القيم الدينية والقيم العقلانية في عصر الأنوار الأوروبي

محمد الشيخ

 

شهدت نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر على انتصار "الأنواريين" فيما عرف بـ"نزاع القدماء والمحدثين" الذي كان قد بدأ عام 1687. وقد آذن هذا الانتصار بانتصار القيم الجديدة التي آمن بها الأنواريون إيمانا. وكان عبر أحد هؤلاء الأنواريين المتقدمين ـ المفكر والأديب الأنواري الفرنسي المنسي فينلون (1651-1715) ـ عن هذا الانتصار بعبارة "الخروج من ظلمة الليل الطويل"؛ كناية منه عما كان يعدُّه "الخروج من البربرية". وإذا ما نحن عبرنا عن هذه القيم المنتصرة ـ سلبا ـ لقلنا: إنها قيم النقد والسلب والهدم: نقد النظام القائم، ونقد الأخلاق، ونقد الدين، ونقد القانون، ونقد التاريخ...وكل ذلك النقد تم باسم العقل. وذلك حتى رأى مؤرخ الفكر الأنواري الفرنسي الشهير بول هازار (1878-1944) أن النقد الشامل هو ما يشكل روح الأنوار، من حيث إن النقد صار أداة لتحسين الوضع البشري، وأداة للتقدم، وأداة للسعادة. وإذا ما نحن عبرنا عن هذه القيم ـ إيجابيا هذه المرة ـ قلنا: إنها الإيمان بأن من واجب الأفراد بناء عالم مخالف لذلك العالم الذي ورثوه؛ ذلك أنه إذ صار الفرد يشعر بأنه سيد وجوده، فإنه انطلق ليشيّد عالما ما كان لأسلافه حتى أن يحلموا به. ولهذا كتب صاحب كتاب ـ "في السعادة العمومية"(1776) ـ "أنتم معشر الذين يعيشون في القرن الثامن عشر، لكم أن تهنئوا أنفسكم". فعلى ماذا يهنئ أبناء عصر الأنوار أنفسهم؟ جواب المفكر والأديب الفرنسي جون فرانسوا شاستوليكس: عليهم أن يهنئوا أنفسهم لأنهم صاروا يحيون في عالم جديد وبوفق قيم مستحدثة. وذلك بسبب من علو كعب فلسفة القيم الجديدة على فلسفة القيم القديمة.

والحال أن فلسفة الأنوار شيدت رؤية جديدة للعالم وللإنسان وللمجتمع ـ عقلانية وفردانية وكونية ـ عدها البعض مشروعا "تحرريا"، وعدها آخرون مشروعا "استعباديا"، رؤية نازعت -من جهة أولى- النظرية التي كانت سائدة، ونازعتها -من جهة ثانية- نظرة أخرى عدها العديد من الباحثين "محافظة"، وعدها آخرون "حداثة أخرى"(1) أو "تنويرا مختلفا".

لكن الانتصار وإن بدا كاسحا، وإن خيل للبعض وكأنه سرى سريان العطر في مكان خال من المقاومة، فإنه لم يسلم مع ذلك من مقاومة تيار محافظ وديني أنشأ تقليدا اجتماعيا وفكريا وسياسيا سمي "تيار معاداة الأنوار". وبهذا تَواَجه -على وجه الجملة- مشروعان ورؤيتان. وكانت مسألة القيم إحدى بؤر هذه المواجهة؛ إذ حدثت المواجهة بين، تنوير حامل لقيم كونية، مؤمن بجلال قدر الفرد وعظمة ذاته بوصفه سيدا على نفسه ومالكا لمصيره ومتحكما في مستقبله، وما المجتمع والدولة في عُرْفه إلا أداة في يده، وهو الذي انطلق باحثا عن الحرية والسعادة، وبين جهة أخرى معادية للتنوير وتاريخيته وقوميته جماعية المنزع ترى أن القيم نسبية، وأن الفرد محدد بأصوله العرقية وبالتاريخ وباللغة وبالثقافة؛ ذلك أنه في رأي "التنوير المضاد" ما كان التنوير "تنويرا" ـ على التحقيق ـ وإنما هو "تعتيم" و"تظليم".

في "معاداة الأنوار":

كما أن للأنوار تاريخها، فكذلك لردة الفعل ضد الأنوار تاريخها، وقد أمكن للباحثين أن يميزوا ـ على الأقل ـ بين موجات ثلاث (هذا إن لم نقل: أربعا): الموجة الأولى من موجات "التمرد على الأنوار"، بل وإعلان "الحرب على الأنوار" ضمت المفكرين فيكو الإيطالي (1668-1744) وبورك الإنجليزي (1729-1797) وهردر الألماني (1744-1803). والموجة الثانية شملت الأدباء والمفكرين كارلايل الإنجليزي (1795-1881) ورينان (1823-1892) وتين (1828-1893) الفرنسيين. والموجة الثالثة ألفت بين المفكرين والأدباء موراس الفرنسي (1868-1952) وشبنغلر الألماني (1880-1936) وغروتشه الإيطالي (1866-1952). ويمكن أن نضيف موجة رابعة شكلت بعض مفكري ما بعد الحداثة من أدورنو الألماني (1903-1969) إلى جون فرانسوا ليوتار الفرنسي (1924-1998) مرورا ببرلين الإنجليزي (1909-1997) وغيرهم.

والحال أنه لمفهوم "معاداة التنوير" تاريخ يمكن أن نعود به ـ على أبعد تقدير اكتشف ـ إلى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه في شذرات صيف عام 1877 حيث نحت ـ لربما من حيث ما كان يحتسب أن يتحول ما نحته إلى مفهوم له تاريخ ـ اصطلاحا جديدا بدءا من اصطلاح "التنوير" هو اصطلاح "مضادة التنوير" أو "معاداة التنوير"(2) Gegen-Aufklarung. لكن لم يُنتبه ـ في البدء ـ إلى جدة الاصطلاح وفرادته، فبقي لما يقرب القرن من الزمن نسيا منسيا، إلى أن روجه من جديد ـ في التقليد الأنجلوسكسوني هذه المرة Counter-Enlightenment ـ مؤرخ الأفكار أشعيا برلين؛ حيث أفضى في حوار له مع أحد محاوريه في كتابه ـ "بكل الحريات" ـ "لست أعلم من ذا الذي أبدع مفهوم "معاداة التنوير"؛ إذ لا بد من أن يكون امرؤٌ ما قد فعل ذلك. ترى هل أكون أنا من فعل؟ لا محالة سيكون هذا الأمر مفاجئا لي، ولربما أكون قد فعلت؛ لكن حقيقة دعني أقل لك: إنه لا علم لي بهذا الأمر". لربما ما كان غاب عن ذهن أشعيا برلين هو أنه سبق لأحد أهم من أدخلوا تقليد الأفكار الوجودية الأوربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وليام باريتWilliam Barrett أن أحيا المفهوم عام 1962 ـ لربما من غير قصد تقصده ـ في كتابه "الإنسان اللاعقلاني"(3) Irrational man.

والحق أنه كما أن الأنوار ـ في حقيقتها ـ "مذاهب"(وليست مذهبا واحدا) ـ وفي كنهها ـ يجمعها "تقليد"، فكذلك معاداة الأنوار ما كانت مذهبا واحدا، وإنما كانت هي ولا تزال مذاهب شتى يلمها تقليد واحد.

يمكن أن نميز في هذا النزاع بين فكر الأنوار وخصومه ـ في مسائل القيم على وجه التخصيص ـ بين "الرد المتقدم" على الأنوار ـ بداية القرن الثامن عشر ـ والرد المتأخر عليها نهاية القرن. وقد مثل الرد الأول خير تمثيل المفكر الإيطالي غامبييستا فيكو، مثلما مثل الرد المتأخر المفكر البريطاني المحافظ إدموند بورك. كما يمكن أن نميز بين الرد على فكر الأنوار فيما قبل الثورة الفرنسية (رد المفكر الألماني هردر مثلا) والرد عليه بعد حدوث الثورة على وجه الخصوص (بورك).

والحال أنه قدم الفيلسوف فيكو ردا مبكرا على فكر الأنوار في كتابه "العلم الجديد"(1725-1733-1744): ففي هذا الكتاب تقبع أصول مناقضة أغلب قيم الأنوار من مضادة للعقلانية ومعاداة للفردانية ومناهضة للكونية؛ لكن هذا النقد ظل شبه نسي منسي، اللهم إلا في إيطاليا، غير أن المؤسسيْن الحقيقيين لفكر قيمي معاد للأنوار هما هردر وبورك. حتى يمكن القول: إن أغلب النقد الذي وجه لاحقا إلى فكر الأنوار وقيمه ـ من القرن التاسع عشر إلى اليوم ـ إنما هو ـ في جزء كبير منه ـ قد خرج من معطفهما.

ونحن إن صغنا هذا المشروع القيمي المضاد على جهة السلب قلنا: إنه مشروع يبتغي نقض المشروع القيمي الأنواري قيمةً قيمةً، فكان بذلك معاديا للعقلانية وللكونية وللفردانية. وإن نحن رُمْنا التعبير عنه ـ هذه المرة على جهة الإيجاب ـ لقلنا: إنه رام الإنصات إلى لغة "الوجدانية" و"الجوانية" ـ ضد العقلانية"، وبما لا يعني بالضرورة السقوط في اللاعقلانية ـ مثلما نشد النسبية ـ ضد إطلاقية قيم عصر الأنوار ـ ونحا نحو النزعة الجماعية القومية ـ ضد كونية فلاسفة الأنوار.

على أنه يمكن أن نميز ـ بهذا الشأن ـ في تيارات معاداة التنوير بين تيارين:

تيار أول ـ ثقافي (هردر)، وسياسي (بورك) بالدرجة الأولى ـ يميني محافظ ـ من بورك إلى ماينكه ـ مرورا بتين ورينان وكارلايل ومورا وباريس وغروتشه وشبنغلر... ـ هؤلاء كانوا ـ بعبارة أشعيا برلين ـ "سباحين ضد التيار"؛ أي ضد تيار الأنوار العارم الذي انتشر في أوربا، كما قال هيجل، كما ينتشر عطر في جو فلا يلقى مقاومة. وتيار ديني محض تجسد لا سيما في بعض النحل الكاثوليكية من نحلة جنسينية ويسوعية وغيرهما.

ومهما يكن من أمر، فإنه بدءا من النصف الثاني من القرن الثامن عشر صارت معاداة الأنوار جزءا لا يتجزأ من الأفق الفكري والسياسي بأوربا، وربما وجدت لها أصداء في غير أوربا.

تنازع قيم الأنوار وقيم الفكر المحافظ

هذا وقد دار السجال القيمي -أول ما دار- على طبيعة القيم؛ إذ سعى فكر التنوير إلى بناء رؤية للمجتمع عقلانية وفردية وكونية. وذلك بينما عارضته رؤية للمجتمع مضادة وجدانية وجماعية وقومية، فتبين أن النزاع بين الرؤيتين إنما مداره ـ عند نهاية التحليل، وبقطع النظر عن حيثياته وتفاصيله ـ على تباين القيم التي صدرت عنها الرؤيتان من حيث المبدأ، فكان أول تنازع القيم هذه أمور تتعلق بما يمكن أن ندعوه "مبدئيات القيم"؛ أي تصور القيم نفسها من الناحية المبدئية. ولهذا فقد دار النقاش -بدءا وكما أسلفنا القول في ذلك- على أمور "مبدئية" من مثل: ترى ما طبيعة "القيم": أنسبية هي أم مطلقة؟ أكونية هي أم محلية؟

وفي الوقت الذي أكد فيه فكر التنوير على "إطلاقية" و"كونية" القيم، أكد معادوه ـ وعلى رأسهم هردر ـ على نسبية كل القيم، وقد بنى تصوره هذا لنسبية القيم على المبدأ: "لا توجد لحظتان في العالم متماثلتان". وهي المقدمة التي أنشأ بدءا منها فكرة "نسبية القيم" التي كانت دائما حاضرة في فكره على الأقل منذ رحلته الشهيرة المدونة (1769)؛ حيث قال: "لا إنسان يشبه الآخر، وبالمثل لا بلد ولا شعب ولا تاريخ وطني ولا دولة يشبهون غيرهم. وبالتبع، فإن الحق والجمال والخير ليست [قيما] تتشابه أبدا"(4). ومما ترتب عن هذا الأمر أنه لا يمكن الحكم على حقبة من التاريخ معينة من الخارج؛ أي بوفق مبادئ العقل التي تعدّ كونية ومطلقة، وإنما من داخلها؛ أي من حساسية لحظتها.

وكان الرجل رام تسفيه أحلام فلاسفة الأنوار في أمر ادعائهم الكونية، بينما كونيتهم المزعومة -إذا ما حقق أمرها- أوربية المركزية؛ إذ عاب على الفكر الأنواري مركزيته الأوربية، تلك التي تدفع أصحابه إلى "التهكم والسخرية من عوائد كل الشعوب وكل الأزمنة"، وتلك هي "فلسفة هذا الزمن". وهي: "فلسفة واهنة، قصيرة النظر، تمتلئ زراية بكل شيء، ولا تجد راحتها إلا في نفسها؛ بينما هي فلسفة لا تصلح لشيء". وإن لسان حال أصحابها ليقول: "نحن الأطباء والمخلِّصون وحملة الأنوار والمبدعون الجدد، لقد انتهت أزمنة الحمّى والهذيان"، وإنهم ليعتقدون أن قرنهم قرن تقدم؛ بينما حقيقته أنه "قرن انحطاط".

وهكذا، احتفى خصوم التنوير لا بكل ما يلم الناس ويؤلف بينهم ويجمعهم في بوتقة واحدة ويصهرهم، على نحو ما كان قد فعل فلاسفة التنوير، وإنما بالضد من ذلك حفلوا هم بكل ما يميز بينهم ويخالف ويعدد: التاريخ المختلف، الثقافة المتباينة، اللسان المتعدد... فذهب هردر إلى أن لكل حضارة قيمتها الخاصة الفريدة المميزة، وأن كل حضارة شأنها أن تبلغ القمة، ثم ينادي فيها لسان حال الكون بالانقباض ـ حسب عبارة ابن خلدون الشهيرة ـ فتنكمش.

وبالجملة، فإنه ضد قيمة "الكونية" رفع معادو الأنوار قيمة "الأمة" ـ أو "الجماعة" ـ وعدُّوها الإطار الاجتماعي الملائم، واللحمة الأعلى والأمتن، والنظيمة الجامعة.

بناء على هذا التوضيح تمت مناقشة قيمتين من أهم قيم فكر الأنوار؛ عنينا بهما قيمتي "الفردانية" و"العقلانية".

بدءا، احتفى فلاسفة التنوير بالفرد من حيث هو قيمة في ذاته، وعدوا حقوق الفرد حقوقا لا تنمحي أبدا من سجل الحقوق ولا تبلى ولا تلغى، مدافعين عن حق الفرد في أن يكون سيد مصيره. ومثلما أعلى الأوائل من "الفرد" حتى جعلوا منه "قيمة في ذاته"، وقد أرادوا تحريره من كل ما رأوه استعبادا له: التاريخ المثقل بالطغيان، والتقاليد الاجتماعية المستثقلة، والمعتقدات الدينية الشديدة الوطأة... فقد عمد أعداء التنوير إلى عدِّ مبدأ "الفردية" ـ بالضد مما تقدم ـ باب "التذرر" الاجتماعي، وبالتالي عدوه المدخل إلى التشرذم والتشظي والتفتت الذي كان من شأنه أن أفقد وحدة العصور الوسطى سُداها، وأحوج هرمونيتها الجميلة إلى لحمتها، وأعوز نظيمتها المنسجمة إلى دلالتها، وما عاد ثمة من سدى أو لحمة أو وصلة تصل الناس بالناس؛ وبالتالي فإن هذه الفردية ـ المحتفى بها أيما احتفاء لدى مفكري الأنوار الحد الذي ألَّهوا فيه الفرد ورببوه وجعلوه مكتفيا بذاته ـ هي أساس ما عدّهم خصومهم انحطاطا وأفولا. فما كان الانحطاط عندهم ـ على نحو ما زعم مفكرو الأنوار ـ انحطاط القرون الوسطى، إنما الانحطاط الحق عندهم انحطاط الأزمنة الحديثة. ولهذا لطالما رثوا هم لتلاشي الروح الجمعية الوسيطة التي كانت تشكل وصلة بين الناس وسدى ولحمة. ولطالما أَسِفوا على الزمن الذي كان فيه الفرد -تحت قيادة الديانة- ذاك الفلاح أو الحرفي الساذج في طيبته، الطيب في سذاجته، الذي لا يحيا من أجل ذاته ـ وهل ذاته إلا جماعته؟ ـ وإنما يعيش من أجل الجماعة بوصفها وحدة جوهرية كلية منسجمة، وما كان إلا "لولبا" في "آلة" تلمه وتعمه. والحال أن أشأم يوم في حياة الإنسان ـ حسب هؤلاء ـ إنما هو ذاك اليوم الذي صار فيه الإنسان يُعدّ "فردا" يملك حقوقا طبيعية، وصار للفرد فيه شأن وشأو، يومها نشأ "الشر الحديث"، وقد عمل أعداء التنوير ـ من بورك إلى ماينكه ـ على الدعوة إلى استعادة تلك الوحدة المفقودة(5).

والحال أن أصول نقد قيمة "الفرد" و"الفردية" و"الفردانية" توجد سلفا لدى المفكر التاريخي الإيطالي غامبيستا فيكو؛ ففي سيرته الذاتية (مذكراته) ـ التي كتبها بصيغة الغائب، وفي هذا دلالة عميقة على ما نحن بشأنه ـ ينحو باللائمة على ديكارت ـ أبي التنوير على الحقيقة ـ لأن هذا جعل من حس الفرد وحكمه وتقديره معيار درك الحقيقة. يقول عن مسألة الفرد هذه: "إننا ندين بالكثير إلى ديكارت الذي جعل من الحس الفردي قاعدة لبيان الحق، فقد كانت إقامة كل شيء على السلطة [الجمعية= التي تمثلها الكنيسة] عبودية مهينة. وأشد ما ندين له به رغبته في إخضاع الفكر إلى المنهج، فما كان نظام السكولائيين [المدرسيين] ـ إن هو حقق أمره ـ إلا فوضى. لكن الرغبة في جعل حس الفرد وحكمه وتقديره يسود لوحده...إنما تشي بالسقوط في الجهة الأخرى القصية المتطرفة. وبعد، فقد آن الأوان لتخير وسط الأمور؛ وذلك باتباع حكم الفرد وتقديره؛ لكن مع واجب احترام ومراعاة ما تقوله السلطة..."(6). واضح أن فيكو أحس بأن الوحدة التي كانت تضمنها سلطة السلف آيلة إلى التآكل، وأن ما فعل بها هذا سوى تحكيم الفرد لعقله، وأن لا بد من مراعاة سلطة الجماعة ـ الحس المشترك ـ حتى لا ينفرط عقد الوحدة الاجتماعية. وقد بنى موقفه هذا على أن الإنسان ـ بالأساس ـ كائن اجتماعي، متحدثا غير مرة عن "الإنسان الاجتماعي"، وليس الإنسان عنده فردا ذريا، ساعيا إلى بناء مشروع فكري ـ العلم الجديد ـ عبر عنه بعبارة "اللاهوت الاجتماعي"، ولطالما هاجم هو الفلسفتين: الرواقية والأبيقورية بوصفهما أخلاقيتي "الإنسان المتوحد" أو قل: "الإنسان النابتة"(7). والذي يترتب عن هذا الموقف القول بأولوية التقليد والعوائد والانتماء إلى الجماعة الثقافية والتاريخية واللسانية. فالإنسان الفرد عند فيكو ـ وهو ينتقد في ذلك طلائع فكر التنوير في القرن السابع عشر: هوبز ولوك وغروتيوس وبوفندورف ـ ما كان هو الذي أنشأ المجتمع إنشاء، وإنما هو نفسه نتاج المجتمع وثمرة الجماعة؛ وبالتالي فإن قيمه إنما هي قيم اجتماعية ونسبية بالأحرى والأولى والأجدر؛ أي أنها قيم اجتماعية بالتبع، وليست قيما فردية بالأصل. والحال أنه ما عمد فيكو إلى نقد فردانية ديكارت فحسب؛ بل نكاد نجزم أنه نقد فردانية كانط حتى قبل أن يكون كانط؛ فقد رفض أن يكون الإنسان مشرع نفسه، إنما المشرع عنده هي "الجماعة"، أو قل: "الحس المشترك".

وبالنسبة إلى هردر، فإنه ما الإنسان -عنده- إلا صنيعة ما فعل به أجداده، وثمرة طينة غرسها أسلافه، فليست المؤسسات الجيدة ولا القوانين الحسنة الصنع هي ما "ينضج" الإنسان، وليست السياسية هي ما "يصنعه"، وإنما الثقافة ـ بمعناها الأنتربولوجي ـ هي ما يفعل ذلك.

والذي عند بورك أن "حقوق الإنسان" ـ وقد سُوي التسوية بالفرد، فصير إلى الإنسان الفرد وصير إلى التسوية بين "حقوق الإنسان" و"حقوق الفرد" ـ إنما هي محض وهم، بل أشد من ذلك هي تمرد ضد قيم الحضارة المسيحية. وذلك مثلها مثل الفكرة الأنوارية القائلة بأن الفرد ـ مأخوذا هكذا في فرديته وذَريته ـ هو مُنشئ المجتمع. كلا، ما كان المجتمع من إنتاج الفرد، ولا ينبغي له أن يكون كذلك، لا ولا وجد المجتمع ليضمن سعادة الفرد. فما وجد من مؤسسات اجتماعية وسياسية ما أنشأه الفرد؛ وإنما أنشأته التجربة الجماعية، وضَرَسَتْهُ الحكمة الجمعية، ووجدت له علل قد لا يفهمها عقل الفرد، وإنما قد تكون نتيجة ما أراده الله لا الفرد، ولهذا ليس من حق الفرد المتمرد أن يعمد إلى تبديل نظام المجتمع الذي كرسته التجارب العتيقة والتقاليد الراسخة.

وبهذا يكون كل من هردر وبورك قد مثّلا ـ على ما بين مشروعيهما التنويريين الضديين من تباين ـ التيار الذي هاجم فكرة "استقلال الفرد" الأنوارية المبدأ الكانطية التحديد.

ههنا نلفي أنفسنا أمام تصوّرين متعارضين: من جهة، ثمة تنوير حامل لقيم كونية، قيم عظمة قدر الفرد وجلالة منزلته، قيم استقلال الفرد بذاته، بحكم كونه سيد مصيره. وهو تنوير يرى الفرد في المحل الأول، أما المجتمع والدولة فيأتيان في المحل الثاني، فما المجتمع والدولة -في عرفه- سوى أداة في خدمة الفرد وهو يسعى سعيا نحو اكتساب حريته وسعادته. بما يشي بمبدأ "أولوية الفرد بالنسبة إلى المجتمع"، وأن خير وسعادة الفرد هي ما ينبغي أن يستهدفه كل فعل سياسي، ووسيلة تحقيق ذلك: النقد العقلي للنظام القائم الذي يسمح بتصور المجتمع بوسمه "تجمعا" لأفراد، والدولة بوسمها أداة بين يدي الفرد، بما يجعل ـ في النهاية ـ من مصلحة الفرد وخيره الغاية النهائية التي يتغياها كل فعل سياسي واجتماعي. ومن جهة ثانية، هناك معسكر معاداة التنوير، وهو معسكر الأفكار التاريخية والقومية، يجعل المجتمع والدولة في المحل الأول، ولا يأتي الفرد في الاعتداد إلا بعد ذلك، فما هو سوى كائن تحدده أصوله الإثنية، ويحده التاريخ واللسان والثقافة. وبالجملة، يؤكد هذا التيار المعادي على أولوية الجماعة على الفرد، وعلى تبعية الفرد للجماعة.

تثنية، بقدر ما احتفى مفكرو الأنوار بقيمة "العقل"-مستعملين النقد العقلي في كل المجالات، ومتوسلين استعمال العقل النقدي "استعمالا عموميا"، بحيث رأوا أن لا شيء يمكنه أن يصمد أمام النقد، لا الدين ولا المجتمع ولا مبادئ التشريع ولا الكنيسة ولا الدولة- رأى أعداء التنوير أن لا سلطان للعقل على تشكيل حياة الشعوب الاجتماعية والسياسية، وأن لا ملكة له على تشكيل حياتهم الجمعية وعيشهم المشترك. فبالنسبة إلى المُعادين للأنوار، فإن العقلانية هي "أصل البلاء"؛ وذلك لأنها باب الشرور الذي تنقدح منه كل الشرور الأُخَر: المادية واليوطوبية والميل إلى تغيير نظام الحكم. وكم تسيء العقلانية ـ في نظرهم ـ إلى الإنسان لأنها تقتل النوازع والقوى الحية، وتميت الروابط الوشائج القوية التي تلحم بين أفراد الجماعة الواحدة، فتجعل الإنسان مفصوما عن سنده الوشيجي الاجتماعي يحيا في عالم ذري وهمي.

ذلك أنه منذ كتابات بورك الأولى التي تقدمت تأملاته الشهيرة في الثورة الفرنسية (1790) تحددت الأنوار عنده بوصفها "مؤامرة فكرية" تتغيا تحطيم الحضارة المسيحية والنظام السياسي والاجتماعي الذي أنشأته هذه الحضارة؛ ذلك أن كنه التنوير في نظره إنما هو أن لا قبول إلا بحكم العقل معيارا واحدا ووحيدا لإضفاء المشروعية على المؤسسات ـ الاجتماعية والسياسية ـ التي ينشئها الإنسان أنى كانت هذه المؤسسات وكيفما كانت. ومن ثمة، فإنه لا "التاريخ" ولا "التقليد" ولا "العوائد" ولا "تجارب الأمم" يمكنها أن تنوب مناب العقل فَيْصَلًا أو تسد مسده قاضيا. فليس المهم عند الأنواريين أن ينشئ الإنسان مؤسسات، وإنما أن ينشئها بوفق ما يقتضيه العقل والعقل وحده. فما يضمن مشروعية المؤسسات هو مدى مطابقتها للعقل: إن وافقته تكون مشروعة وإِن لم فلا. يجادل بورك في أن يكون العقل ـ الذي يعده عقلا مجردا ـ هو من ينشئ المؤسسات، إنما "الحس المشترك" هو من يفعل ذاك. وعنده أنه يكفي أن تضمن هذه المؤسسات حياة كريمة للفرد، وليس أن تضمن سعادته حسب ما يدعيه الأنواريون، فما الإيمان بهذه الفكرة إلا يوطوبيا أنوارية حالمة مفتقدة إلى الواقعية. ولذلك فإن بورك ينكر على العقل أن يكون له الحق في أن يشكك في النظام السائد، فبالأحرى أن يدعو إلى تدميره(8). فلا حق للعقل على المؤسسة، وحق المؤسسة على العقل ألا ينتقدها.

وعادة ما تهكم هردر من عقلانية فلاسفة الأنوار بوسمها "عقلانية تجريدية" و"فلسفة باردة مغسولة"، وأنها مجرد فلسفة دعية تدعي للإنسان القدرة على فهم نظام يشكل جزءا ضئيلا منه غير معتدٍّ به: "وماذا عساي أن أقول عن كتاب الله الكبير الذي يمتد على العوالم والأزمنة، أنا الذي لست على الحقيقة سوى حرف منه، ولست أدرك من كتاب الله إلا أحرفًا ثلاثة أو أقلّ". العجز عن الإدراك إدراك عند هردر، وهو إدراك لعجز العقل، وبديله التعاطف بدل التعقل. وما التعاطف إلا حدْس ووجدان. وهو ضد التحليل والتجريد. العواطف والانفعالات واللاشعور والحدس والإيمان بدل العقل. إنما يتبع اللهَ الوجد لا العقل. وما أن يوظف العقل في إدراك كنه الأمة أو الجماعة حتى يميتها إماتة. والمطلوب استكناه روح الأمة؛ أي الاستغراق في العصر بالوجدان والقلب. ولذلك عاد هو إلى خزان الشعر الشعبي ليمتح منه روح الجماعة. وبعد، فإن "تجريدات عصر الأنوار الباردة" من شأنها أن تقتل "حرارة الإحساس بالعواطف الأبوية والأموية والأخوية والابنية والصديقية"، مما يجعل "الرغبة في الحياة والفعل؛ أي الرغبة في الحياة الإنسانية الحقة" تخفت. وبعد، فإن من شأن "الاستدلال" أن "يرهق الروح" وأن ينشئ "قطعانا كبرى من البشر محكومة بحكم فلسفي"؛ أي محض "آلات"، وتلك هي صنيعة "العقل البارد والجاف".

تنازع قيم الأنوار وقيم الفكر الديني

يمكن أن نميز في ردود الفعل الدينية ضد الأنوار بين ردي فعل دينيين متبايني التوجه: واحد معاد للأنوار عداء شبه مطلق (مثال طائفتي الجنسينيين واليسوعيين الفرنسيين)، وثانٍ مؤيد للأنوار داع إلى لاهوت متنور (مثال طائفة اللاهوتيين البرتستانت الألمان المتنورين).

أولا؛ تمثل أغلب التيارات الدينية الكاثوليكية ضربا من لسان "التقليد" ضد "الجدة"، بحسب عبارة اللاهوتي والمفكر الديني والواعظ الفرنسي الشهير بوسييه (1627-1704). وعادة ما كنى الكتّاب الدينيون الجنسينيون عن كتابات المفكرين الأنواريين بالتسمية "الكتابات المارقة". وعلى صفحات جريدتها ـ "الأخبار الكنسية"ـ "صلبت" هذه الطائفة الكتابات الأنوارية، وفي كل الأحداث الثقافية التي صنعها الأنواريون الفرنسيون كان لها رأي. منذ نشر كتاب العالم الفرنسي بوفون (1707-1788) ـ "التاريخ الطبيعي"(1749) ـ إلى عشية الثورة الفرنسية، مرورا بالسجال الذي أثاره نشر كتاب المفكر السياسي الفرنسي مونتسكيو (1689-1755) ـ "روح الشرائع"(1749) ـ الذي أدانه البابا، وكتابه ـ "الرسائل الفارسية" ـ ونشر كتاب "في الروح"(1758)، للفيلسوف المادي الفرنسي هلفسيوس (1715-1771)، ومنع "الموسوعة" الأنوارية الشهيرة، ونشر كتاب الفيلسوف الأنواري الفرنسي جون جاك روسو (1712-1778) ـ "إميل"(1762)... وكان مجمل تصورهم لهذه الكتابات أن "ثمة موجات من اللا تدين والكفر تجتاح فرنسا، وهي تزحف اليوم برأس مرفوع وبلا حياء على المحكمة، وعلى العاصمة، وعلى الأقاليم، وحتى على البوادي"(9). فهي تتهم صاحب كتاب "روح الشرائع" بأنه ارتدى قناعا حتى يخفي إيمانه بقيم الدين الطبيعي، وليس بقيم الدين المسيحي، مما ألجأ مونتسكيو إلى المنافحة عن نفسه في كتاب ـ "دفاعا عن روح الشرائع" ـ حيث أعلن احترامه للدين وقيمه، لكن "الأخبار الكنسية" شككت في صدق طوية الرجل فكتبت في تلميح بالغ الدلالة بهذا الصدد: "عندما يريد المرء أن يبتعد عن الملاحدة، فإن ما يلزم أن يتقدم بفعله أولا هو أن يقطع كل السبل التي تقربهم منه"(10). وهي -بالجملة- تعد فكر الأنوار -مأخوذا برمته- فكرا استهدف قيم الدولة والدين والعوائد الحسنة.

كما أن جريدة الطائفة المنافسة ـ "جريدة تريفو" نفسها، بالرغم من انفتاحها النسبي إذا ما هي قورنت بالأولى حيث أعلنت منذ البداية أنها تريد نقدا لفكر الأنوار يبتغي لنفسه أن يكون: "سليما ومعتدلا ونزيها وبناء" ـ المنافحة عن القيم الدينية، ساعية -شأن منافستها- إلى الضغط على السلطات العمومية كي تمارس رقابة أحزم وأصرم على إصدارات الأنواريين، لا سيما منها جامع فكرهم الذي هو الموسوعة. وإذ لم تنتقد كتاب "روح الشرائع" ابتداء من عام 1749 ولم تعدّه مجهودا منحرفا وخطيرا يستهدف فرض الدين الطبيعي، على خلاف الجريدة المنافسة، فإنها مع ذلك أعلنت عن أنها ضد نشر أية آراء فلسفية تخالف التعاليم الإلهية. وذلك مثلما هي أدانت ما سمته سوء استخدام العقل الذي يبتغي أن يمارس سلطته ـ من غير وجه حق ـ على مجال ينفلت من مقدرته (مجال الدين)، ورفضت أن تتبع رأي المؤلف في إدانته لتدخل الكنيسة في عوائد الناس.

والحال أن مهمة النقد العنيف لقيم التنوير تركت للمؤرخ المحافظ المدافع عن النظام القديم يعقوب نيكولا مورو (1717-1803) الذي هاجم مشيعي هذه القيم من الفلاسفة ووصفهم بالفاسدين المفسدين، وقد تهكم منهم شر تهكم في سلسلة كتابات تخييلية تحت عنوان "الفاسدون" بدأها عام 1757 يقول في مقدمتها: "قبالة خط العرض الاستوائي الثامن والأربعين، اكتشفت مؤخرا أمة من المتوحشين أشد شراسة ورعبا مما كانه عليه سكان جزر الكرايبي ـ يدعون "الفاسدون". وهم لا يحملون سهاما ولا هراوات، شعرهم مصطف بأناقة، وملابسهم تلمع ذهبا وفضة، وهي مزدهية بألف لون ولون، بحيث تجعلهم يبدون أشبه ما يكونون بالورد الأشد تألقا وتوهجا وانفتاحا أو الطيور الأشد زركشة وبرقشة. على أنه يبدو أن لا هم لهم سوى التزين والتعطر وإثارة الإعجاب؛ لكن عندما ننظر إليهم نستشعر أن ثمة أنشودة سحرية فتانة تجذبنا من حيث لا نشعر إليهم، وإن لطف معاملاتهم لهو آخر شراك ينصبونه لجلب الناس واقتناصهم". ويصور المؤلف نفسه -في الإصدار اللاحق- بصورة المهتدي المبتدئ الذي يريد أن يعلم ما الذي تكونه الفلسفة، فيقوده حظه العاثر إلى هذه الجزيرة المسحورة بفعل سِحْرِ عِطْرِ سَحَرَتِها ـ فلاسفتها. وهو إذ يعرض تعاليمهم فإنه يتهكم منها بأشد تهكم يكون، ومما يعيبه عليهم أنهم لا يؤمنون إلا بما يعدونه "كونيا" ـ قيمة "الكونية" ـ هذا بينما يهملون أبسط الواجبات التي يستدعيها حب الأوطان، وإن استقلال الفرد الذي يدَّعونه ليتأدى بهم إلى هجر المجتمع هجرا، وإلى تحطيم الرابطة الاجتماعية تحطيما، وإلى المجادلة في شرعية كل سلطة سياسية بأمحك المجادلات: "يقطن المفسدون في خيام حتى يُعْلموا عن استقلالهم وحريتهم، ولهذا السبب فإنهم لا يعترفون بالحكومة، والفوضى هي أحد مبادئهم الجوهرية؛ وذلك لأنهم مقتنعون بأن الصدفة هي التي ألفت بين أفراد النوع البشري. على أن الأصل كان هو أن يحيوا منعزلين نوابت في الغابات. وأصحابنا لا يريدون الانفصال عن هذه المؤسسة الأصلية التي يعتقدون أنها مطابقة لطبيعة البشر"(11).

والحال أنه بعد نشره لهذه المذكرات بأشهُر عدة، طبع في 27 يوليوز أحد أشهر كتب الأنوار الفرنسية ـ "في الروح" ـ لصاحبه الفيلسوف الأنواري هلفسيوس ذي التوجه الحسي المادي البين، وذلك إلى حد جعله القيم محكومة بالمصالح وبالأهواء، جاعلا من الأهواء ما يوجه أحكام الأفراد، ومن اللذة مبدأ سلوكهم. وقد هاجم رجال الدين الكتاب مهاجمة شديدة، حتى حملوا الملك على الأمر بسحب الكتاب من العرض (10 غشت 1758)، وكان أسقف باريس قد أدان الكتاب، مثلما أدانه البرلمان (23 يناير 1759)، وبعده بأيام جاء الدور على البابا كليمنس الثالث عشر، ثم دور السوربون (11 مايو 1759). ومما قاله أسقف باريس في موعظة 22 نوفمبر 1758: "نعم إخوتي الأعزاء، أبخرة جهنم السوداء قد تصاعدت إلينا، وإنها لأعمال أمير الظلمات تطالعنا، ونحن نألم أن نجد آثارا لها بادية في كتاب شديد الانتشار بين نعاجنا التي أوكل إلينا أمر رعايتها". أكثر من هذا، اتهم المجتمع بالمرض؛ لأنه أقبل على قراءة الكتاب بنهم: "بباريس تسود هذه الفلسفة المتعجرفة الدنيوية... بحيث تندس بألف طريق متباينة، وتنشر سمها في كتب الأخلاق، وفي الأبحاث عن الطبيعة، وفي الأنساق السياسية، وفي كتب الرحلات والمسرحيات، مصيبة بالوباء الجمعيات العمومية، ولا سيما الشبيبة".

ثانيا؛ إلى جانب رجال الدين الكاثوليك من أولئك الذين رفضوا قيم الأنوار لدواع مختلفة، كان رجال دين آخرون ـ أغلبهم من الطائفة البروتستانتية ـ ممن حاول التوفيق ما أمكنه بين قيم الأنوار الجديدة وقيم الدين المسيحي الأصيلة. وقد سمي هؤلاء باسم "اللاهوتيين المتنورين"، وقد وُجدوا في كل الدول التي شهدت حركة الأنوار، ومنهم اللاهوتيون الأنواريون البروتستانت الذين تحلقوا حول مجلة "المكتبة الألمانية الجامعة [أو الكونية]" Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1798، 68 مجلدة) والتي كان يرأسها الناشر والأديب الألماني فريدريش نيكولاي Friedrich Nicolai (1733-1811)، محاولين التوليف بين المسيحية الأصلية وقيم التنوير. وهكذا، عمدوا إلى مراجعة أهم مفاهيم اللاهوت المسيحي على ضوء القيم الأنوارية الجديدة، فألفيتهم يجدون في تأويل القيم المسيحية التقليدية بما يتوافق والقيم الجديدة، وذلك شأن "الخطيئة الأصلية" و"اللطف الإلهي" و"الأعمال الصالحة" وغيرها من المفاهيم اللاهوتية الراسخة.

وهكذا، عمد هؤلاء اللاهوتيون المتنورون إلى تبرئة الإنسان من تهمة الخطيئة الأصلية التي ألصقها به التصور اللاهوتي الموروث ـ بدءا من القديس أوغسطين- فما كانت عندهم هذه الخطيئة الأصلية قدرا محتوما على البشرية تحمل وزره. ههنا نحن أبعد ما نكون عن التصور الأوغسطيني واللوثري عن خطيئة متأصلة في النفس البشرية تتحمل وزرها كل الأجيال، ويترتب عليها إنكار كل إمكان خلاص بجهد من الفرد يبذله بإرادته ورغبته بغاية تحقيق كماله، اللهم إلا أن يلحقه لطف إلهي. فبالنسبة إلى تيلر Teller وبيستوريوس Pistorius وريزفيتز Risewitz وليدكه Ludke وبيترسون Peterson ـ وكلهم محسوبون على تيار "اللاهوتيين المتنورين" ـ فإنه ينبغي لنا أن ننظر إلى الخطيئة الأصلية بوصفها مجرد "رمز" وليس "عقيدة" تشير إلى مناحي ضعف الطبيعة البشرية، وأن على الإنسان بذل الجهد لكي يُحَكِّم عقله وإرادته على نوازعه بعون من تربية متنورة. فما يدفع الإنسان إلى اتباع شهواته إنما هو غياب إدراك واضح منه للأشياء، وافتقاده إلى سلوك قائم على الروية. إنما الخطيئة الأصلية رمز لا عقيدة، وأمثولة لا حقيقة: "في هذا الميل إلى اتباع الفرد ما يمليه عليه هواه، وفي التمرد على كل ما هو إلزام أو منع (وذلك بحكم أن الفرد يعدّ الإلزام -كما المنع- وجهات نظر غريبة مفروضة عليه فرضا لا يستسيغه هواه)، في هذا الأمر يكمن الشر المتأصل، مصدر كل خطوات الفرد الزالة"، ولذلك فإن "هذا العناد في اتباع الشهوات هو ما يمكن أن نعده خطيئة أصلية"(بيستوريوس)(12). فإذن، استعمال الحرية هو ما ينشئ في الإنسان الخطيئة أولا، بما يجعل للإنسان مسؤولية بوصفه فاعلا في مجال الأخلاق، وذلك على خلاف ما كان قد ذهب إليه القديس أوغسطين الذين كاد يجعل من الخطيئة الأصلية لعنة تدمغ حتى المولود الجديد بدمغتها التي ليست تنمحي أبد الحياة.

وفي أمر "اللطف الإلهي" رأى هؤلاء أنه ما كان الإنسان متلقيا للطف سلبيا بلا سعي منه وجهد. وما عاد اللطف يحصل بمجرد الإيمان وليس بداعي رغبة الشخص في إصلاح نفسه، وإنما صار الفعل اللطفي يقتضي بذل الجهد البشري الذي يسعى إلى الخلاص (مفهوم "السعي"). فلا انفصال بين اللطف الإلهي وجهد الفرد وسعيه (ريزوفيتز)، وبلا جهد بشري يكون اللطف غير كاف (بيترسون)، وليس يحصل اللطف في الحين، وإنما بتوسل طريق طويل (بيستوريوس)، ونحن لا نعلم به للوهلة علما، وإنما وعينا فحسب واستقامتنا الخلقية فقط هما ما يؤشر تأشيرا على أنه سائر يتحقق لنا(13). ولهذا قال ليدكه: "ليست تحصل محبة الخير هكذا فجأة عن غدارة في نفس متعلقة بالأمور الدنيوية أيما تعلق، وذلك حتى ولو بقيت هي تنتظر أبد الدهر، وليس اللطف الإلهي هو ما يحصل بها من التلقاء فجأة وعلى نحو مباشر، وإنما الأمر بالضد من هذا يحصل بالتدريج، كما دلتنا التجربة على ذلك منذ أمد، فتتغير آنها أحوال أنفسنا"(14). وفقا لهذا، فإنه لا الهدايات التي تحصل فجأة، ولا التحولات الصوفية بلا جهد يومي يبذل وسعي دائم يحصل تعد أفعالا يحصل بها اللطف الإلهي، وإلا فإن في الأمر تشجيعا للعقل الكسلان.

وفي أمر تصور "الأعمال الصالحات" تمت مراجعة التصور الكاثوليكي الذي يرى أن هذه الأعمال إنما هي الأعمال الظاهرات البادية (الحج، الصدقة، الصلاة...)، بل الأعمال الصالحات منوطة بالإيمان الداخلي الجواني الذي هو ثمرة جهد وسعي وهمة لا تتوقف نحو تحقيق الكمال الأخلاقي بحثا عن الخلاص الأبدي. فليست بهذا الأعمال الصالحات سوى ما أثمرته استقامة الإنسان الخلقية، لا الخضوع إلى طقوس خارجية... وذلك خلافا لما ذهب إليه القديس بولس من تأويل الأعمال تأويلا سطحيا، متأثرا في ذلك بالتأويل اليهودي الموسوي القائم على فكرة التزام الشريعة التزاما ظاهريا.

وقد انتهى هؤلاء اللاهوتيون المتنورون ـ مدفوعين بلا شك بقيم الأنوار النفعية البراغماتية ـ إلى الدعوة إلى التخلي عن كل الجدالات اللاهوتية المجردة والعقيمة، والانخراط في ممارسة دينية بسيطة ومتسامحة لا تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة تمس القلب والعقل، وتكون ذات بُعْد أخلاقي بالأولى. فللدين كنه أخلاقي، بل كنهه أنه جهد أخلاقي موصول. أكثر من هذا، الدين الطبيعي عندهم كان هو المقدمة إلى الدين الموحى به. ومن ثمة دعوا إلى ضرورة البعد عن الدين المجرد Religio in abstracto والتزام الدين المشخص Religio in concreto. وبهذا يصير الدين هنا أمرا شخصيا وليس عقيدة عامة. صحيح أنهم ما وصلوا ـ على عكس الأنواريين ـ إلى فكرة "دين تأليهي طبيعي"؛ إذ حافظوا على بعض العقائد المسيحية الموحى بها شأن الإيمان بالمسيح، وبأتباعه، وبفكرة افتداء الإنسان، وبخلود النفس... لكنهم أنشأوا لاهوتا هو أقرب إلى أفكار فلاسفة التنوير وقيمهم من حيث جعل الإنسان ـ وليس الإله ـ مركز نظرهم، وجعل هذا اللاهوت دائرا على أمور خُلقية وليست لاهوتية مجردة. وبذلك فإنه تمت النقلة من مركزية إلهية قديمة Théocentrisme ذات استيحاء أوغسطيني إلى مركزية إنسية Anthropocentrisme دينية ولاهوت إيتيقي دائر بأكمله على الحياة العملية Vita activa وليس على الحياة النظرية التأملية Vita contemplativa. وبهذا ما صار التمييز بين الخير والشر ـ وهو مسألة قيمية بامتياز ـ سرا من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله؛ وإنما صار بمكنة العقل البشري أن يعلمها ويعمل بها.

أكثر من هذا، صير إلى ربط الدين بالفضيلة (لا دين من غير فضيلة) وإلى فك الارتباط بين الفضيلة والدين (ثمة إمكان قيام فضيلة من غير دين). يتساءل ستوش Stosch (1784)، في مراجعة كتاب غوتفريد تيس Gottfried Tess (1736-1797) "في الدين" الذي ذهب فيه إلى أن لا إمكان البتة للحديث عن الفضيلة من غير إيمان بالله وباللطف الإلهي، متشككا: "أحقا الفضيلة والتقوى والفضيلة والدين أمران سيان لهما الدلالة نفسها؟"، مستفسرا عن إمكان قيام فضيلة عن الدين بمعزل، ذاهبا إلى أن العواطف والميول التي تحملنا على الفضيلة والخير أمور متأصلة في النفس البشرية ـ بقطع النظر عن تدينها أو عدم تدينها ـ حتى وإن كانت تجهل الله. ولئن كان لا شك أن الدين يثبت الفضيلة، فإنه يحق أيضا أنه: "بلا دين، يمكن للفضيلة أن تفقد نصف فاعليتها؛ لكنها لا تفقد مع ذلك قيمتها الداخلية والخاصة، فلا تتوقف عن أن تظل فضيلة؛ بينما الدين بلا فضيلة يتوقف عن أن يظل دينا لكي يستحيل شعوذة وهوجا وآلية وجمودا"(15). ومن ثمة البعد الأخلاقي العميق للدين على حساب بُعده العقدي. ومن ثمة أيضا التأكيد على أن قوانين الأخلاق مستقلة عن البناءات العقدية المعقدة، وذلك من حيث إنها قواعد تتوجه نحو الجميع بلا تمييز في النحلة، رائدها في ذلك العقل. وقد ذهب تيلر وليدكه إلى حد القول بالتطابق بين الوحي والعقل، وأن كل ما تضمنه الوحي من أمور تبدو وكأنها غير معقولة ـ أي تمتنع عن فهم الإنسان باعتباره المحور الذي عليه مدار الخطاب الديني ـ لا يمكن الوقوف عليها؛ وذلك لأن غاية الوحي أن يتعقل الإنسان مضمونه، وإلا فَقَدَ هو سبب وجوده. وليس من قبيل التحريف إذا ما تم استبعاد كل ما ضاد من الوحي العقل(16). فأشكال "النقص" وأنحاء "الغموض" وأصناف "التناقض" التي تَعْتَور النص المقدس تعود إلى محرريه من البشر الذين تداولوا نقله فاعتوره ما اعتوره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)         من أهم الذين تبنوا هذا الطرح المؤرخ زيف ستيرنل. انظره يتحدث في كتابه عن العداء للأنوار عن "حداثة أخرى" أو "حداثة ثانية" مثلا في الصفحات 14 و15 و17 وفي غيرها كثير.

2)         Friedrich Nietzsche, Œuvres complètes III, Humain trop humain, fragments posthumes (1876-1878), paris: Gallimard, 1988, P437-438.

3)         William Barrett, Irrational man, A study in existential Philosophy, Anchor Books edition, 1962, P274.

4)         Herder, cité par Zeev Sternhell, Les Anti-Lumières (du XVIIIe à la guerre froide), Paris: fayard, 2006, P168.

5)         Zeev Sternhell, Les Anti-Lumières (du XVIIIe à la guerre froide), Paris: fayard, 2006, P14-15.

6)         Giambattista Vico, Mémoires de Vico écrits par lui-même, traduits par Jules Michelet, Bruxelles: Société belge de librairie, 1837, P185.

7)         Ibid, P57.

8)         Zeev Sternhell, Les Anti-Lumières (du XVIIIe à la guerre froide), op. cit., P18.

9)         Cité par Didier Masseau, Les ennemis des philosophes, l"antiphilosophie au temps des lumières, Paris: Albin Michel, 2000, P115.

10)       Cité par Didier Masseau, Les ennemis des philosophes, l"antiphilosophie au temps des lumières, op. cit., P116.

11)       Jacob Nicolas Moreau, Nouveau mémoire sur les couacs, cité par Didier Masseau, Les ennemis des philosophes, l"antiphilosophie au temps des lumières, P129.

12)       Pistorius cité par Roger Kirscher in «Théologie et Lumières , les théologiens «éclairés» autour de la revue de Friedrich Nicolai Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1792)», Presses universitaires du Septentrion, 2001, P130.

13)       Roger Kirscher , «Théologie et Lumières , les théologiens «éclairés» autour de la revue de Friedrich Nicolai Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1792)», op. cit., p191.

14)       Ludke cité par Roger Kirscher in «Théologie et Lumières , les théologiens «éclairés» autour de la revue de Friedrich Nicolai Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1792)», op. cit., P131.

15)       Stosch cité par Roger Kirscher in «Théologie et Lumières , les théologiens «éclairés» autour de la revue de Friedrich Nicolai Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1792)», op. cit., P140.

16)       Roger Kirscher , «Théologie et Lumières , les théologiens «éclairés» autour de la revue de Friedrich Nicolai Allegemeine deutsche Bibliothek (1765-1792)», op. cit., P188-189.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/77

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك