المسألة القيمية والمستقبل: الدين والمعرفة والأيديولوجيا والمسؤوليات المشتركة

علي محمد المكاوي

 

القيم هي مجموعة التصورات والمفاهيم التي تحدد للإنسان السلوك المقبول وغير المقبول، والأساليب والوسائل والأهداف التي يحرص عليها. وعلى هذا تتباين الجماعات والأفراد والمجتمعات في ضوء تباين الموجهات القيمية Value Orientations، وتختلف المواقف باختلاف تلك الأنساق القيمية، وتتنوع المسؤوليات وتتناقض بتنوع الأطر المرجعية القيمية.

 

إن تيارات العولمة تجوب اليوم كل أرجاء العالم، وتفرض ثقافة واحدة عالمية، هي غالباً ثقافة الشعوب الغالبة المسيطرة، وتسعى للهيمنة على الثقافات الوطنية في العالم الثالث. غير أن القيم الاجتماعية والأنساق القيمية تصمد أمام هذه المحاولة للهيمنة، وتتشبث بالجذور، وتتمسك بالثوابت، التي أكدها الدين ويلح على تأكيدها، وتدعو إلى مراعاة الخصوصية Specificity والالتزام بالنسبية الثقافية. ويظل الدين في عالمنا العربي والإسلامي هو القلعة التي تتحصن بها - وفيها - القيم, وتحافظ على الهوية والخصوصية، وتدعم الإحساس بالمسؤولية المشتركة بين بني البشر في عمارة الأرض بشرع الله، والسعي في مناكبها لاستجلاب الرزق بعزة الأنفس.

 

أولاً: مفاهيم أساسية

 

يفرض الموضوعُ المطروح -القيم والمستقبل- تناولَ مجموعة من المفاهيم المحورية التي تشكل عموده الفقري، فإذا كان الحديث عن القيم وجب علينا أن نحدد المقصود بها، ونشير إلى ما يرتبط بها - دعماً وتأييداً - مثل الأنساق القيمية، والمسؤولية المشتركة، والأيديولوجيا، والمعرفة والدين. ونشير كذلك إلى ما يدور حول القيم الآن من بدائل مثل القيم العلمانية، ومذهب الإنسانية الجديدة. ويقتضي الموضوع من ناحية أخرى الإشارة إلى المستقبل وعلم المستقبل.

 

(1) القيم Values: تزايد الاهتمام بدراسة القيم في العلوم الاجتماعية مع بداية الربع الثاني من القرن العشرين بعد ظهور دراسة وليام توماس وفلوريان زنانيتسكي عن "الفلاح البولندي في أوروبا وأمريكا" في عام 1918. وعُدّتْ القيم - منذئذ - محدداً مهماً من محددات السلوك الإنساني، ومفتاح فهم الثقافة الإنسانية. وقد تعددت الاتجاهات في تعريف القيم ما بين عَدِّهِ كأشياء وموضوعات، والنظر إليها كاتجاهات، وتعريفها من خلال الفعل، ومن خلال مؤشري الاتجاهات والسلوك، وعن طريق التصريح المباشر بها، ويَعُدُّ الاتجاه السادس القيم كمُثُلٍ ثقافية وتوجيهات قيمية، والقيم كمعايير، والقيم كمعتقدات.

 

وخلاصة هذه الاتجاهات الثمانية في التعريف أن القيم عبارة عن تصورات ومفاهيم دينامية صريحة أو ضمنية، تميز الفرد أو الجماعة، وتحدد ما هو مرغوب فيه اجتماعياً، وتؤثر في اختيار الأهداف والطرق والأساليب والوسائل الخاصة بالفعل. وتتجسد مظاهرها في اتجاهات الأفراد والجماعات وأنماطهم السلوكية, ومثلهم, ومعتقداتهم, ومعاييرهم, ورموزهم الاجتماعية, وترتبط ببقية مكونات البناء الاجتماعي تؤثر فيها وتتأثر بها(1).

 

(2) المستقبل Future وعلم المستقبل Futurology: مر التفكير في المستقبل بمراحل متعددة منها التفكير الخيالي ثم الغيبي فالديني فالفلسفي، ثم التفكير العلمي في النهاية. وكانت لكل مرحلة نمط التفكير الخاص بها وفق ظروفها ونمط إنتاجها. ولم يكن من سبيلٍ أمام تطلعات الإنسان إلا التفكير الإبداعي. إن كلمة المستقبل هي الكلمة الأكثر غموضاً في حياتنا، ولها عدة تسميات، فهي عند الضعيف تعني المستحيل، وعند الجبان تشير إلى المجهول، وعند المفكرين تشير إلى المثال(2). وهذا التفاوت والغموض يفسر لنا أسباب الهزائم؛ لأن المستقبل لا يأتي لشخص أو لمجتمع ما لم يذهب ذلك الشخص وهذا المجتمع إليه, ومن لا يفكر في المستقبل ويتطلع إليه، فهو ارتدادي الفكر نكوصي الاتجاه(3).

 

إن استكشاف المستقبل رهين بسؤال الماضي والحاضر، ويكون الجواب عنهما هدفاً مستقبلياً، وهذا يفرض تحديد المسؤولية عما جرى ويجري وما نحن مقدمون عليه. وعلى هذا كان "علم المستقبل" الذي يتناول الأحداث التي لم تقع بعد، خلال فترات زمنية لم تحلّ بعد، وعندما تحل فإنها تصبح حاضراً. ولذلك يختلف المستقبل - الذي لا يوجد إلا في الذهن والخيال والخطط التي نرسمها له, وهي أمور غير مؤكدة - عن علم المستقبل الذي يتعرض للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نتوقع لها الحدوث في المستقبل، ونضع الخطط والاستراتيجيات بهدف التعامل معها(4).

 

إن علم المستقبل علم يستهدف دراسة الاتجاهات طويلة الأجل في المجتمع، من أجل تطوير طرق بديلة للتعامل مع الأحداث القادمة أو ظروفها، واستغلال الفرص المتاحة. وتقوم على هذا العلم دراسات مستقبلية، تعد ممارسة فكرية معرفية بحثية إبداعية، تقوم على الملاحظة والوعي.

 

(3) العلمانية Secularization هي العملية التي تفقد المعتقدات والممارسات والمؤسسات الدينية بمقتضاها مغزاها وأهميتها الاجتماعية، خاصة في المجتمعات الصناعية الحديثة. ويقاس تدهور الدين بمدى المشاركة في الممارسات الدينية أو حضورها، والتمسك بالمعتقدات الدينية الصحيحة، ودعم المؤسسات الدينية المنظمة بالعضوية والمال والاحترام، وبالأهمية التي تنالها الأنشطة الدينية - كالأعياد مثلاً - في الحياة الاجتماعية. وحسب هذه المعايير فإن هناك وجهة نظر ترى أن المجتمعات الحديثة قد مرت بعملية تحول علماني في القرن العشرين.

 

وتذهب هذه النظرية إلى أن العلمانية سمة حتمية ترتبط بنشأة المجتمع الصناعي وتحديث الثقافة. فهناك من يرى أن العلم الحديث قد جعل المعتقدات التقليدية أقل إقناعاً، كما أن تعددية عوالم الحياة قد كسرت احتكار الرموز الدينية، وأدى تحضر المجتمع إلى خلق عالم يتسم بالفردية واللامعيارية، وعمل تآكل الحياة الأسرية على جعل المؤسسات الدينية أقل شأناً، كما أسهمت التكنولوجيا في تمكين الناس من السيطرة على بيئتهم بدرجة تجعل فكرة الإله كامل القدرة فكرة أقل خطورة أو أقل إقناعاً. وبهذا المعنى تستخدم العلمانية كمعيار أو مقياس لما يقصده ماكس فيبر باتجاه المجتمع نحو الترشيد.

 

في مقابل هذا يذهب نقاد النظرية العلمانية إلى أنها تبالغ في تقدير مستوى التمسك بالدين في المجتمعات التقليدية، وأنها تساوي ضمنياً بين العلمانية وتدهور المسيحية، في حين أنه يجب الفصل بينهما, وأنها تقلل من أهمية الحركات الدينية الجديدة في المجتمعات التي يطلق عليها مجتمعات علمانية, كما أنها لا تستطيع أن تفسر بسهولة وجود اختلافات وتنوعات مهمة بين المجتمعات الصناعية (كالولايات المتحدة وبريطانيا) فيما يتعلق بطبيعة ودرجة العلمانية، هذا بالإضافة إلى أنها أخفقت في أن تأخذ في نظرها دور الدين في بعض الثقافات القومية كما هو الحال في بولندا وأيرلندا، كما أنها تقلل من قيمة البدائل العلمانية للدين (كالنزعة الإنسانية مثلاً) والتي قد تؤدي وظيفة الدين دون أن تشتمل على الإلمام بالمقدس.

 

ثانياً: الأنساق القيمية العالمية الحاكمة للعالم المعاصر

 

تسود العالم المعاصر مجموعة من الأنساق القيمية المتنوعة، بعضها مستمد من الأديان السماوية، كالإسلام والمسيحية، وبعضها الآخر يرجع بجذوره إلى ديانات ومذاهب وضعية كالبوذية والكونفوشيوسية والهندوسية، والبعض الثالث ليس مرجعه الدين السماوي أو الوضعي، وإنما يستند إلى مذاهب فكرية كالإنسانية الجديدة Neo Humanism على سبيل المثال. وعلى هذا فتلك الأنساق يغلب عليها التميز الواضح، إذا أرجعناها إلى مصادرها الأساسية، ويمكن تصنيفها على النحو التالي(5):

 

(1) المصدر الأول, وهو يتمثل في ديانات التوحيد السماوية، ومنها التنويعات والصور السائدة للديانتين ذواتي القيم السماوية المنزلة القوية: الأولى هي الديانة المسيحية بمذاهبها المتعددة. والثانية هي الإسلام بمذاهبه.

 

وتحوي الديانتان رسالة سماوية عن الإله الواحد الحق، والحقيقة الوحيدة إلى العالم, ولعل هذا المضمون هو مصدر المنافسة والخلاف الدائم بين الديانتين، ولذلك فالخصومة لاتزال قائمة بينهما حول هذا المضمون. والواقع أن الانقسام الغالب قد انبثق بوضوح بينهما في العصور الحديثة جراء الاتجاهات المتنوعة نحو تزايد التيارات العلمانية.

 

ففي المسيحية ظهرت المبادرة بفصل الكنيسة عن الدولة، فلاقت مقاومة عنيفة في البداية، ولكن سرعان ما حظيت بالقبول العام, وعلى هذا بدأت القيم العلمانية تأخذ مجراها وتجد مكانها، وتنتشر في كل الدول ذات الخلفية المسيحية. أما في الإسلام، فإن هذا المسلك مرفوض من الأساس ومستحيل أصلاً، على الرغم من الجهود الدائبة التي يبذلها القادة السياسيون - كأفراد - والمثقفون والعلماء الذين يدركون الأساس العلماني للعالم المعاصر. إن الإسلام دين ودولة، دنيا وآخرة، يوجه السياسة والاقتصاد والاجتماع لعمارة الأرض بشرع الله، وهذا هو جوهر استخلاف الإنسان في الأرض.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه - في هذا الشأن وبشدة - هو كيف يكون الإنسان المسلم علمانياً Secular، دون أن يفقد إيمانه بالله وعقيدته الإسلامية؟ إن الإجابة تثير عديداً من العقبات والقضايا الشائكة التي لا تنتهي. وقد تبدو الإجابة السريعة لدى الكثيرين من عالمنا الإسلامي في أن التمسك بالإسلام وحمايته يفضل أن تكون من خلال المنافع المادية للقيم العلمانية؛ أي توظيف المنجزات الحضارية المادية لدعم الدين الإسلامي والمحافظة عليه ونشره(*).

 

(2) المصدر الثاني ويتضمن الديانات الوضعية بجنوب آسيا، ولاسيما الهندوسية Hindusim والبوذية Buddhism اللتين تؤكدان على قيم النقاء الباطني Inward Purity، سواء نحو الآلهة المتعددة لديهم والطوائف المتنوعة - كما في الهندوسية - أو نحو القيم التي تستند إلى تنويعات تسمح للبوذي أن يحلق في آفاق بعيدة, ويطلق لذاته العنان في التأمل, ويعلو فوق واقعه. وعندما يرفض البوذي إلهه أو آلهته، عندئذ تبدو البوذية نوعاً من الكفر أو الزندقة Heresy، وإن ظلت ترتكز في جوهرها على السكينة الداخلية Inner Tranquility التي تنبع من المصدر نفسه وهو الهندوسية(6).

 

وتجدر الإشارة إلى أن هاتين الديانتين الوضعيتين لم تدفعا أتباعهما نحو حلول علمانية لمشكلات العالم، ولكنّ كليهما لا يزالان قادرين على تحمل القيم العلمانية واعتناقها، خاصة وأن هؤلاء الأتباع لا يرون فيها تهديداً لأساس مذهبهم الديني.

 

(3) المصدر الثالث وهو يحوي المذاهب العلمانية التي تستمد جذورها من عالم الرومان والإغريق القديم، ومن شرق آسيا. وقد شهد هذان العالمان تحولات جذرية خلال الألفيتين السابقتين. ولعل الوجه الجديد لهذه المذاهب هو ما قادته أوروبا الغربية وامتداداتها الثقافية في الأمريكتين واستراليا، وتأثيراتها التي لا تتوقف في شرق آسيا بمعدلات تتزايد أو تتناقص في تقليدها والتشبه بها. غير أن الأصول المنفصلة لكل الطرفين - الغربي والآسيوي - لاتزال تشغل أهمية، تكفي لإثارة التوتر الشديد بينهما.

 

إن كلا العالمين يدعي بعالمية وشمولية العلمانية التي قدمها كل منهما, يؤكد أحدهما على أنه قدمها من خلال الروح العلمية والقانونية التي تتجسد في حرية الأفراد، ويرى ثانيهما أنه قدم العلمانية من خلال تأكيده على الأخلاقيات الاجتماعية Social Morality والتناغم الاجتماعي Social Harmony. ومن الممكن القول بأن الروح الرومانية الإغريقية - في ذاتها - قد ضلت الطريق أو فقدت مسارها، وبالتالي تحتاج إلى مخاضٍ جديد يتولاه الباحثون المسيحيون فيلقون عليها الضوء.

 

تلك هي المصادر الحاكمة للقيم على المستوى العالمي، وعلى هذا نلاحظ أن الدين - أياً كان سماوياً أو وضعياً - هو المحدد الأساسي للنسق القيمي على مدى التاريخ، وإن تباعدت التوجهات القيمية بعض الوقت عن الدين فإنها سرعان ما تعود إليه رغباً أو رهباً؛ إذ أن الدين يمثل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله.

 

ثالثاً: القيم والمسؤوليات المشتركة والتنظيمات الدولية

 

ترتبط القيم ارتباطاً وثيقاً بالدين - كما أسلفنا - ويترتب عليها ما يسمى "بالمسؤولية المشتركة" Common Responsibility. وقد نبع المفهوم من التراث المشترك للجنس البشري، وهو تعبير عن المبادئ العامة للمساواة في القانون الدولي. ويتضح المبدأ من خلال الفروق التاريخية بين إسهامات البلدان المتقدمة، والبلدان النامية في العالم الثالث، حيال المشكلات البيئية الكونية Global، ومدى الاختلافات فيما بينها في قدراتها الاقتصادية والتقنية على التعامل مع هذه المشكلات(7). وبصرف النظر عن هذه المسؤوليات المشتركة، فإن هناك اختلافات هامة بين المسؤوليات المقررة في هذين النمطين من البلدان.

 

إن مبدأ المسؤولية المشتركة مبدأ إسلامي بالدرجة الأولى؛ إذ يأمرنا القرآن الكريم بالتعاون بالبر والتقوى، وينهانا عن الإثم والعدوان، ويدعونا إلى أن نقي أنفسنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة. وتحدد السنة النبوية لنا المسؤولية المشتركة, فتدعونا إلى الاهتمام بأمر المسلمين, "فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، و"حب لأخيك ما تحب لنفسك"، والمظلة الكبرى هي قول ربنا سبحانه وتعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله".

 

لقد سعت المجتمعات المختلفة، والمنظمات الإقليمية والدولية لبلورة مفهوم "المسؤولية المشتركة"، وعقدت ندوات في هذا الشأن تضم المهتمين والمتخصصين في علوم شتى لتأصيل المفهوم، وتفعيله في التعامل مع قضايا الصحة والتعليم والبيئة والطاقة والموارد ومكافحة الفقر والأمن الاجتماعي والتنمية البشرية وغيرها الكثير.

 

وفي هذا الشأن صدر إعلان ريو دي جانيرو Rio Declaration في أغسطس 2002 حول قضية التدهور البيئي العالمي. وطُرحت على الساحة فكرة أو مبدأ "مسؤوليات مشتركة ولكن متباينة" Common but Differentiated Responsibilities, وصار المبدأ ملزماً للجميع. إن البلدان المتقدمة تشعر بامتنان نحو المسؤولية التي تحملها في المنتدى الدولي للتنمية المستدامة Sustainable Development في ضوء الضغوط التي تمارسها شعوبها على البيئة العالمية، وعلى التكنولوجيا المتقدمة ومصادر التمويل التي تحتاجها(8).

 

إن مبدأ "مسؤولية مشتركة ولكن متباينة" يتضمن عنصرين أساسيين هما:

 

(1) المسؤولية المشتركة للدولة لحماية البيئة مثلاً، أو حماية أجزاء منها، على المستويات القومية والإقليمية والدولية.

 

(2) الحاجة إلى مراعاة الظروف المختلفة لكل دولة، ووضعها في الحسبان، وخاصة الإسهام في تفاقم مشكلة معينة، والقدرة على الوقاية منها، أو تقليل معدل التهديد الذي تمارسه، وضبطه, والتحكم فيه.

 

وعلى هذا المبدأ ذاته تترتب نتيجتان على الأقل وبقولٍ عملي وهما:

 

(1) إمكانية الطلب من كل الدول المعنية أن تشارك في مقاييس الاستجابة الدولية للمشكلات البيئية، بقصد إبراز دور كل دولة، وتحديد المشكلات الطارئة، وكيفية الإسهام في حلها والوقاية من نظائرها في المستقبل.

 

(2) فرض التزامات مختلفة على الدول، نحو المستويات البيئية ومتطلباتها. وتمتد جذور هذا المبدأ عموماً إلى ما قبل نشأة منظمة اليونسكو، كما دعمته ممارسة الدولة على المستويات الإقليمية والكونية.

 

وعلى الجانب الآخر المفاهيمي، يوجد مفهوم قريب آخر، وهو "المسؤولية المشتركة" Common Responsibility، ويصف المفهوم الالتزامات المشتركة لدولتين أو أكثر تجاه حماية مصدر بيئى خاص. ومن الممكن تطبيق المسؤولية المشتركة حينما يكون المصدر مشتركاً, وليس تحت سيطرة دولة أو سلطة مطلقة Sovereign لأية دولة، ولكن يتعرض لمصلحة قانونية مشتركة (مثل التنوع البيولوجي الذي يصبغ الاهتمام المشترك للجنس البشري)(9). وقد برزت فكرة المسؤولية المشتركة من سلسلة القوانين الدولية التي تحكم المصادر التي تصنفها على أنها إرث مشترك Common Heritage للجنس البشري أو على أنها اهتمام مشترك.

 

وقد تصدرت الصين مجتمعات العالم للحديث حول هذا المفهوم "المسؤولية المشتركة"، وفي هذا الشأن يؤكد الرئيس الصيني هو Hu على نظرية المسؤولية المشتركة، ويرى أن المجتمع الدولي يجب أن يبدأ دوره بتنمية العنصر البشري، وترسيخ الإحساس بالمسؤولية المشتركة حتى يمكن التغلب على التحديات والتهديدات العالمية الكبرى(10). لقد اجتاحت العالم موجة من العولمة الاقتصادية، وصار اصطلاح "القرية الكونية" Global Village أكثر انتشاراً منذ الحرب الباردة. ومع أعتاب الألفية الجديدة، طرأت مجموعة أزمات، وحلت تحديات خطيرة تهدد العالم ككل ومنها نقص الموارد، والطاقة، وارتفاع درجة حرارة الجو، والأمن الغذائي، وقضايا الصحة العامة، والكساد الاقتصادي، وغيرها مما يترك بصماته على السلام والرخاء العالميين. وهنا تظهر تسمية جديدة نصف بها العالم بأنه مجتمع المخاطر الكوني Global Risk Society، مما يستلزم التعاون الدولي والمسؤولية المشتركة، والاهتمام بالمعيشة، وتنمية العنصر البشري. وهنا يطرح الرئيس الصيني برنامجاً لدعم المسؤولية المشتركة يتمثل في النقاط التالية(11).

 

(1) تعزيز التعاون الدولي Enhanced International Cooperation كسبيل وحيد لمواجهة التحديات والتهديدات العالمية.

 

(2) التزام الأحزاب السياسية المتنوعة بمبدأ المسؤوليات المشتركة, ويمكن أن يرتبط ذلك بمنظمات الأمم المتحدة، والبروتوكولات الدولية مثل بروتوكول كيوتو Kyoto Protocol.

 

(3) على الدول النامية أن تواجه المسؤوليات التاريخية، وتفي بالتزاماتها تجاه الموارد والطاقة، وتتبني التكنولوجيا صديقة البيئة.

 

(4) وقوف الدول المتقدمة في صف البلدان النامية من خلال تبني سياسات اقتصادية على المستوى الأكبر، تحقق النفع والفائدة للاستقرار الاقتصادي العالمي، وتفيد سوق التمويل الدولي، وتحقق التعاون في مجال الإشراف المالي الدولي، والإسراع بالاقتصاد العالمي نحو استرداد عافيته.

 

(5) تنسيق حاجات العالم، وتحقيق التنمية المستدامة، ومعنى ذلك بلورة مصالح واحتياجات كل من الدول المتقدمة والدول النامية على السواء لتحقيق تنمية اقتصاد العالم والحفاظ على النمو المتوازن, ولا مجال لكل ذلك إلا من خلال تنمية العالم الثالث.

 

(6) أن تدْخل بلدان العالم الثالث ضمن البلدان الموقعة على الاتفاقيات الدولية للمشاركة في المسؤولية المشتركة, ومراعاة تدعيم النمو عند تنفيذ سياسات التكيف الهيكلي، وتطبيق مقاييس توفير الطاقة, وإعطاء الأولوية لدوران الاقتصاد Circular Economy بانتهاج طاقة جديدة، وصناعات موفرة للطاقة، وتدعيم النمو الاقتصادي، وتغيير النموذج التنموي.

 

ولاشك في أن دعم الدين والقيم "للمسؤوليات المشتركة"، وترسيخ "مسؤوليات مشتركة ولكن متباينة" يساعد على تحديد الأدوار والواجبات، وينشط تقسيم العمل الدولي، ويحدد لكل دولة ما تقوم به نحو نفسها أولاً، ونحو الدول الأخرى ثانياً. ولعل توازن الحقوق مع الواجبات على المستوى العالمي يعزز العدل والمساواة، ويزيل الأحقاد بين الشعوب، وينشر التسامح بين الأفراد والجماعات والمنظمات والدول ككل، فما أحوجنا لمراعاة هذه القواعد، وتفعيل الأدوار حتى يصبح عالمنا بلا أحقاد ولا تفاوتات طبقية صارخة.

 

رابعاً: الدين والقيم: الحاضر والمستقبل

 

لقد عجل الفصل بين الكنيسة والدولة من نجاح تعديل القيم الدينية المسيحية في أوروبا بعد عصر النهضة. وعلى هذا فقد تعدلت قيم الرسالة المسيحية، وسادت القيم العلمانية. أما في الإسلام، فإن الروح الإسلامية بارزة في القيم الإسلامية، وبالتالي فمهما تعرضت لمحاولات التعديل أو التبديل، فإن من الصعب تعديلها - كما تعدلت القيم المسيحية - وعلى هذا نلاحظ حجم ما يبذله الغرب من جهد لدعم من يطلق عليهم النخبة المثقفة في العالم الإسلامي لتحقيق التغريب Westernization ونشر القيم العلمانية وتغيير القيم الإسلامية الأصيلة. وفي هذا الشأن ينادي دعاة العلمانية الغربيون بالاهتمام بالنخب المثقفة في العالم الإسلامي؛ "لأن تقدم وتناصر الثورة العلمية والتكنولوجية التي غيّرت وجه العالم المعاصر في هذه الآونة"(12).

 

وحول علاقة الدين والقيم بالتنمية والسياسة دارت - وتدور - مساجلات بين العالمين الغربي والإسلامي، حول دور الدين في الحياة العامة والتنمية والتخطيط والسياسة...إلخ. والغالب عليها هو محاولة استبعاد الدين تماماً من الساحة، بدعوى أن أوروبا تقدمت في عصر النهضة وما تلاه نتيجة لفصل الدين عن السياسة وعزل الكنيسة عن الدولة. ولكن هذه الدعاوى مغلوطة من ناحية، ولا تصدق على كل الأديان من ناحية أخرى. علاوة على أنها تستهدف عزل الدين عن الحياة العامة والشأن العام، وجعله مجرد طقوس تؤدَّى في دور العبادة, ولا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه الناس، وإيجاد نسق ديني علماني جديد تحت مسمى العلمانية Secularization, أو الإنسانية الجديدة Neo Humanism. وفي هذا الشأن نقدم نموذجين من الفكر المسيحي الغربي للدلالة على زيف هذه الدعاوى، ودحضها:

 

(1) النموذج الأول قدمه دافيد بيكمان David Pickman وفيه يقول: إن الكثير من الرخاء الاقتصادي - الذي تحقق في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية - تبدد بطريقة جنونية وذاتية التدمير؛ إذ تشجع الحضارة الغربية المادية على السعي إلى السعادة، والإحساس بالقيمة الإنسانية من خلال الامتلاك والإنفاق والاستهلاك؛ ولكن الملايين الذين خدعتهم هذه الآمال الزائفة يشعرون بالإحباط في حياتهم(13). ويلاحظ بيكمان أن المادية المفرطة تستهلك قدراً كبيراً من الطاقة الإنسانية، والموارد المادية التي يمكن توجيهها لحل مشكلات العالم كالفقر والمجاعة في أفريقيا، والاستبعاد الاجتماعي Social Exclusion للفئات المهمشة والضعيفة في العالم الثالث، وفقدان المأوى الآدمي.

 

إن الأثرياء والدول المتقدمة ذات الرصيد الحضاري العالمي والتاريخي - أوروبا الغربية والولايات المتحدة - تشعر بأنها لا تستطيع أن تنفق مزيداً من الوقت أو المال لتقليل الفقر أو مواجهة المجاعات؛ ولكنها في الوقت نفسه تلهو بأجهزة الفيديو، وتوزع السلاح يميناً وشمالاً، وتؤجج الفتن، وتشعل الحروب هنا وهناك.

 

الملاحظ أن مشكلات العالم معقدة وخلافية، إلا أن هذا التعقيد لا يخفى جوانبه الدينية والأخلاقية, فالورطة التي يعيشها كوكبنا لا تدور أساساً حول تعقد مشكلاتنا؛ وإنما هي بالأحرى تتمثل في أنه لا توجد لدينا الدوافع الدينية والأخلاقية الكافية لمعالجة المشكلات التي تهدد العالم بكل قوانا، أو لاقتناص الفرص الواعية لمعالجتها، نظراً للكسل المعنوي المتأصل، ولضعف الوازع الديني الذي لم تبذل الجهود لغرسه خلال التنشئة الاجتماعية.

 

ويلاحظ بيكمان - كاقتصادي في البنك الدولي، وكرجل دين مسيحي - أن المجتمعات التعددية الحديثة تشهد كتمان الحديث حول الدين والأخلاق في حوار السياسة العامة Public Policy. وإذا كانت التقاليد العلمانية في هذه المجتمعات قد نشأت كرد فعل لفصل الكنيسة عن الدولة، إلا أن المتوقع أن يسود احترام التعددية الدينية والصمت إزاء الخلافات الدينية، مما ييسر التعايش والتسامح بين ذوي العقائد المختلفة، ويقرب بينهم في العمل والحياة(14).

 

غير أن الصمت يولد مشكلات من نوع آخر؛ إذ تستبعد الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الدين وتنفيه إلى ركن قصيٍ، وتؤدي أدوارها في غياب المبادئ الأخلاقية، وهنا تضيع المبادئ، وتنحدر الأخلاق، وتنحسر القيم، ويتحول المجتمع إلى غابة لا مكان فيها للضعفاء أو الفقراء أو المرضى. ولذلك تزداد الحاجة إلى التعرف على الخيوط الرفيعة من القيم التي تجمع بين مختلف الثقافات والديانات، وتتيح الفرصة لحوار بين الثقافات والحضارات، كما تساعد على توفير المناخ الأخلاقي لمناقشة المسائل العامة.

 

(2) النموذج الثاني يقدم فيه "راي أزوباردي" Ray Azzopardi بتاريخ 27 يونية 2011 رداً على رفائيل دينجلى Raphael Dingli الذي نشر دراسة له في 9 يونية 2011 حول "الطريق العلماني" The Secular Way في مالطا. تكلم دينجلي Dingli عما أطلق عليه القيم العلمانية، وأكد على أن "الأفراد في الدولة العلمانية ليس لهم الحق في فرض أخلاقياتهم على الآخرين". وقال أيضاً: "إن مالطا دولة علمانية، وبالتالي فإن المعتقدات الدينية لا يجب أن يكون لها مكان ولا وجود في العملية السياسية", وخلص دينجلي في النهاية إلى أن هناك ضميرين يتصارع كل منهما مع الآخر, وهما الضمير الديني Religious Conscience والضمير الديمقراطي Democratic Conscience(15).

 

ويتعجب أزوباردي بشدة من مدى ملاءمة قول ودراسة دينجلي مع الواقع، ومع ما تدل عليه ملامح الحياة الاجتماعية حول ما سمي "بالقانون الأسمى لعالمنا أو لأرضنا"، حيث يتضح بجلاء أن الدين الحاكم في مالطا هو "الدين البابوي Apostolic Religion الكاثوليكي الروماني"، وأن سلطات الكنيسة البابوية الكاثوليكية لديها الحق، وعليها الواجب في أن تعلمنا أي المبادئ صحيح؟ وأيها خاطئ؟

 

ويتساءل أزوباردي باندهاش: "أليس ديننا - الدين الكاثوليكي - متجذراً في مجتمعنا ومتخللاً في طريقة حياتنا ومعيشتنا بكاملها؟ أليست تعاليم الكنيسة وعقائدها تساعدنا نحن المخطئين Sinners على اتباع ما هو أصلح لنا كبشر، وما هو خير للمجتمع على المستوى الأكبر؟ لماذا يوجد الصراع بين الضميرين الديني والديمقراطي، حينما يكون أحدهما موجهاً لنا تجاه السلوك الصحيح؟ وهل يسير كل شيء باسم الديمقراطية وعلى هدى منها؟ وهل سنكون أحراراً في أن نفعل ما نريده باسم الديمقراطية؟ وهل الصواب والخطأ يعتمدان على طريقة كل إنسان في التفكير؟ ألا يُوجد المزيد من الحقائق المطلقة التي أرسل الله المسيح لينادي بها ويدعو إليها على الأرض، والتي لاتزال الكنيسة الكاثوليكية تدعو إليها؟ وهل تستولي القيم العلمانية على القيم الدينية باسم الحرية؟ أليس كل الناس -مثل السيد دينجلي- يفرضون معتقداتهم الخاصة على المجتمع الأكبر، ويضيقون علينا معيشتنا باسم القيم العلمانية؟"

 

وعلى الوتيرة نفسها من التساؤلات والاندهاش، أكد البابا بندكت السادس عشر Pope Benedict XVI على "أن هناك بعض الأشكال من السلوك والتفكير، قد تقدم لنا على أنها الوحيدة المعقولة، وهذا يصدق أيضاً على البشر تقريباً، فيقال بأنهم الوحيدون المقبولون أو العاقلون"(16).

 

ويلفت أزوباردي أنظار المجتمع الغربي -الذي يتبنى القيم العلمانية ويتحمس لها- إلى أن المسيحية تتعرض الآن لضغوط لا تحتمل، وتلاقي الاستهزاء من طريقة التفكير التي يصفونها بأنها زائفة. أضف إلى ذلك فإن المناظرة التي عقدت حول الطلاق في مالطا قد انقلبت إلى هجوم صريح ضد الكنيسة ورجالها وقادتها الروحيين، بعد أن أعلنوا رفضهم للطلاق لحماية الأسرة من التفكك والحفاظ على الميثاق الغليظ Indissolubility للزواج، وكأن هذا الموقف يهدد المبادئ الديمقراطية, ويتساءل أزوباردي لماذا الهجوم والسخرية من القيم الدينية؟(17).

 

إن مالطا - كما يراها أحد أبنائها وهو أزوباردي - كلما ازدادت علمانية ازدادت الحاجة إلى تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. ونظراً لضعف النفس البشرية، والطبيعية البشرية، وتعرض الإنسان دائماً لارتكاب الخطيئة، وزيف فكرة الحرية التي يسعى البعض لتعزيزها وتدعيمها، فقد صارت الحاجة أكثر إلحاحاً إلى تعلم الحقائق المطلقة Absolute Truths والمحافظة عليها. إن الكنيسة تريد لمالطا أن تظل كاثوليكية, وتتبع التعاليم الكنسية الكاثوليكية، لا بسبب النظرة الأصولية Fundamentalistc، أو للرغبة في فرض المعتقدات على الآخرين؛ ولكن لأن ما تعلِّمه الكنيسة للشعب وما تعمله هو خير دائماً لصالح البشر مهما كانت دياناتهم وعقائدهم.

 

والملاحظ أن هذين النموذجين يعكسان واقع المجتمعات الغربية، وخاصة موقف القيم الدينية والقيم العلمانية والعلاقة بينهما. كما أنهما يشيران إلى أن المجتمع - أيّ مجتمع - مهما بلغ تقدمه أو تخلفه لا يستغني عن القيم الدينية التي تتسامى على النوازع الفردية، والمصالح الشخصية وتذيب الفرد في المجموع، وتحيل الجماعة إلى راعٍ للفرد، والفرد إلى ساهر على أمن الجماعة. وفوق هذا وذاك فإن سياقاً كهذا يساعد على نشر الفضيلة، والتسامح, والمودة بين الجماعات والشعوب.

 

أما بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، والقيم الدينية الإسلامية، فإنها ليست في حاجة هنا إلى تناول؛ لأنها أولاً واقع ملموس يفرض نفسه، وثانياً لأننا عشنا مع مجموعات من القيـم العلمانية, ورأينا أنها غائية Telic, تخدم غاية محددة لصالح فرد أو سلالة أو جماعة، وثالثاً لأن النسق القيمي الإسلامي يعلي من شأن الإنسان كخليفة لله تعالى في أرضه، ويعطيه صلاحيات لا حد لها لعمارة الأرض بشرع الله. وإذا كان هناك تجاوز أو أخطاء ظاهرة للعيان فهي لا تعيب القيم الإسلامية, ولكن تعيب المسلمين أصحابها، وهذا شأن مقدور عليه.

 

خامساً: الأيديولوجيا والمعرفة والمسؤولية المشتركة

 

يستخدم مصطلح الأيديولوجيا Ideology كمرادف لمفاهيم أنساق المعتقدات المشتركة (العامة)، والقيم المطلقة، والثقافة الشائعة. ويرى المنظرون أن الأيديولوجيا هي الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة(18), ويرجع استخدام المصطلح إلى كارل ماركس K. Marx وكان يشير به إلى الظاهرة الاجتماعية, وهي مجال الأفكار أو الثقافة بشكل عام، والأفكار السياسية أو الثقافة السياسية على وجه الخصوص، وكذا العلاقة بين حقل الأفكار وغيره من الحقول السياسية والاقتصادية. وقد دارت هذه المناقشات بين أتباع ماكس فيبر Max Weber ودوركايم E. Durkhiem والبنيويين حتى أثرت بشكل ملحوظ على التنظيرات الماركسية الخاصة بمفهوم الأيديولوجيا(19).

 

وقد أوضح ماركس طبيعة العلاقة بين مجال الأفكار ومجال الاقتصاد، وحدد أن أفكار الطبقة الحاكمة تصبح هي الأفكار السائدة أو الحاكمة. وتذهب الأيديولوجيا إلى أن الأفكار تمثل القوة المحركة للتاريخ، وإن كان ماركس أكد على أن الصراع الطبقي هو المحرك الرئيس، وأن الجدل دائم بين البناء الفوقي والبناء التحتي.

 

أما المعرفة Knowledge فهي المعرفة الفطرية أو البداهة Commonsense Knowledge أي المعرفة الروتينية التي نكتسبها من حياتنا اليومية، وما نمارسه خلالها من أنشطة. ويسمي علماء الإثنوميثودولوجيا المعرفة الفطرية بالمعرفة الضمنية. وهي تشير إلى إنجاز متواصل يعتمد فيه الأفراد على قواعد ضمنية تحدد "كيفية التصرف" في كل موقف، مما يؤدي إلى خلق إحساس بالتنظيم والترابط المنطقي(20). وتذهب التفاعلية الرمزية Symbolic Interaction إلى أن اهتمامات علم الاجتماع يجب أن تنصب على تفسير تصورات الناس عن العالم الاجتماعي، وأن التحليل السوسيولوجي يجب أن يرتكز على هذه التصورات وينطلق منها.

 

والملاحظ أن مجال المعرفة قد أصبح أكثر اتساعاً في الوقت الراهن مع تكنولوجيا المعلومات التي أغرقت العالم في بحار من المعارف والمعلومات الدقيقة والتفصيلية عن كل شيء وفي أي مجال. لقد ساعدت العولمة - وما قدمته من أقمار صناعية وقنوات فضائية وشبكة دولية للمعلومات (الإنترنت) - على تداول المعلومات، واكتساب الخبرات، وزيادة التواصل الاجتماعي، ومن ثم زيادة رصيد الإنسان عموماً من المعرفة, مما ينعكس على سلوكه وقراراته وحياته ككل. ولعل ثورات الربيع العربي انعكاس جوهري لصدى المعرفة في بعض جوانبها.

 

على حين تعني المسؤولية المشتركة - كما سبق - الالتزام المتبادل بين طرفين أو مجموعة أطراف نحو أداء فعل معين يتحدد فيه دور كل طرف، والكيفية التي يؤديه بها(21). ويغلب على هذا المفهوم الطابع القانوني؛ لأنه يتعرض لمصلحة قانونية مشتركة. وقد كثر استخدام المفهوم في قضايا العالم الساخنة مثل الفقر، والاستبعاد الاجتماعي، والتخلف، وتلوث البيئة، وندرة مصادر وموارد الطاقة، والتصحر، والتغيرات المناخية، والإرهاب والقرصنة...إلخ.

 

إن الأيديولوجيا Ideology أفكار توجه السلوك، والمعرفة Knowledge هي قواعد ضمنية تحدد لنا كيفية التصرف، والمسؤولية المشتركة Common Responsibility تدعونا إلى الاعتداد بالآخر، والاعتراف بحقه في الحياة، والتوازن بين الحقوق والواجبات، والعدالة بين الأنا والآخر. إن هذا المثلث الفكري يمكن أن يقود العالم إلى السلام والتنمية والأمن، كما يمكن أن يسهم في حل مشكلات الفقر والجوع في العالم الثالث، ويجتث الحقد من صدور الشعوب المقهورة البائسة، وينشر المودة، فيسود التسامح بين الجميع. ولكن هل العالم ماضٍ في هذا المسعى؟ أم أن الجيوب الخاصة والخزائن الخاصة هي الأوْلى بأن تمتلئ بثمرة كد الفقراء والمقهورين والمستبعدين اجتماعياً؟

 

سادساً: الدين والمسؤولية المشتركة: ملامح المستقبل

 

إن الحديث عن مستقبل الدين في عالمنا الإسلامي لا يحتاج إلى تدليل على أنه فاعل وحاكم ومؤثر - حتى بين الذين لا يحرصون على الفرائض والأركان - وأنه بعد كل التجارب التي عاشها العالم الإسلامي يتبين أن المدّ الإسلامي قادم وإن كان يحتاج من المسلمين جميعاً فهم الدين كعقيدة ومعاملات، وبذل الجهد في معرفة فقه الأولويات.

 

غير أنني أجد نفسي مشدوداً للحديث عن الدين المسيحي في أوروبا والولايات المتحدة والغرب عموماً؛ لأن الغرب هو موطن العلمانية ومناصرها الأول، وهو مشجع لمثقفي العالم الإسلامي ومفكريه لكي يتبنوا العلمانية ويكونوا دعاتها. ومع ذلك تظهر دعوات من المجتمعات الغربية - بشهادة أهلها - يدللون فيها على أهمية الدين والقيم الدينية، وضرورة رسوخها في مواجهة مخاطر القيم العلمانية.

 

لقد حذر البابا بندكت السادس عشر المسيحيين من الشراك التي سيقع فيها المجتمع الغربي، إذا تخلى عن إيمانه بالله، أو فقد هذا الإحساس الإيماني، وألغى الدين على كل المستويات. ويقول "بونتيف" Pontiff، و"سي والد" Seewald: إن الإنسان ليس قادراً على الصدق... وبالتالي فلن يكون قادراً على تحمل القيم الأخلاقية من باب أولى.. وإذا تخلى عن دينه، فلن يجد له لواءً يستظل به"(22). ومن هنا لا يتبقى للمرء إلا أن يراعي كيف يرتب الأشياء لنفسه بشكل معقول، وحينئذ - وعلى أي مستوى - سيكون رأي الأغلبية هو المحك الوحيد The Only Criterion الذي يمكن الموافقة عليه أو تأييده.

 

وعلى الجانب الآخر نعرض لدعاة العلمانية وهو وانج جنجو Wang Gungwu وتصوره عن مستقبل القيم العلمانية، وذلك من خلال الأفكار التالية:

 

(1) من الواضح أنه لا توجد مجموعات من القيم العلمانية الخالصة. وأن الحاجات الروحية تحتاج إلى إشباع، وأن العلمانية تضرب بجذورها على الأقل في ديانتين هما المسيحية والبوذية. والقضية هي أنه مهما علت العلمانية فوق الأديان التي تعضدها وتغذيها، أو مهما ظلت تتقاسمها الجذور الروحية والأصول الأخلاقية المختلفة، فإنه ليس من اليسير أن يتحقق الإصلاح Reconciled والتسوية بينها.

 

(2) تعدّ القيم العلمانية ذات صبغة شاملة جامعة في الأزمان الحاضرة, ومع ذلك فإنها قد تتعرض للاستخدام الانتقائي من قبل الدولة - الأمة Nation - State ومن العجب أنها غالباً تلقى التأييد والدعم من العون المقدس الذي يضرب بجذوره في التقاليد الدينية الموروثة. وقد كان هذا مصدر الصراع المستمر، وخاصة بين القوى العظمى التي تبحث عن السيطرة الإمبريالية، ولذلك أشعلت نار حربين عالميتين الأولى والثانية. ونتيجة لهذا الواقع، بدأت العلمانية القومية تقوض باطراد كل الملامح العامة الشاملة للنسق القيمي وتُضعف أسسها.

 

(3) ومع هذا فقد كانت العلمانية مسيطرة وسائدة لدرجة أنها لم يكن لها أعداء من الأديان التقليدية على مدى ما يزيد عن القرنين من الزمان، وخاصة خلال العقود الخمسة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. غير أن غطرسة Arrogance منظري العلمانية قد أججّت أوار الحرب المدنية بين مجموعتي القوى الكبرى: الرأسمالية والشيوعية، التي قسمت العالم، ودفعته للاعتقاد بأن النصر قد يحوز الحقيقة, فإذا فاز أحد الطرفين أخيراً، فقد يبدو انتصار الرأسمالية العالمية نهائياً لدى البعض؛ ولكنه يسبب لكثير من الناس تدمير الطاقات والأساليب العلمانية.

 

(4) إننا نعيش سياقاً بدأت فيه الأديان الأقدم، وإعلانات أنصار إعادة الإحيائية المعاصرة تغزو الساحة الآن وتعلو أصواتها. إن مقاومة ما هو علماني قد يظل عامل إضعاف للبلدان بشكل عام. ولكنه وجد قوته أخيراً في ثنايا الدفاع الأصولي ضد العلمانية التي تعتمد على بعض النتائج الصارخة للحرب المدنية العلمانية التي ألقينا عليها الضوء، حيث نلاحظ ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل غير مسبوق، وحيث تسامت وتعاظمت المصالح القومية الأنانية الضيقة، وحيث ضاعف التدريب القوي مستويات أهدافها الخاصة. إن أساس القوة العلمانية قد نما وتزايد، وتستدعى حماس الهيئات المختلفة لتقاوم هذه القوة، وبالتالي صار صوت العلمانية مسموعاً مرة أخرى.

 

(5) حينما تتعولم القيم العلمانية، وتتعرض حدودها لتيارات العولمة، فإنها تواجه بتحدي الأضداد الكونية Global Opposition, وتطرح بالتالي من جديد ثنائية جديدة لدى الكثيرين، مما يستلزم إلقاء المزيد من الضوء على الخواء الروحي الذي يشعر به ويعاني منه كثير من الناس. ولهذا فإنهم يؤكدون على القيم التي تتعارض مع القيم العلمانية من أجل إضفاء الطابع الدرامي على اليأس المتزايد الذي يبدو أنه يبحث عن استجماع القوة على المستوى العالمي.

 

(6) يمثل الغرب وشرق آسيا مرْكزيْن كبيرين للعلمانية المعاصرة, ويبدو أن الغرب واثق ثقة كبيرة في مجموعة القيم العلمانية التي يتبناها. إن كلاً من اليابان والصين قد حاولت أن تطور من الترجمات البديلة للكتب الدينية التي يدينون بها، والتي سبقها تبني المؤسسات النوعية السائدة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة منذ فترة مبكرة، وأخيراً الاختيار الكامل في النهاية للكفر الغربي بالشيوعية. وعلى هذا فإن كلاً منهما يبحث عن إعادة تعريف لما سبق له تقبله من القيم العلمانية الحديثة، ومنها التاى Ti (مؤسسة Ti) باستخدام (اليونج Young) وهو الذي كانوا يستطيعون فعله في ماضيهم لتقليل الدمار الروحي لشعوبهم إلى الحد الأدنى.

 

(7) وأخيراً أين تتجه ملامح مستقبل القيم العلمانية الرئيسة الحاكمة؟ إنها ببساطة تتجه نحو المزيد من العلمانية, فحينما كانت القيم الرومانية/الإغريقية والكونفوشيوسية سائدة ومسيطرة في الأقاليم والمناطق البارزة؛ فإن كليهما قد فشلتا، غير أنهما يمكن أن يتعرضا للإحياء الجديد عن طريق الإسلام، ولكن يمكن أن تستعيد نشاطها وحيويتها من خلال المسيحية المنقسمة. لقد كانت القيم الكونفوشيوسية تخضع لإعادة تفسيرها من خلال المزج الفريد بين الأفكار البوذية والأفكار الطاووية واستعادت سيطرتها وسيادتها حتى القرن العشرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) كمال التابعي، دراسات في علم الاجتماع الريفي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص55-56. وانظر للمؤلف نفسه أيضاً: - الاتجاهات المعاصرة في دراسة القيم والتنمية، ط1، دار المعارف، القاهرة، 1985، ص15-46.

2) كمال التابعي وشريف عوض، علم اجتماع المستقبل، دار النصر للنشر والتوزيع، جامعة القاهرة، القاهرة، 2009، ص67.

3) محمد إبراهيم منصور، الرؤية المستقبلية لمصر 2030، الإطار العام، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مركز الدراسات المستقبلية، مجلس الوزراء، القاهرة، 2006،

4) كمال التابعي وشريف عوض، مرجع سابق، ص68.

5) انظر: Wang Gungwu, The Future of Secular Values, National University of Singapore, 2007, PP: 2-3.

*) لعل المنجزات المادية للحضارة الغربية ذات القيم العلمانية يمكن استخدامها في تحقيق التواصل الاجتماعي مع المسلمين وغيرهم في بقاع الأرض، والحوار معهم، وإظهار جوهر القيم الإسلامية من خلال التعامل المباشر وغير المباشر، وعبر وسائل عديدة كالتليفون والنقال والإنترنت والقنوات الفضائية، والمؤتمرات والندوات العالمية...إلخ.

6) انظر: Wang Gungwu, Ibid, P3.

7) The Principle of Common but Differentiated Responsibilities: Origin and Scope, World Summit on Sustainable Development, Johnannesberg,

26 August, 2002, P1.

8)) The Principle of Common but Differentiated Responsibilities, Op. Cit, P2. See Also: Shared Values, Shared Responsibilities: G8 Africa Joint declaration, G8 Summit of Deauville, May 26-27, 2011, P7.

9) انظر: Ibid, PP: 2-3.

10) President Hu, Emphasizes the Theory of Common Responsibility, English

Peopledaily.com.cnopinion, P1.

11) انظر: Ibid, PP: 2-4.

12) انظر على سبيل المثال: = Wang Gungwu, Op. Cit., P5: Louise Antony, Neo-Humanist Statement of Secular Principles and Values: Personal, Progressive and Planetary, Paul Kurtz Lecture, 2011, PP: 1-5.

13) دافيد بيكمان وآخرون، التنمية والقيم: مناقشة حرة لنخبة من خبراء البنك الدولي، ترجمة محسن يوسف، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2007، ص57-58.

14) المرجع السابق، ص62.

15) Ray Azzopardi, Secular Values, Absolute Truths and Modern Trends, Xemxija, Monday June 27, 2011, PP: 1-2.

16) Peter Seewald, Light of the World, in: Azzopard, Ibid., P3.

17) انظر: Secular Values, Op. Cit., P2.

18) جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، المجلد الثاني، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص1118.

19) جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، المجلد الأول، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص252-253.

20) جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، المجلد الثالث، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001، ص1373-1374.

21) The Principle of Common but Differentiated Responsibilities, Op. Cit, P2.

22) انظر: Ray Azzopardi, Op. Cit., P3.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/78

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك