليكي- ويَعِي أنّ عليه هو بنفسِه لا بواسطة غيره أن يفهم كلمة الله ودليل اصطفائه، حيث إنه وحده وبكفاحه المستمرّ يستطيع أن يصل إلى مرحلة الخلاص(27)؛ فإنّ "هذه الحَيْرة -من وجهة نظر فيبر- التي لم يستطع المرءُ تحمُّلها دفعتْ به إلى أن يبحث عن علاماتٍ يمكن أن تشير إلى أولئك المختارين"(28)، فلم يجد أمامه من سبيل إلى ذلك إلاّ أنْ يعمل بجدٍّ ونشاطٍ وحيوية ما دام العمل يزيد في تمجيد الله.

 

إنّ التعاليم الإلهية الكالفينية تحضُّ المرء على أن يتحكّم في نَزَواته وشهواته، وأن يَضبِط مُيوله وغرائزه، وتحُثُّه على الزهد والتقشُّف في هذه الحياة الدنيا، لكنْ ليس الزهد والتقشُّف السلبيَّيْن، بمعنى اعتزال العالم، والفِرار من الحياة، والاعتكاف في صومعةٍ والتفرُّغ لعبادة الله كما يفعل التنابلُ الكُسالى الخاملون، وإنما التنسُّك في هذا العالم والخوضُ في معترك الحياة، والعملُ الدؤوب وبمثابرة، والنجاحُ في الحياة المهنية، وتحصيلُ الثروة ومراكمة المال... إلخ، وكلُّ ذلك استجابة لنداءٍ ربّاني داخلي (دعوة=Calling) يشعر المرء تُجاهه بنوعٍ من الواجب الأخلاقي. حتى إنّ بعض الكُتّاب الإنجليز أطلق على المهاجرين البروتستانت اسم "رُوّاد العمل المُتقَن"(29)؛ لنشاطِهم وحيويتِهم وجِدّيتهم في العمل. يقول كالفن في هذا الصدد مُخاطِباً أتباعَهُ: "وعندما يُرِيكُم اللهُ طريقاً خالياً من الآلام لِخلاص أرواحكم... وفي طريقةٍ قانونيةٍ تستطيعون بموجبها الحصول على أرباح... فإنّ هذا لَبُرهانٌ لكم... ومن أجل الله ينبغي أن تعملوا حتى تُصبحوا أغنياء"(30). وبذلك غدت الثروة -وَفْق تعاليم اللاهوت الكالفيني- مؤشّراً للمرء على اصطفاء الله إياه، وأنه قد يكون من فئة المُجتبَين والناجين.

 

وما من مِريةٍ في أنّ رَفْض البروتستانتي الإيمانَ بالأسرار والوسائط بينه وبين الله بُغية الوصول إلى الخلاص يقود إلى استبعاد كل سِحر، ويؤدّي بفضل العقلنة المُتزايدة إلى إزالة وَهْم العالم. أمّا كيف يعلم المرء أنه ينتمي إلى فئة المُصطفَين الأخيار وما هي مَخايلُه ودلائلُه على ذلك، فإنه يكتشف ذلك -وَفْق اللاهوت البروتستانتي الكالفيني بصفةٍ خاصة- في حياةٍ شخصية مُطيعةٍ بكل دقّة لوصايا الله، وفي الفعالية الاجتماعية المُطابِقة لمشيئة الله، وتشتمل هذه الفعاليةُ الاجتماعية على نجاحه في نشاطه المهني، بحيث يغدو العملُ الفعّال تعبيراً عن مجد الله وأمَارةً من أمَارات الاصطفاء القائم على الحياة المُعاشة بتقشُّف. ولا نِزاع في أنّ هذا التعبير عن ثقة الله بواسطة النجاحات التي تُكسبها للناس يُشكّل من الناحية النفسية وسيلةً لِدفع قلق التفكير في الخلاص والاهتجاس بِهَـمّ النجاة، "بمعنًى آخرَ، يُرسّخ النجاحُ في العمل الدعوةَ الشخصية، ويُفسَّر كتبريرٍ للاصطفاء؛ لأنّ المصطفى وحده يَـنعم حقّاً بالإيمان الفعّال (fidex efficax). وعليه، لا يمكن للمرء أن يشتريَ خلاصه بأعمالٍ خيّرة أو بأسرار، إنما يمتلك اليقين بذلك بفضل فعاليّة الإيمان التي يُؤكّدُها نجاحُ أعماله المُجدّة"(31).

 

ومن ثَمّ فإن النجاح الاجتماعي يزيد السلوك الشخصي صرامةً وتشدُّداً، ويجعل التقشُّفَ هو النهجَ الذي يضمن حالة النعمة، فليس طريقُ اختبار الإيمان هو الزهدَ في الدنيا والاعتكافَ في صومعةٍ بعيدةٍ من العالم والاستغراقَ في التأمل، وإنما يكون ذلك باختيار مهنةٍ والنجاح فيها، مع ما يتطلّبه ذلك من مُحافظةٍ على الوقت واستغلالٍ لكل لحظةٍ فيه؛ إذ إنّ الكالفينية تُوجِّه المرء إلى أنْ يُحافظ على وقته، وألاّ يهدُر منه ولو دقيقةً واحدة؛ ذلك لأنّ العمل -كما سبق أنْ ألمَعْـنا في المنظور الكالفيني- يُعبّر عن تمجيد الله. "فالعملُ هو بشكلٍ خاص الدواءُ النوعيُّ الذي ينبغي استخدامُه من باب الوقاية ضدّ كلّ الإغواءات التي جَمعتْها الطُّهْريةُ في عبارة: الحياة الفاسدة (Unclean life)"(32)، بل إنه "يُشكّل هدف الحياة ذاته، كما ثبّته الله"(33)، أكثر من ذلك، إن النُّسُكية البروتستانتية تنظر إلى العمل على أنه "إلهامٌ ربّاني" أو نداءٌ ربّاني يمثّل "الوسيلة الفُضلى -إن لم تكن الوحيدة- للتأكُّد من النعمة والخلاص"(34). وكُلّما عمِل المرءُ بنشاطٍ أكثرَ وحيويةٍ أكبر كان ذلك له من علامات رِضى الله عنه. كما عليه في الآن عينِه ألاّ يقتطع من المال الذي يَجنيه من عمله الدؤوب إلا ما هو ضروريٌّ لأنْ يعيش عِيشةً راضيةً قنُوعاً تحترم شريعة الله وحُكمه وتقديره. اِقرأْ إنْ شئتَ قول بعض الطُّهريّين البروتستانت: "إننا لا نعمل فقط لكي نعيش، بل إننا نعيش لأجل حُبّ العمل"(35)، أو اقرأ قولَ آخر: إنّ "بليداً أو مُتكاسلاً لا يمكن أن يكون مسيحيّاً ولا أنْ يحظى بالخلاص"(36)، أو قولَ ثالثٍ: "إنّ مِن شأن الثراء أن يُعفيَـك من بعض الأعمال الفذّة... غير أنه لا يُعفيك من العمل والخدمة مثلَ أفقر الناس"(37)!. بل الطريف المُستظرَف أنّ سياسة التقشُّف لدى الطُّهري تطالُ -أو تكاد- الإنفاق على النفس والأهلِ والعِـيال، فعلى المرء أن يكون حريصاً في ذلك؛ إذ "إنّ إنفاق أي قطعة نُقودٍ على نفسك وأطفالك وأصدقائك إنما يتمُّ بمشيئة الله وفي سبيل إرضائه، لكنْ لا بدّ أن يكون الإنسان حريصاً على ممتلكاته، وإلاّ فإنّ المتطلّباتِ المادّيةَ لا تترُك للربّ شيئاً"(38)!.

 

من هنا، فلا بِدْعَ أن تكون مثلُ هذه الروح -التي أثمرت تلك الإنتاجية الكبرى في العمل بعيداً من البَذخ والفَخفخة والترَف- قد ولّدت نمطاً معيشيّاً أثّر بصورةٍ مباشرة في روح الرأسمالية بإيجاد مناخٍ مُؤاتٍ لنموّها وتوفير بيئةٍ مُلائمة لتطوُّرها.

 

ولهذا كُلّه يَنزِعُ ماكس فيبر إلى أنه قد كان للسلوك التقشُّفي دورٌ هام في صياغةِ عقلانيةٍ للوجود بأَسْرِه منسوبةٍ إلى مشيئة الله، كما أدّى الضبطُ المستمرُّ للنفس بصورةٍ منهجية إلى عقلنة السلوك الفردي؛ وهكذا غدا الطُّهريُّ قادراً على الإسهام في تنظيم المؤسّسات وبالتالي عقلنة الاقتصاد. لكنْ أَثَمَّةَ تناقضٌ بين ازدياد الثروة الناجم عن النجاح المهني وبين سياسة التقشُّف التي يتبعُها هذا الطراز من البروتستانت؟ والجواب -كما تجزم التعاليم البروتستانتية الكالفينية خصوصاً- قطعاً لا؛ لأنّ ما هو مذمومٌ في الواقع ليس اكتساب الثروة ولا جَمْع أكبر قدرٍ ممكن من المال، وإنما هو الإخلادُ إلى الثراء والاستنامةُ إلى الدَّعَة والراحة في التملُّك والتمتُّع بالأموال مع ما يترتّب على ذلك من نتائجَ سلبيةٍ، كالبطالة وإغراءات الشهوة... إلخ. ناهيك عن أن الثروة بالنسبة إلى البروتستانتي ما هي إلا "كمِعطفٍ خفيف يمكن خَلْعُه في أية لحظة"(39)، كما يقول باكستر(Baxter)، أحد كبار مُنظّري الفكر الطُّهري وذو الحضور الملحوظ في كتاب فيبر.

 

ولا يفوت فيبر التشديدُ على أنّه في دراسته هذه لم يَرْمِ إلى استبدال التفسير المادّي للرأسمالية الحديثة -أو للحضارة والتاريخ عموماً- بآخرَ روحانيٍّ لا يقلّ عنه آحاديةً. وفي هذا السياق، يتساءل بصيغة الإنكار: "هل من الضروري الاحتجاجُ على أنّ هدفنا ليس أبداً استبدال تحليلٍ سببي "مادّي" حصراً بتأويلٍ رُوحاني للحضارة والتاريخ، تأويل لن يكون إلا كغيره آحادي الجانب؟!.. فإنّ كُلاًّ منهما [التأويلين] يُسيء إلى الحقيقة التاريخية"(40). كما ينبغي عدمُ إعطاء العلاقة السببية التي يقول بها فيبر بين البروتستانتية والرأسمالية معنى علاقةٍ آلية؛ ذلك لأنه عندما يتحدّث عن الأخلاق البروتستانتية (بشقِّها الكالفيني على وجه الخصوص) ودورها في تطوُّر الروح الرأسمالية؛ لا يقصد بذلك اعتبار تلك الأخلاق هي سـببَ الرأسمالية أو عِلّتَها الوحيدة، وإنما بحسبانها أحدَ العناصر الأساسية للروح الرأسمالية الحديثة القائمة على تنظيمٍ عقلاني للأعمال، يقول فيبر في هذا الصدد: "لقد حاولنا ببساطةٍ أنْ نُحدّد الحِصّة التي تعُود إلى العوامل الدينية، مِن بين العوامل العديدة التاريخية المعقّدة التي أسهمت في تطوُّر حضارتنا الحديثة الموجَّهة تخصيصاً نحو الحياة الدنيا"(41).

 

ما كان تصوُّر ماكس فيبر للعلاقة بين الإسلام والرأسمالية؟

 

يبدأ صاحب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية دراسته بالسؤال: في أي سياقٍ من الظروف برزتْ ظاهراتٌ ثقافيةٌ في الحضارة الغربية وحدها دون سواها، ظاهراتٌ ارتدَتْ مدلولاً وقيمةً كونية؟ ويُجيب قاطِعاً بأنه لا وجود لعِلمٍ يُعترف بـ"قيمة" تطوُّره إلا ذاك الذي في الغرب، على الرغم من إقراره بأنه قد أتى حينٌ من الدهر ظهرتْ فيه خارج أوروبا معارفُ تجريبيةٌ، وأفكارٌ حول الكون والحياة، وحِكمٌ فلسفية ولاهوتيةٌ عميقة، لا سيّما في الهند ومصر وبابل... إلخ، بَيد أنه "باستثناء الغرب ما مِن حضارةٍ تمتلك كيمياء عقلانية"(42). ومع أنه لا يُنكر أنّ الحضاراتِ والسياسات الآسيويةَ قد عرفتْ البحث العميق في التاريخ، فإنّ كلّ هذه السياسات كانت -بنظره- تفتقر إلى طريقةٍ منهجية يمكن مقارنتها بأرسطو، كما كانت تعوزهم المفاهيم العقلانية بصورة خاصة. ويَقطع فيبر بأنّ الأشكال الفكرية الدقيقة في منهجيتها -الخاصةَ بالقانون الروماني وخلَفِه؛ أي القانون الغربي- هي أشكالٌ غير موجودة مطلقاً إلاّ في أوروبا. فالغربُ وحده برأيه هو الذي يعرف صرحاً قانونيّاً سامقاً على غِرار الحقّ الكنَسي. ومثلُ ذلك الفنون، فربما كانت شعوبٌ أخرى تتمتّع بحسٍّ موسيقيّ ما، إلا أنّ الموسيقى المتكاملةَ عقلانيّاً، المتناسقةَ من الناحية الفنّية في إطار وحدةٍ متلائمة، لم توجد -من وجهة نظره- إلا في الغرب. بل إنّ عقلنة الفنّ بحسب فيبر قد أصبحت أمراً كلاسيكيّاً بالنسبة إلى الأوروبيين، وهذا يصحّ على الطباعة والصحافة والدوريات العلمية... إلخ. ولئن وُجد "في الصين وفي الإسلام كلُّ أنواع مؤسّسات التعليم العالي التي لا مثيل لها شكليّاً في جامعاتنا... غير أنّ بحثاً علميّاً عقلانيّاً منهجيّاً ومتخصّصاً، وهيئةً من المتخصّصين المجرّبين، لا وجود لهما في أي مكانٍ آخرَ غيرِ أوروبا"(43). كما ينطبق ذلك على الموظّف المتخصّص الذي يُعَـدّ حجر الزاوية في الدولة الغربية الحديثة وفي الاقتصاد الأوروبي الحديث. ولا مِراء برأيه في أنّ الوجود الاجتماعي برُمّته وبأشكاله السياسية والاقتصادية والتقنية مرتبطٌ بالضرورة وبشكلٍ كُلّي بتنظيم الموظّفين المُتخصّصين والأكْفاء. أمّا الدولة -بالنظر إليها على أنها "مؤسّسة سياسية لها دستورٌ مكتوب، ولها قانونٌ قائم عقليّاً، وإدارةٌ موجَّهة على أساس قواعدَ عقلانيةٍ أو قوانين، ولها مُوظّفون ذوُو كفاءة- فليست معروفة على هذه الصورة إلا في الغرب"(44). من كل ما تقدّم يمكن استظهار أنّ ثمة شوفينيةً غلاّبة تطغى على تفكير ماكس فيبر، فهو رهينُ مَحبِسها، وتظهر على جهة الخصوص في جُنُوحِه الجَمُوح إلى القول بِفرادة الحضارة الغربية ومَركزيّـتها وتقدُّمِها على سائر الحضارات الكونية الأخرى، بما في ذلك الحضارة الإسلامية.

 

ففيما يتعلّق بتصوُّره للعلاقة بين الإسلام والرأسمالية، يَـنزِعُ فيبر إلى أنّ الطبيعة الوراثية للمؤسّسات السياسية الإسلامية قد حالتْ -إلى جانب عوامل أخرى- دون ظُهور المقدّمات الضرورية للرأسمالية في عالم الإسلام، وبصورةٍ خاصة: القانون العقلاني، والسوق الحُرّة، والاقتصاد النقدي، والطبقة البرجوازية والمُدن المستقلّة. ثم إنّ الإسلام -عنده- نقيضٌ من جوانبَ عديدةٍ للمذهب الطُّهري، بسببٍ من أنه يتبنّى اتّجاهاً شهوانيّاً خالصاً، خصوصاً تجاه النساء والمِلكية والكماليات، ولذا فإنّ من غير الممكن أن تبرُز في الإسلام أخلاقٌ زُهدية للسيطرة على العالم.

 

ويذهب فيبر إلى أنه في ظِلّ نظام الإقطاع الوَقْفي والبيروقراطية الإرثية اللذين كانت تتميزّ بهما الدولةُ الإسلامية عبر تاريخها -سيّما العباسية والمملوكية والعثمانية- لم يكن بالإمكان ظهورُ متطلّبات العقلانية المُمهِّدة للرأسمالية، كما أنّ الظروف العسكرية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي ما كانت مُلائِمةً لتطوُّر الرأسمالية.

 

وهكذا، فإنّ التصوُّر العامّ الذي انتهى إليه فيبر في دراسته للإسلام هو أنّ المجتمع الإسلامي مجتمعٌ يتميّز بعِلاقات سياسيةٍ واقتصاديةٍ وقانونية غير مستقرّة، ويطبعها طابعُ الاستبداد واللاعقلانية، حسب المفهوم الفيبري للكلمة. وتشوُّفاً إلى إبراز فضل الحضارة الغربية على حضارات الشرق، يدأب ماكس فيبر -كما يَلْحَظ براين تيرنر في كتابه علم الاجتماع والإسلام- على المُقابلة بين الإقطاعية الأوروبية التي كانت تحمي حقّ المِلكية وبين الإقطاع الوَقْفي والنزعة الإرثية التعسُّفية في الشرق بعامة، وفي المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاص، "إنّ مِحور تصوُّر فيبر للمجتمع الإسلامي يتمثّل في المُقابلة بين الطابع العقلاني والمنظَّم للمجتمع الغربي خاصةً في ميدان القانون والعلوم والصناعة، وبين الأوضاع التعسُّفية وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الحضارات الشرقية وبالذات في الإسلام"(45).

 

بَيد أنّ فيبر لم يكن الوحيد ولا مُحْرِز قصَب السَّـبْـق في تصوُّره هذا للإسلام؛ فقد كانت وِجهةُ النظر هذه هي السائدةَ لدى مُنظّري الفكر السياسي والفلاسفة والاقتصاديّين الكلاسيكيّين في القرن التاسعَ عشرَ فيما له مَساسٌ بالفُروقات بين المجتمعات الشرقية والغربية من حيث أنماطُ حياتها، ونُظُمُها السياسية، وطرائقُها في التفكير والسلوك، إذ إنّ الفلاسفة الشموليّين والاقتصاديّين التقليديّين -أمثال آدم سميث في كتابه ثورة الأمم، وجيمس ميل في كتابه تاريخ الهند البريطانية، وجون ستيوارت ميل في كتابه أُسُس الاقتصاد السياسي- كانوا يَنزِعُون إلى أنّ ثمة فُروقاً كبرى لا يُستطاع طمسُها بين أوروبا الإقطاعية وبين الاستبداد الشرقي الذي مهّد لِظُهور ظروفٍ اقتصادية جامدةٍ، مَـثّـلتْ حَوائلَ موضوعيةً دُون نُموّ الرأسمالية. ثم جاء كارل ماركس -وهو الذي أفاد أيَّما إفادةٍ من الفكر الاقتصادي البريطاني- لِـيَـنْظِم مُتناثر هذه الأفكار ولِيُبلورها مِن ثَمّ تحت مفهوم "أسلوب الإنتاج الآسيوي"، الذي يُماثل من الناحية التصوُّرية مفهوم "السيطرة الإرثية" لدى ماكس فيبر(46).

 

لقد أكّد فيبر بأطروحته هذه احترامَه لأهمّية الدين كقوةٍ تكامُلية في المجتمع ولِمكانة المعتقدات والممارسات الدينية في مسائل التغيُّر الاجتماعي. ثم إن كتاباتِه مليئةٌ بإلماعاتٍ بارزة إلى وظيفة الدين المعيارية ودوره في الاستقرار الاجتماعي وفي الدفع نحو الحيوية العملية وعقلنة السلوك، كما هو حال الأخلاق البروتستانتية (الكالفينية على وجه الخصوص). وجُلُّ ما فعله فيبر في هذا المجال هو أنه أخذ مسألة الرأسمالية من المجال الاقتصادي ووضَعها في مجال الفكر الديني، معتبراً أنّ الدين من أقوى حوافز الفعل الاجتماعي ولا غِنًى عنه من أجل فهم المجتمع، والسلوك الاجتماعي، ومن أجل فهم التاريخ وحركتِه. وجُملة ما أراد قوله هو أنّ الروح الرأسمالية الحديثة قد نشأت من خلال العقيدة البروتستانتية وأخلاقيّاتها، بل إنّه ينزِعُ إلى أنّ روح الرأسمالية "هي نفسُها روحُ العقيدة البروتستانتية بما تنطوي عليه من أنماطٍ سلوكية أخلاقية وعملية. ولقد وُجدتْ الأخلاقيات الاقتصادية في نطاق المذهب البروتستانتي؛ فروحُ الرأسمالية -بناءً على ذلك- ظهرت قبل أنْ تَظهر الرأسمالية ذاتُها"(47).

 

وما من نِزاعٍ في أنه قد كان لأفكار فيبر -لا سيّما دراستُه هذه- رَجْعٌ بعيدٌ وصدًى واسعٌ لدى الباحثين في مجال السوسيولوجيا الدينية كما في الاقتصاد والتاريخ ومقارنة الأديان وغيرها، إنْ مُناوَءةً ونقداً وتفنيداً، وإنْ مُناصَرةً ومُنافحةً عن أطروحته وتأييداً. أمّا النقود التي وُجّهت إلى نظريته فمن أبرزها ما يلي:

 

1- أخذ المؤرّخ جيوفري ألتون على أطروحة فيبر نُزوعها البيّن إلى التعميم الواسع الذي لا تؤيّده الوقائع ولا التطوُّرات الاقتصادية؛ إذ إنّ ثمة نواحيَ كاثوليكية السكّان في إيطاليا وفرنسا وسويسرا وهولندا ظهرت فيها رُوح الرأسمالية بالمفهوم الفيبري قبل النواحي البروتستانتية المُجاورة. ولذلك فقد كان على المؤرّخ فيبر ألاّ يقع ضحية ميل السوسيولوجيين إلى التعميم استناداً إلى عيّناتٍ قليلة أو غير مُمثِّلة(48).

 

2- اتّهم بعضُ الباحثين ماكس فيبر بأنه انطلق من أنّ الذهنية البروتستانتية هي المحرّكُ الأساسُ لِنُموّ النظام الرأسمالي، ذاهِلاً عن أنّ ثمة عواملَ أخرى ساعدتْ إن لم تكن قد حرّكت عجلة نُموّ الرأسمالية، من مثل: انفصال العمل اليدوي عن العمل الحِرفي، وتدفُّق المعادن والموادّ الأولية والنقود، وتطوُّر النظام المَصرِفي وما رافق ذلك من تطوُّراتٍ علميةٍ وثقافية وتكنولوجية... إلخ.

 

3- رأى بعضهم أنّ الذهنية الاقتصادية، التي عَدّها فيبر إحدى خواصّ الأخلاق الكالفينية وأنّ ظُهورها كان سابقاً على نشوء أسلوب الإنتاج الرأسمالي، إنما كانت في الواقع نظرةً اقتصاديةً/اجتماعيةً لِطبقة العمّال اليدويّين الذين كانوا يعملون في المدن إبّان الفترة التي سبقتْ تطوُّر الرأسمالية في الصناعة. بَيد أنّ هذه الذهنية الاقتصادية كانت أقدمَ من الكالفينية، وتمثّلتْ بروح التمرُّد لدى الحِرفيّين في وجه استغلال الإقطاع والكنيسة والعمل الشاقّ... إلخ، ولا يمكن بنظر هؤلاء الباحثين البحثُ عن تفسيراتٍ لهذه الذهنية أو هذه الروح المتمرّدة لدى العمّال إلاّ في إطار العلاقات الاقتصادية/الاجتماعية، لا في ذهنياتٍ دينية أو خُلقية.

 

4- ذهب بعضُ الدارسين إلى أنّ ماكس فيبر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بَـدا متأثّراً في تفسيره للتطوُّر الاقتصادي بالمثالية(49) الموضوعية التي تعُود في جذورها إلى هيغل، الذي يرى أنّ لكلّ حقبةٍ تاريخيةٍ رُوحَها الخاصَّ بها، والذي يشتمل على مجموعةٍ من النظرات النفسية. فما فعله فيبر برأي هؤلاء ليس أكثر من أنه جعل الرأسمالية وليدة تلك الثورة؛ في الذهنية الاقتصادية التي نجمت عن حركة الإصلاح الديني البروتستانتي.

 

5- نَبّه بعضُهم على أنّ الناس ليسوا بحاجة إلى نداءٍ سماوي دِيني كَيْما يندفعوا إلى السعي وراء المال ومُراكمته وتحصيل الثروة، إذ إن ذلك مركُوزٌ في طبائعهم(50). على أنّه ليس يعسُر دَفْعُ هذا الاعتراض؛ فإنّ ماكس فيبر نفسه قد أكد في أكثرَ مِن موضعٍ في كتابه الأخلاق البروتسانتية وروح الرأسمالية(51) أنْ ليست القضيةُ قضية تعطُّشٍ للثروة والكسب أو لُهاثٍ وراء جمع المال.

 

6- لعلّ أشد ما يُؤخذ على ماكس فيبر قولُه بفرادة العقلانية الأوروبية وتَميُّزِ الحضارة الغربية عن غيرها وتعصُّبه لها، وذَهابُه إلى أنه ثمة "في الغرب -وفي الغرب وحده- بعضُ أنماطٍ محدَّدةٍ جدّاً من العقلنة"(52)، وإيلاؤُه للوراثة البيولوجية الدورَ الكبير في هذا المجال، وكأني به يريد أن يقول: إنّ العقلانية والنُّبُوغ والعبقرية وما يرتبط بها من ثمارٍ -لا سيما من ناحية السلوك الاقتصادي المنظَّم على أساسٍ عقلاني- هي في جِبلّة الإنسان الغربي يَرثُها الأبناءُ عن الآباء جينيّاً(53)!!.

 

والملحوظ أنّ أطروحة فيبر هذه قد حَظيتْ ببعض الترحيب من جانب علماء اللاهوت ومقارنة الأديان والسوسيولوجيين، على الرغم من أنّ اللاهوتيّين الكاثوليك رأوا في قولِه بسُكونية الكاثوليكية وانفصالِها عن العالم وجُمودِها في مجال روح العمل والرأسمالية اتّهاماً بتخلُّفها؛ بينما رأت الكنائسُ البروتستانتية الكبرى أنّ في إبراز فيبر لدور كنائس التقَويّين والطُّهْريّين والنُّسُكيّين على حسابها ظُلماً تاريخيّاً لها، وطَمْساً جائراً لِدورها في الإصلاح الديني وفي ظهور الدولة القومية الحديثة. على حين أنّ ردّة فِعل المؤرّخين الاجتماعيّين كانت سلبيةً بصورة عامة، مع أن كثيراً من سوء الفهم -كما اعترف فيبر نفسُه- قد أحاط بدراسته هذه، ومردُّ ذلك إلى الخلل الذي اعتور طرائقه في التعبير، والتدليل القاصر الذي اتخذ شكل البرنامج لا الدراسة التحليلية(54).

 

على أي حال، وأيّاً ما تكن النقود التي وُجّهت إلى ماكس فيبر في ربطِه بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، فليس من أحدٍ يُماري في أنه رجُلٌ من مَعارف التاريخ قد حقّق فتحاً عظيماً في تسليطِه الضوءَ على أحد أهم العناصر والعِلل والأسرار التي كانت وراء نهضة الغرب، وفي اكتشافِه تلك الرابطةَ القوية بين الأخلاق والعمل، بين النظري والتطبيقي، بين الروحي والمادّي؛ إذ لاحظ أنه أنّى وُجدت البروتستانتية (في شِقّها الكالفيني بخاصة) -وهي التي تُقدّس العمل، وتُشجّع روح المبادرة، وتحُثّ أشياعها على مُراكمة الأموال وتجميع الثروات... وكل ذلك في سبيل إرضاء الربّ واستدرار عطفِه وبلوغ الخلاص- انبعثتْ الرأسماليةُ ونشطت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**) ولد ماكس فيبر في مدينة إيرفورت بألمانيا في 21\4\1864 وتُوفي في 14\6\1920 (أي عاش ستة وخمسين عاماً)، وينحدر من أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى في المجتمع الألماني. وكان والدُه رجلاً ذا نزعةٍ بيروقراطية تَـقلّد مناصبَ سياسيةً مرموقة وخالَط الساسة المُخضرمين. أمّا والدتُه فكانت مُتديّنةً مُتزمّتةً في تديُّنها تعتنق المذهب الكالفيني. حصل فيبر في سنة 1892 على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكان اهتمامُه الأكاديمي يتوزّع على الاقتصاد والتاريخ والقانون وعلم الاجتماع. عمِل مدرّساً في جامعة برلين، ثم أستاذاً للاقتصاد في جامعة هايدلبرغ، وفي سنة 1905 نشر أشهر مؤلّفاته الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية. لينصرف بعد ذلك إلى دراسة الأديان القديمة، مثل الديانة الصينية والهندية واليهودية والإسلام. وكان منزلُه ملتقى الفلاسفة والمفكّرين والنقّاد، كما أسهم في تأسيس جمعية علماء الاجتماع الألمان. انظر: معن خليل عمر؛ نظريات معاصرة في علم الاجتماع؛ دار الشروق للنشر والتوزيع؛ عمّان، الأردن؛ ط1، 2005؛ ص159-160.

1) يوسف شلحت، نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني (الطوطمية-اليهودية-النصرانية-الإسلام)؛ تحقيق: خليل أحمد خليل، دار الفارابي, بيروت، لبنان؛ ط1، 2003؛ ص15. (المقتبس عن تقديم خليل أحمد خليل للكتاب لا عن المؤلّف).

2) جوليان فروند, سوسيولوجيا ماكس فيبر, ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، دون تاريخ، ص87.

3) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: محمد علي مقلّد، مركز الإنماء القومي، مراجعة: جورج أبي صالح، بيروت، لبنان، دون ذكر رقم الطبعة أو تاريخها، ص67.

4) رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، مراجعات ومتابعات، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1997، ص338-339.

5) إبراهيم الحيدري، "جدلية الحوار حول أطروحة ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية""، مجلة العلوم الاجتماعية، مج18، عدد1، ربيع 1990، ص159.

6) انظر: براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، ترجمة أبي بكر باقادر، دار القلم، بيروت، ط1، 1987، ص25.

7) انظر: كاترين كوليو تيلين، ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة: جورج كتورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1994، ص34-35.

8) عن: كاترين كوليو تيلين، ماكس فيبر والتاريخ، (في صفحات الكتاب الأخيرة نصوص لماكس فيبر)، ص116.

9) انظر: المصدر السابق نفسه، ص73، ومحمد علي محمد، المفكرون الاجتماعيون، قراءة معاصرة لأعمال خمسة من أعلام علم الاجتماع الغربي، دار النهضة العربية، بيروت، 1983، دون رقم الطبعة، ص236-237.

10) رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، ص341.

11) لأنه لا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال -كما يؤكد فيبر- أن تُنسَب الروحُ الرأسمالية إلى مارتن لوثر، فقد كان مُعادياً لهذه النزعة "الفرانكلينية" ولكل من يُمثّلها، لقد "فشل لوثر فشلاً ذريعاً في إقامة صلةٍ... تقوم على مبادئَ أساسيةٍ بين المَشاغل الوظيفية والمبادئ الدينية". ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص55، بل إن الكالفينية تُمثّل سبب إرعابٍ للكاثوليكيين واللوثريين معاً، وذلك بداعٍ من خصوصياتها الأخلاقية، وبخاصةٍ من حيث إنّ العلاقات التي تُقيمها بين الحياة الدينية والنشاط الدنيوي تختلف اختلافاً بيّناً عن تلك المعروفة في الكاثوليكية أو في اللوثرية. انظر لمزيدٍ من التفصيل في أخلاق الشغل عند لوثر: فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص50-60، على أنه ينبغي الإشارة إلى أنّ فيبر لا يقصد بالكالفينية آراء كالفن الشخصية، وإنما الكالفينية في شكلها الذي كانت عليه في فترة نهاية القرن السادسَ عشرَ وفي خلال القرن السابعَ عشر، "ومن نافل القول أنّ اللوثري ليس أبداً مُرادفاً للكالفيني"، فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص99.

12) انظر: ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص50، وزيدان عبدالباقي، علم الاجتماع الديني، دار غريب للطباعة، القاهرة، دون رقم الطبعة وتاريخها، ص95-110، ونبيل السمالوطي، الدين والبناء الاجتماعي، دار الشروق، جدّة، السعودية، ط1، 1981، ج2، ص125-129 و145-151.

13) محمد علي محمد، المُفكرون الاجتماعيون، ص240-241.

14) جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، ص86-87.

15) جوليان فروند، المصدر نفسه، ص85-86، ومحمد علي محمد، المفكرون الاجتماعيون، ص237-239.

16) عن: ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص26-28.

17) عن: فيبر، المصدر نفسه، ص152.

18) فيبر، المصدر نفسه، ص12.

19) جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، ص85.

20) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص7.

21) فيبر، المصدر نفسه، ص7.

22) فيبر، المصدر نفسه، ص16.

23) فيبر، المصدر نفسه، ص18.

24) فيبر، المصدر نفسه، ص19.

25) انظر: فيبر، المصدر نفسه، ص20.

26) جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، ص100، وفيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1998، ص157-158.

27) محمد أحمد بيومي، علم الاجتماع الديني ومشكلات العالم الإسلامي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 1997، ص151-183.

28) إبراهيم الحيدري، "جدلية الحوار حول أطروحة ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية""، ص162.

29) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص168، وانظر في هذا الشأن: رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، ص341.

30) عن إبراهيم الحيدري، "جدلية الحوار حول أطروحة ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية""، ص163.

31) جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، ص101-102.

32) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص135.

33) فيبر، المصدر نفسه، ص136.

34) فيبر، المصدر نفسه، ص146.

35) فيبر، المصدر نفسه، ص154.

36) فيبر، المصدر نفسه، ص154.

37) فيبر، المصدر نفسه، ص154.

38) فيبر، المصدر نفسه، ص163.

39) فيبر، المصدر نفسه، 148.

40) فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص149.

41) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص58، وانظر: حيدر إبراهيم علي، "الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية: ملاحظات في علم الاجتماع الديني"، في: الدين في المجتمع العربي، مجموعة من الباحثين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1990، ص61.

42) فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص5.

43) فيبر، المصدر نفسه، ص7.

44) فيبر، المصدر نفسه، ص7.

45) براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، ص31، ولمزيدٍ من التفصيل انظر: المصدر نفسه، ص15، و28-31، رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، ص350.

46) انظر: براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، ص31-35.

47) عبدالباقي، علم الاجتماع الديني، ص108، وانظر: المصدر نفسه، ص105-109.

48) رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، ص343.

49) لم يكن ماكس فيبر يريد لأطروحته حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية أن تتبدّى وكأنها تعبيرٌ عن النزعة المثالية، وقد ألمعَ بعضُ الدارسين إلى أنه كان مستاءً من التفسيرات المثالية لقضية الأخلاق البروتستانتية، لكن على الرغم من ذلك، فقد حاول بعضُ معاصريه (هانز ديلبرك) أن يستفيد من نظرية فيبر في علاقة الكالفيني بالرأسمالي، ويُقدّمها بحسبانها نزعةً مثاليةً مضادّة للماركسية، فاعترض فيبر على ذلك بحِدّة، قائلاً: "يجب أن أعترض على هذا، فأنا أكثرُ ميلاً للنزعة المادّية أكثر ممّا يظنُّ ديلبرك". عن: براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، ص25.

50) إبراهيم الحيدري، "جدلية الحوار حول أطروحة ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية""، ص165-167.

51) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص7 وص31.

52) ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص14.

53) سبق التنبيه إلى كثيرٍ من النصوص الفيبرية التي تدعم هذا التصوّر، وانظر لمزيدٍ من التفصيل في هذا الشأن: ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص5-14.

54) رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، ص341-343، وبراين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، ص22-23.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/79

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك