الاختلاف والتعايش السلمي

محمد محفوظ

 

 

    ثمة حقيقة إنسانية ثابتة، ينبغي الاستناد عليها في عملية تطوير العلاقات الاجتماعية والانسانية، وتجاوز كل الإحن والأحقاد والضغائن التي تحدث بين بني الانسان من جراء تباين وجهات نظرهم أو تناقض مصالحهم أو اختلاف مشاربهم الايدلوجية أو ما شبه، وهي أن الاختلاف بين البشر من النواميس الكونية والاجتماعية، التي لا يمكن نفيها أو التغاضي عنها.

 

وسيبقى سنة ماضية في حياة البشر.. إذ يقول تعالى {ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية 118- 119) ولكن هذا الاختلاف الإنساني، ليس مدعاة للتنابذ والنزاعات والحروب والصراعات المفتوحة، وإنما هو مدعاة للتفاعل الايجابي والبناء والتعاون، وذلك لأن هذا الاختلاف ليس اختلاف أفضلية قومية أو عرقية أو قبلية أو أثنية أو ما أشبه، بل هو اختلاف غائي، جعل الباري عز وجل غايته أن يكون سببا للتبادل والتداخل والتشارك والتعايش والتعارف، وللجدل الذي يقوم عليه نظام الحياة، لذلك نجد ان الدين الاسلامي، يقف موقفا مضادا من كل حالات التفضيل الترابي بين بني الانسان. فلا فضل لعرق على آخر، أو لنحلة على أخرى أو لون على لون، وانما هم جميعا سواء ويبقى معيار التفاضل معيارا كسبيا بصرف النظر عن الأصل والمنبت، إذ يقول تبارك وتعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. فالتفاضل بين البشر لا يكون الا في الأمور الكسبية، حيث ان الله تعالى وفر لجميع الخلق كل الامكانات والقدرات، والتباين يبدأ ويتضح من جراء حجم الاستفادة من هذه القدرات بين البشر، فالاختلاف بين البشر، لا يؤسس لأي عملية تفاضلية، استنادا على عرق أو لون أو ما اشبه، وانما يقود للتداول والتبادل والتعاون والتعارف، حتى يستطيع البشر الاستفادة من بعضهم البعض على مختلف المستويات والمجالات.

 

ولكي تتم هذه الاستفادة على أكمل وجه، من الضروري التعامل مع الآخرين مهما كانت أصولهم أو ألوانهم أو قناعاتهم على قاعدة المساواة والاشتراك في الآدمية والانسانية، فلا نمارس عملية الاقصاء والتهميش والنبذ، ولا نتنصل من موجبات المشترك الانساني.

 

وعليه فإن الاختلاف الذي هو لازمة من لوازم الانسان، وسنة كونية واجتماعية، ليس مدعاة للشقاق والنزاع والاحتراب، وانما هو يؤسس للتعايش والتعاون، ولقد أوجد الدين الاسلامي جملة من المبادئ التي تؤسس لحالة التعايش الاجتماعي والانساني، واهم مبادئ التعايش الآتي:

 

1- التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل، وتعميق عوامل الوئام الاجتماعي.. ولعلنا لا نبالغ حين القول، بان الحوار بين البشر هو الوسيلة المثلى للتعارف واضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر، لذلك أكد القرآن الحكيم على هذه القيمة، واعتبر ان التعدد والاختلاف الموجود بين البشر، ليس من أجل الاستعلاء والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولا الى تعميق عوامل واواصر التفكير الحر والسليم.. قال تعالى {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. (سورة الحجرات الآية 13).

 

ويشير الدكتور طه جابر العلواني إلى أهمية مبدأ التعارف في عملية التعايش والاستقرار بقوله: إن المسلمين لا يقبلون مبدأ احترام خصوصيات الآخرين فحسب، بل انهم يطالبون أنفسهم والآخرين بالوقوف مع الداعين لحماية الخصوصيات، خصوصيات الشعوب على تنوعها، من لغات، وتاريخ، وآداب، وثقافات لكن لا من أجل تحويلها إلى ما يشبه العوازل الخرسانية بين البشر، وبين الأمم، بل من أجل مساعدة البشر، كل البشر، على ادراك انسانيتهم المشتركة، ونسبيتهم، وايجاد حالة التعارف المؤدية الى التآلف، الذي يقود الى التعاون، على تعزيز ما عرف في الاسلام بالمعروف، واضعاف ما عرف فيه ايضا بالمنكر . والمعروف ما تعرفه البشرية، ويمكن أن تتعارف عليه جميعا، وتتبناه، والمنكر ما تنكره الفطرة، وترفضه طبيعتها، ولا يمكن للناس ان يجتمعوا عليه، أو أن يقيموا بنيان حياتهم على جرفه الهار، أو أسسه المهتزة، فالاختلاف ليس سببا للجفاء والتباعد، والتباين في وجهات النظر، لا يلغي الجوامع المشتركة بين بني الانسان، وتعدد الاجتهادات ليس مدعاة للنبذ والنفي، وانما كل هذا يؤسس للانخراط في مشروع التعارف والفهم المتبادل، حتى نشترك جميعا في بناء حياتنا على أسس العدالة والتعاون على البر والتقوى.. فالله خلقنا من نفس واحدة مهما اختلفت احوالنا والواننا وافكارنا، وهذا بطبيعة الحال يقتضي منا جميعا العمل على ارساء معالم التعارف المباشر على بعضنا البعض، ونبذ كل اشكال القطيعة والجفاء والتباعد.. اذ يقول تعالى {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساءً} (سورة النساء الآية 1).. فنحن جميعا اسرة واحدة ممتدة، لذلك علينا توطيد اواصر هذه الوحدة بالمزيد من التعارف والتواصل، فالدين الاسلامي يرسي مبدأ التعارف المفتوح على كل المبادرات والابتكارات لانجاز مفهوم التعايش والاستقرار الاجتماعي. اذ انه لا يمكننا ان نحقق مفهوم التعايش السلمي بدون التعارف، فهذا المنهج هو الذي يزيل الالتباسات، وينجز الأسس النفسية والسلوكية للحوار والتواصل والتعاون..

 

2- التعاون، اذ اننا مطالبون ان نوصل مفهوم التعارف بيننا الى مستوى متقدم يؤهلنا نفسيا وعمليا للتعاون، حيث إننا كمجتمعات، لا يمكن ان نثبت مفهوم التعايش السلمي بدون تطوير مستوى التداخل والتعاون بين مكونات الأمة والمجتمع والوطن.

 

إذ أن وحدة المجتمعات، بحاجة الى تشابك مصالح مكوناتها، وتتعاون اطرها ومؤسساتها في سياق تعميق هذا الخيار، وتجذير مشروع التعايش السلمي.

 

ولا ريب ان اطلاق العنان للنفس، لاتهام الآخرين وتحميلهم ما لم يقولوه او يؤمنوا به، يعد احد الأسباب الجوهرية التي تحول دون التعاون على البر والتقوى بين مكونات الأمة والوطن.

 

فالتعاون بحاجة الى صفات نفسية وسلوكية متبادلة قوامها الرحمة وحسن الظن والثقة والتسامح وقبول الرأي المخالف، حيث إن هذه الصفات، تخلق مناخا اجتماعيا مؤاتيا الى التعاون والتعاضد والتضامن فليس من المعقول، اننا على المستوى النظري ننتمي الى شرعة التيسير والرحمة، ولكننا على المستوى الواقعي نسرف في التشدد والغلو والتطرف.

 

واذا توفرت في بعض حقبنا التاريخية بعض مظاهر الاسراف المذكورة، نحن بحاجة الى تجاوزها معرفيا وفلسفيا واجتماعيا، ونعمل معاً على تنقية واقعنا بكل روافده من عوامل الغلو واسباب التشدد التي لا تنسجم ومقتضيات سماحة الاسلام ورحمته.

 

من هنا فان التعاون يقتضي التمسك بحرية الرأي ونفي الاكراه والاضطهاد، وتوفير كل مستلزمات البحث والحوار الحر والموضوعي، وذلك لأن الاكراه بكل صنوفه وأشكاله، يخلق واقعا نفسياً واجتماعياً يحول دون التعاون، حيث ستسود حالات الخوف وغياب الثقة المتبادلة وازدياد وتيرة الهواجس المجهضة لكل فعل وممارسة تضامنية، وتعاونية.

 

3- العدل وذلك لأن تجاوز حقوق الآخرين، والتعدي على خصوصياتهم، يفضي الى غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا تعايش سلمي بدون استقرار، ولا استقرار بدون عدل بحيث يعطي كل ذي حق حقه، لذلك فان من المبادئ الأساسية للتعايش السلمي، هو ترسيخ مبدأ العدالة في الواقع الاجتماعي بحيث يسود هذا المبدأ الذي هو اساس الاستقرار في العلاقات الاجتماعية وانماط التواصل بين مختلف شرائح وفئات المجتمع، والعدالة كقيمة كبرى، لا يمكن ان تسود في اي مجتمع، إلا اذا عمل كل فرد على تزكية نفسه وممارسة دوره وتحمل مسؤوليته وعمل على تطوير وتنمية واقعه، وذلك لأن الجذر النفسي للعدالة، هو خلو النفس من الأحقاد الناتجة عن الحسد والكراهية والقسوة، ومن خلوها من المطامع الناتجة من حب الدنيا والحرص عليها والاغراق في الشهوات، فيكون العدل نتاج المحبة والرحمة واحترام الآخرين والثقة بهم وبامكاناتهم وكسبهم، لذلك نجد أن الذكر الحكيم يأمرنا بممارسة العدالة في كل دوائرنا، اذ يقول تبارك وتعالى {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (سورة المائدة الآية 8).

 

فإذا كنا جميعا نروم الاستقرار، ونتطلع إلى التعايش السلمي، فلابد أن نعمل على توطيد أركان العدل في الواقع الاجتماعي.

 

لأن العدل في كل مجالات الحياة، هو بوابة الاستقرار، ومبدأ وجوهر التعايش السلمي، وعليه فان الاختلاف بكل مستوياته، ينبغي ان يقودنا الى النزاع والشقاق، بل الى التبادل والتداول والاحترام المتبادل،

 

ولكي تتحول حالة التعايش بين مكونات المجتمع وفئاته المتعددة، الى حقيقة راسخة وثابتة، نحن بحاجة الى الالتزام بهذا الثالوث القيمي (التعارف، التعاون، العدالة) فهي مبادئ التعايش الراسخ، وبها نتمكن من حماية وحدتنا ومكاسبنا، والعمل على تنمية واقعنا في كل الحقول والمجالات.

المصدر : http://www.alriyadh.com/18032

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك