القيم الأخلاقية الإنسانية ومقاصد الشريعة في عصر النهضة العربية والإسلامية

نور الدين مختار الخادمي

 

تشكل المفردات الثلاث (القيم الأخلاقية الإنسانية، ومقاصد الشريعة، والنهضة العربية) وحدة معنوية معرفية تُعنى بتحديد مقولة القيم الإنسانية في المنظار المقاصدي ضمن مشهد النهضة العربية، وبتعبير آخر نقول: لماذا وكيف ومتى نسند النهضة العربية إلى القيم الأخلاقية الإنسانية المتشبعة بمقاصد الشريعة؟ أو لماذا وكيف ومتى نعدّ القيم الأخلاقية الإنسانية المتشبعة بمقاصد الشريعة أساسا معرفيا ومنهجيا مرجعيا ووعاء حضاريا وعصريا لتحقيق نهضة عربية بشكل ما وبمستوى معين، تتحقق فيه غاياته المرجوة, وتراعى إمكانياته المتاحة, وتعذر فيه بعض الجهات وبعض جهودها ومحاولاتها وحلولها.

التفاوت في المقاربات المطروحة للمشترك المضموني:

ظلت القيم الأخلاقية الإنسانية أحد أبرز وأظهر الأسس المرجعية في النظام الإنساني الإسلامي، أو في المجتمع الإسلامي والحياة الإسلامية. وذلك بالنظر إلى كون تلك القيم قد شكلت استخلاصا معرفيا شرعيا من مجموع المرجعية الإسلامية المتمثلة في نصوص الشرع وقواعده وأصوله، ومن مجمل المنتج الإسلامي العلمي والحضاري المتمثل في آثار السلف وآراء الخلف وأقوال الأئمة والأعلام وعامة الفقهاء والمجتهدين والمفكرين والباحثين. كما شكلت نمطا اجتماعيا وسياسيا وفرديا يعبر عن مرجع في الفكر, ومصدر للمعرفة, وتوجه في رسم التفاصيل المدنية والاقتصادية والسياسية.

وليس من الغريب القول بتفاوت مقاربات ذلك, واختلاف صيغه وأساليبه بحسب الاختلاف الزماني والمكاني والبيئي والحضاري، وبموجب تفاوت الأنظار والتحقيقات وتنوع المدارك والاعتبارات. ويتأكد هذا بقوة إذا أخذنا بعين النظر مشهد الأمة العربية والإسلامية في اتساع أبعادها الجغرافية والتاريخية, وثراء تحضرها, وشدة تواصلها وامتداداتها الإنسانية والعالمية. وهذا يمكن أن يشكل إطارا بحثيا تنجز بمقتضاه أعمال علمية ضخمة ودقيقة ومفيدة على صعيد توجيه الواقع, وتعزيز النهضة, وتلافي السلبيات, والاستبصار بالماضي والاعتداد بالحاضر.

ترسيخ البُعد المقاصدي في تناول القيم الأخلاقية الإنسانية:

معنى هذا: أن تتنزل القيم الأخلاقية الإنسانية في إطار مقاصد الشريعة, وهو ما يدعونا إلى إبراز تجليات أو شواهد المقاصد في تلك القيم.

إن المتأمل في مقاصد الشريعة وفي موضوعاتها وقضاياها الجوهرية، يمكنه الوصول إلى تقرير وترسيخ هذه المقاصد في تلك القيم، أو لتكون المقاصد الوعاء والمرجع لتلك القيم.

ويمكن بيان ذلك ضمن المستويات التالية:

مستوى مقاصد الشارع:

مقاصد الشارع مصطلح مقاصدي يراد به مراده في الخلق والأمر, وهذا المراد يتمثل في تقرير عبادة الخالق وإصلاح المخلوق, وتتفرع عن هذا مقاصد كثيرة، منها: حفظ الإنسان وحماية كرامته وحرمته وعقله ونسبه وماله، ومنها تعمير الأرض وإصلاحها وتزيينها واستثمار خيراتها وبناء نهضتها وتكثير منتوجها. ويتبين مفهوم مقاصد الشارع وتتحدد مسائله وتفاصيله بناء على بيان الشارع في ذلك, وبيانه قد حصل بكل ما ثبت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وقد تقرر بمقتضى قواعد تلقي ذلك وفهمه وتنزيله وتفعيله، وهو ما يحيلنا إلى مبدأ الاجتهاد والتفسير وحقيقة التفقه والتدبر ومسالك التقرير والموازنة والترجيح والاختيار.

إن مقاصد الشارع شديدة الارتباك بالقيم الأخلاقية الإنسانية، وذلك من جهة مراده في خلق الإنسان من حيث تقرير حرمته وكرامته ومنزلته في الوجود، قال تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾، وقال: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾. ومن حيث تقرير وظيفته ورسالته في الحياة، حيث أمُر الإنسان بأوامر ونهي عن نواه، وكلف بمجموع الدين الذي ارتضاه الله تعالى للناس. ومعنى ارتضاه: أراده وحمل الناس عليه ووجههم إليه, قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾، وقال: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾. أضف إلى ذلك مراده في أن يكون الناس مستقرين في الأرض ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾، وأن يديروا التنوع بينهم, وأن يحسنوا تنظيم اختلافهم وتدافعهم, وربما تنازعهم وتوترهم.

مستوى قصد المكلف:

قصد المكلف هو نيته وعزمه وإرادته, وقد ذكره الشاطبي بعد أن ذكر مقاصد الشارع(1) ، وذلك بالنظر إلى كونه محكوما به ومبنيا عليه، فقصد الشارع فعْل نابع من الإنسان، وهو بهذا لا يشكل مقصودا شرعيا أو حكما شرعيا؛ بل يشكل موضوعا للحكم الشرعي المتضمن لمقصوده. وذكره بعد مقاصد الشارع لا يُفهم منه أنه واقع ضمن مقاصد الشريعة وفرع منها، وإنما يعني فقط إدراجا منهجيا ودراسيا بغية الحكم عليه في ضوء مقاصد الشارع, ومعنى ذلك أن يكون قصد المكلف موجها ومحكوما بقصد الشارع، وقصد الشارع إزاء قصد المكلف يتمثل في أمور أساسية هي:

-           أن يكون قصد المكلف مبنيا على الإيمان بالله تعالى, وبسائر أركان العقيدة الصحيحة ومتطلباتها وأدبها, وهو ما يقرر وجوب نفي الشرك والكفر عن قصد المكلف.

-           أن يكون قصد المكلف مبنيا على الإخلاص والصفاء والوضوح، وهو ما يقرر تحريم النفاق والرياء وحب الشهرة والظهور.

-           أن يكون قصد المكلف مبنيا على المودة والرحمة والتواضع ونفي الحقد والبغضاء والكبر والحسد, وكل هذا يتحدد بأحكامه وآدابه وأحواله ومقاصده. وقد يلزم الكبر أحيانا، كلزومه مع أهل الكبر وفي موضع مجاهدة المحتل ومقاومة الظالم وطرد الطاغية، كما يلزم خلاف الرحمة مع من يعذب الناس ويحرقهم, ويشوه أجسادهم, وينتهك كرامتهم. والحق أن خلاف الرحمة هنا إنما هو رحمة راجحة وغالبة للعامة الذين تعرضوا للنقمة، وإن كانت سلبت من الظالمين والمعذبين والمحتلين المعتدين. وهذا مجاله الموازنة واختيار الأولى والأهم والأفضل.

-           أن يكون العمل المبني على القصد الصحيح والنية السليمة موافقا لطلب الدين ومقتضاه, وهو ما ذكره العلماء بقولهم: إن العمل الصحيح شرعا يتوقف على أمرين: أمر النية الخالصة أو القصد الخالص، وأمر صحة العمل وسلامته من المبطلات والمفسدات، وذلك يكون بجريانه على وفق أوامر الدين وواجباته وسننه وآدابه وصيغ تنزيله ووسائل تحقيقه وغير ذلك.

إن تلك الأمور هي التي جعلت قصد المكلف رديفا في الذكر والبيان لمقاصد الشرع, وإلا فقصد الشارع يندرج ضمن أفعال الإنسان المحكومة بالأحكام الشرعية.

ولدراسة قصد المكلف اتصال عميق وتأثير كبير في القيم الإنسانية، من حيث ارتكاز هذه القيم على الإرادة الإنسانية الباعثة على حسن الفهم والتمثل، والدافعة إلى تحقيق الأفضل والأحسن على صعيد الفعل والإنجاز. ومعلوم أن الإرادة القوية أساس عظيم وقاعدة متينة لصدور الفعل الإنساني والإنجاز النهضوي والحضاري، وفضلا عن تجويد كل ذلك وتحسينه وإتقانه بموجب الرغبة القوية في التمثل والحرص الشديد في الامتثال, والعزم الصادق في التنزيل والإنجاز والتحصيل والتفعيل.

مستوى المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية:

يشكل هذا المستوى القدر الأكبر, أو قل: القدر المعني بموضوع المقاصد، والذي هو المصالح من حيث جلبها وتحصيلها، والمفاسد من حيث درؤها ودفعها. ومراتب هذه المصالح والمفاسد متفاوتة من حيث شدة الاحتياج إليها، فهناك المصالح الضرورية التي لا بد منها في حياة الناس(2) ؛ إذ بفقدانها ينهار الوجود الإنساني وتفقد الحياة، ومثالها القريب الغذاء والهواء والدواء الذي تتوقف عليه صحة الإنسان وحياته.

وهناك المصالح الحاجية التي هي قريبة من المصالح الضرورية؛ ولكن فقدانها لا يهدر الوجود ولا يفوت الحياة، وإنما يجعل تلك الحياة قائمة بحرج شديد, ومشقة قاهرة, ووضع صعب تتضاعف جهوده, وتتعطل كثير من منافعه, وتجلب كثير من آلامه وهمومه(3). والإسلام يتشوف إلى السهولة المحمودة والعيش الكريم والحياة المخففة الطيبة. ومثال ذلك الإجارات والحِرَف والمهن الكثيرة التي تروج السلع, وتقرب المنافع, وتسد الحاجيات, وتعمر الأرض، فلو انتفت هذه الحاجيات كلية أو أغلبها لتعرضت حياة الناس إلى وضع صعب وحالة شديدة؛ بحثا عن البديل ودرءا للعليل.

أما المقاصد التحسينية(4) فترِد لتحسين الحياة, وتجميل المعاش, وتلوين الوجود بألوان التبسط والتفكه والتطيب والتحضر والتمدن، الأمر الذي يعطيها جمال البهجة, وراحة الفسحة, وطيب الحياة, وأناقة المقام, وحلاوة المستقر, وعذوبة المأكل والمشرب, وملاءمة المنزل والموقع.

ومعلوم ما لهذه المقاصد بمراتبها الثلاث من اتصال قوي وتأثير عظيم في ترسيخ القيم الأخلاقية الإنسانية، من حيث مراتب هذه المقاصد:

1-         من حيث ترسيخ ما هو ضروري لا بد منه، كترسيخ الحرمة والكرامة الإنسانية التي تقرر إنسانية الإنسان, وجوهره الأخلاقي المتين, ومظاهر ذلك في المعاش والتواصل والتعامل، وكواجبات العدل والحرية والمسؤولية والوفاء بالعهود, واحترام الاتفاقيات اللازمة, والمعاهدات الضرورية لاستقرار الأوضاع وسلامتها من التهارج والتقاتل بموجب الغدر والخيانة ونقض العقد.

2-         من حيث ترسيخ ما هو حاجي يفتقر إليه بشدة، كترسيخ الإحسان الزائد على العدل, وترسيخ المسامحة المفضية إلى تنقيح المناخ الإنساني من غوائل الأمراض القلبية والنفسية التي تؤدي بتراكمها وتواترها إلى الإخلال بالنظام الإنساني في أجزاء وجوانب كبيرة منه, قد تجعل الحياة فيه واقعة بمشقة عظيمة وحرج شديد.

3-         من حيث ترسيخ ما هو تحسيني تجميلي، كترسيخ مجموع الآداب والفضائل التي تقرّب ولا تباعد, والتي لا ترتقي إلى ما هو ضروري وحاجي, ومن ذلك التحية وردها، والهدية, والإكرام بالطعام, والخدمة التطوعية والمدنية التي تعزز القيم الأخلاقية, وتنشر فضائل التواصل الإنساني والعون, والتكاتف بين البشر, والتآلف بين الفئات.

مستوى المقاصد الخمسة:

وهي المعروفة بالكليات الخمس الموسومة بحفظ الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال. وهي تمثل تفصيلا أدنى من المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية. ولكنه تفصيل من غيره؛ أي أعلى من بيان المقاصد الخاصة بتفاصيل الأحكام وفروعها, وهي تستغرق ما يستحقه الإنسان من رعاية مصالحه ودفع المفاسد عنه.

وارتباط هذه الكليات بالقيم الأخلاقية الإنسانية يكمن في الأمور التالية:

1-         يمثل حفظ الدين حفظ مجموع القيم الأخلاقية التي يكون الدين أساسا لتحديدها وتقريرها. ومعلوم أن الدين رسالة للقيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية، كقيمة العدل والأمانة والحرية والكرامة، وكفضيلة شكر المحسن, وإكرام المستحق, والبر بالوالدين, وصلة الرحم. كما أن حفظ الدين يهدف إلى حفظ القيم العقدية الإيمانية والقيم التشريعية الحكمية. وهو ما يكون له أثره في تقرير القيم الأخلاقية النابعة من العقيدة والتشريع.

2-         يمثل حفظ النفس مجموع ما تُحفظ به النفس الإنسانية، كحفظ حياتها وسلامتها وحرمتها الجسدية، وحفظ معاشها وغذائها ودوائها، وحفظ حريتها وكرامتها، وحفظ دورها في الحياة, وإسهامها في إعمار الأرض. ولهذا أثره في تقرير القيم الأخلاقية التي هي إحدى أبرز قيم الإنسان ومبادئه, وأظهر أمارات فطرته وإنسانيته.

3-         يمثل حفظ العقل مجموع ما يُحفظ به العقل، كحفظه بالعلم والفكر، وحفظه بمنع إسكاره وتخديره بالخمر والسحر والشعوذة والدجل والمغالطة الإعلامية والسياسية والمهاترة الفكرية والفلسفية، وبكل ما يُغيّب به العقل، ولو تحت غطاء أوهام التدين وأجواء السياسة, وأدواء الاستشراق والاستغراب, وأوحال الاستفزاز والاستدراج. ولهذا أثره في قيم الأخلاق الإنسانية، من جهة قيم أخلاقية العلوم والمعرفة، وأخلاقية التقنية والتنمية، وأخلاقية الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي؛ بما يعود بالخير والصلاح الإنساني، وليس بما يفضي إلى الاضطراب والحيرة وتشوّه المفاهيم والأفكار, وتعثر العلم والمعرفة, وتلوث القيم السلوكية, وتآكل المخزون الفطري بتآكل محيط الأرض وطبقة الأوزون.

4-         يمثل حفظ النسل مجموع ما يُحفظ به النسل الإنساني, وصحة النسب, وفضيلة العرض. وهذه خاصية الأسرة التي استقرت على هذا الوضع عبر تاريخها، وسمة الأسرة المسلمة والإنسانية التي عرفت بحفظ نسلها المنسوب إلى أصله والمحفوظ عرضه وخلقه. ولهذا أثره في حفظ القيمة الأسرية الإنسانية المجذرة منذ الخلْق الأول، والراسخة في كافة المعمورة، ولا ينظر إلى حالات الشذوذ والزيغ عن هذا الأصل المتين، الذي لا يعبر عن حالات سوية في الوضع الإنساني، وإنما يعبر عن لحظة اضطرابية مختلة باختلال ميزانها وظهور شوائبها وسرعة انجلائها.

5-         يمثل حفظ المال مجموع ما يُحفظ به المال، كحفظه بالتنمية والاستثمار والزيادة والتوسيع، وحفظه بمنع ما ينقصه أو يضعفه أو يغيبه ويطمسه، ولذلك منع الغش والتحيل والربا، وحرمت السرقة والرشوة وسائر صور أكل المال بالباطل الذي يقابل الهوى والمنكر والفساد بأنواع المختلفة. وربما يندرج حديث خبراء المال والسياسة والقانون والفقه عن الفساد المالي تحت مدلول هذه الكلية الشاملة, وما تستغرقه من صور مستحدثة وحالات مستجدة. ولهذه الكلية أثرها في حفظ القيم الأخلاقية الإنسانية, من جهة حفظ أخلاقية الكسب والاتجار, وأمانة البيع والشراء, وصدق التجار والصناعيين والحرفيين, ومسؤولية المجتمع والدولة وسائر المؤسسات الاقتصادية والمالية. ومن جهة انبناء الحياة المالية على القيم الإنسانية بحسب قاعدة (الرجل وبلاؤه, والرجل وحاجته) وقاعدة الرفق والرحمة واليسر في الاستحقاق المالي والكسب المادي. فليس يبنى كل ذلك على العمل والجهد فقط؛ وإنما يبنى على الحالة الإنسانية, والحاجة البشرية, ومنطق التعاون والتآلف والسماحة والإحسان في تلك الحياة المادية.

مستوى وسائل المقاصد:

وسائل المقاصد هي كل الطرق المفضية إلى مقاصدها، بجلب المصالح ودفع المفاسد. وتعد الوسائل إحدى أبرز مباحث مقاصد الشريعة؛ لارتباطها بمقاصدها من حيث الوجود والعدم، والفسح والمنع، فالوسائل لها حكم المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام.

وللوسائل ارتباطها بالقيم الأخلاقية الإنسانية, من جهة كون تلك الوسائل طريقا إلى المقاصد المتضمنة لقيمها الأخلاقية الإنسانية، فتكون تلك الوسائل عندئذ طريقا إلى تلك القيم. ثم إن هذه الوسائل تشكل ميدانا رحبا لاختيار أفضل الطرق وأوسع الصور؛ لتحقيق وتفعيل وترسيخ القيم الإنسانية المتنوعة، فيمكن اختيار الوسائل المتنوعة لتحقيق التراحم البشري والجماعي والدولي، وبناء الثقة والأمان في نفوس الناس, وتعزيز قيم التواصل والتشاور والتعارف بين الحضارات والأمم والمجتمعات الوطنية المختلفة. إن الوسائل المنوطة بمقاصدها المعتبرة تمثل إطارا مهما غاية الأهمية في تشكل الصيغ والكيفيات الناجعة في إعادة بناء قيم الأخلاق وفضائل الإنسان، أخذا بعين الاعتبار بمعطيات المعاصرة, ومنتجات المعرفة, ومفرزات الحياة بكل تطوراتها وتداعياتها.

مستوى مآلات أفعال الناس:

المآلات هي ما يؤول إليه أفعال الناس, وتصرفات المجتمع, وسياسات الدول, وتوجهات العالم بأسْره. ولهذه المآلات اعتبارها في النظر والاجتهاد والتوجيه، وفي صياغة الحلول, وبيان المواقف, ووضع الخطط والبرامج، وهو الذي عبر عنه العلماء بجملة قاعدية مفيدة، وهي مراعاة مآلات الأفعال.

ولهذا اتصاله بالقيم الأخلاقية الإنسانية من جهة ما آلت إليه الأمور في العصر الحالي على صعيد تدهور حقوق الإنسان مثلا، بسبب طغيان المادة وكثرة الحروب والتجارب النووية والوارثية, وزيادة أحجام الاستبداد والظلم والطغيان، فإن هذه المآلات الحقوقية الإنسانية الخطيرة قد شكلت دافعا للباحثين والمهتمين؛ كي يدرسوا أسبابها, ويحكموا عليها بما يلزم، وقد تقرر أن منع تلك المآلات في المستقبل وإنهاء آثارها إنما يحصل بتأسيس الأسباب والمقدمات التي سوف تفضي إلى نتائج على خلاف النتائج الأولى؛ إذ تلك النتائج سوف تكون وفاقا لمقدماتها وأسبابها، وجارية على مراعاة القيم الإنسانية والفضائل تقديرا لما يغلب على الظن وقوعه. ومن هذه الأسباب: تعزيز الأبعاد النفسية والروحية والوجدانية؛ لمواجهة البعد المادي الطاغي والهالك، ومواجهة الآثار السلبية والخطيرة للتجارب النووية والوراثية، ومقاومة الظلم والاستبداد والطغيان, وتقرير مبادئ الحرية, والكرامة, والتدافع الخيري, والتنافس السلمي. فهذه هذه الأسباب وغيرها كفيلة باستبعاد المآلات الخطيرة المترتبة على مقدماتها ومنطلقاتها.

مستوى الموازنات والأولويات المقاصدية:

الموازنات هي وزن الأمور ذات الموضوع الواحد بعضها مع بعض بقصد الضبط والتحديد والاختيار والترجيح. والأولويات هي اختيار الأولى والأفضل بعد ذلك.

وفي المقاصد تكون الموازنات والأولويات: وزْن المصالح والمفاسد المختلفة لتقديم الأولى والأفضل. ولذلك تتقدم المصلحة الأكبر على المصلحة الأصغر، والعامة على الخاصة، والمتعدية على القاصرة، والدائمة على المؤقتة، وكذلك بالنسبة إلى المفاسد، وبالنسبة إلى المصالح إزاء المفاسد. وهذا أمر معلوم في علم المقاصد, وقواعده مضبوطة, ومنهجه معروف. والذي يهمنا بصفة أكبر اتصال الموازنات والأولويات بالقيم الأخلاقية الإنسانية، وهو ما نؤكده في قولنا بأن تلك القيم الأخلاقية الإنسانية تُردّ عليها تلك الموازنات من حيث وزن القيم ذاتها باعتباراتها المختلفة: بالاعتبار الفردي والجماعي, والاعتبار الظرفي والدائم, والاعتبار المتصل بالآخر القيمي كالقيمي السياسي والقيمي الاقتصادي، ومن حيث وزن وسائل تحقيق القيم وأسبابها وآثارها، فلكل هذا مجاله الواقعي وحيزه المعرفي ومتطلبه المنهجي، وهو ما يقيم هذه القيم وتجلياتها على أساس ذلك كله.

كما أن تلك القيم الأخلاقية الإنسانية ترد عليها الأولويات من حيث تقديم الأهم والأفضل بناء على نتيجة الموازنات، فيُقدم مثلا خُلق حفظ العرض وحماية النسب على حفظ المال والمتاع، ويقدم جو الحرية المسؤولة المفضية إلى استحقاقها الإسلامي والعربي والأخلاقي, مع ما في هذا الجو من تكدر ومرارة؛ بسبب الصلف الفكري, والتيه الحضاري, والاستفزاز العقدي, والاستدراج المشين، وتقديم ذلك أولى من غيره الذي قد يشوش على ذلك الاستحقاق ويطمسه ويبطله.

ارتكاز النهضة العربية والإسلامية على البُعد المقاصدي للقيم الأخلاقية الإنسانية:

النهضة العربية والإسلامية أمل كل عاقل, وهدف كل عامل. وهي رسالة التكليف, وجوهر الدين, ومسؤولية العربي والمسلم, وضرورة الحياة, وقاعدة المناعة والمقاومة, وأساس التحضر والتعبد والتدبر. ومما يزيد تأكيدها وترسيخ ضرورتها: الوضع الراهن من حيث الذات في بواطن قوتها, ومدخرات كيانها, وعلامات تجددها, ونقائص كثيرة ومبعثرة. والوضع الراهن من حيث الموضوع في بعض طغيانه واحتلاله وركوبه زمام الدورة الحضارية وتغلبه المادي بموجب ذلك، وكذلك في بعض تطلعاته وقابليته للنهوض العربي الإسلامي, وتأثره به, والارتكان إليه؛ لتألقه على صعيد القيم الإنسانية الخلقية والخلقية المركوزة في نفوس العالم كله، بموجب آثار الرسائل السماوية والدين الإلهي الواحد وبواعث الفطرة السوية الأصلية.

إن هذه المرتكزات منها ما هو معرفي, ومنها ما هو تقني وإجرائي, ومنها ما هو واقعي ومنهجي وترتيبي, ومنها ما هو سياسي واقتصادي ومدني... والذي يعنينا بالتحديد في هذا المضمار البُعد المقاصدي الإسلامي، باعتبارات ثلاثة:

1-         باعتبار كونه شأنا معرفيا وموضوعيا, يُعنى بالغايات الإسلامية, والأهداف والأسرار التي يريدها الشرع مستصحبة في الفهم والتطبيق وفي الواقع والحياة، ومن ذلك:

-           عبادة الخالق وما يتضمنه ذلك من تقرير الحرية الإنسانية وكرامة البشر جميعا بموجب عقيدة التوحيد الإسلامي, التي تنفي عن الله الشريك والنظير، والتي تجعل الناس كلهم متساوين لا فضل لأحدهم على الآخر لا بالعرق ولا بالجنس وباللون إلا بالتقوى والعمل الصالح والأداء النافع.

-           إصلاح المخلوق وما يتضمنه ذلك من إصلاح باطنه وقلبه وفكره وسلوكه، وإقامة ذلك على الإيمان بالله تعالى والشعور بمراقبته والإحاطة به.

2-         وباعتبار كونه شأنا منهجيا يعنى بترتيب المقاصد والتنسيق بينها, وترجيح الأولى والأهم بحسب ضرورته والحاجة إليه.

3-         وباعتبار كونه شأنا مرتبطا بالواقع والحياة، ومتصلا بالتحولات والتطورات والمآلات والمنطلقات، ومتأثرا بذلك وبالاعتبارين الاثنين، وفي كله ذلك يتأسس على مرجعية الإسلامي من نصوص الشرع, وإجماعات العلماء, وقواعد الدين.

إن إحياء مقاصد الشريعة وإثراء أبحاثها وتهيئة العقول لاستيعابها بانضباط واتزان -سوف تكون وعاء كبيرا وميدانا فسيحا لحدوث النهوض العربي والإسلامي في نواحيه المختلفة: السياسية, والاجتماعية, والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والبيئية والإدارية والقضائية والقانونية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) قال الشاطبي: "إن الأعمال بالنيات، وإن المقاصدَ معتبرة في التصرفات، من العبادات والعادات". الموافقات، ت، مشهور، 3/7. وقال: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غيرَ ما شرعت له؛ فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل". الموافقات، ت، مشهور، 3/27، 28.

2) قال الشاطبي: "فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين". الموافقات، ط، دار المعرفة، 1/324.

3) عرفها الشاطبي بقوله: "ما يُفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة". الموافقات، 2/10-11.

4) عرفها الشاطبي بقوله: أما التحسينيات فهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق". الموافقات، 2/10. وعرفها الجويني بقوله: "الضرب الثالث: ما لا يتعلق به ضرورة خاصة ولا حاجة عامة؛ ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو نفي نقيض لها، ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث". البرهان، 2/924-925.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/74

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك