النظام القيمي في الدين والمجتمع

عبد الرحمن السالمي

 

تشير الآيات القرآنية إلى أنّ القيم التي يحملها المؤمن، والأخلاق التي ينبغي أن يتّسم بها، تصبح مسؤوليةً ورسالةً وأمانة تقتضي الوفاء والصبر: ﴿ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يُلقاّها إلاّ الذين صبروا وما يُلقاّها إلا ذو حظٍ عظيم﴾ ولذا فالمؤمن حاملُ رسالة الدعوة إلى الله بالعمل الصالح؛ أي بأن يتخذ من نفسه نموذجاً، هو نموذج المسلم الحق. وهذا النموذج يجب عليه التحُّمل وينبغي أن يتحلى بالصبر؛ لأن طريقه كله مُعاناةٌ ومجاهدة؛ فالذين يصبرون ويجاهدون في سبيل الله والبشرية هم أصحاب الحظ العظيم، نتيجة الأمور الثلاثة معاً: الإيمان, والعمل الصالح، والصبر على المكاره طلباً للأجر، واحتساباً عند الله. إنما ما هي هذه الدعوة التي يحملها المؤمن، وتُنتج العمل الصالح للبشرية، الذي يُصبحُ سمةً للمسلمين وشعاراً لهم؟ إنها قيم المساواة والرحمة والكرامة والعدل والتعارُف والخير العاّم، وهي جميعاً قيمُ قرآنية؛ بمعنى أنها وردت عشرات المرات؛ بل ورد بعضها مئات المرات في القرآن (مثل المساواة, والخير العام). وقد استقرت هذه القيم وتغلغلت في نفوس المؤْمنين وتصرفاتهم عدة أجيالٍ, فكانت في أساس تبلْوُر أمة الإسلام والمسلمين. وتشير التجربة التاريخية للمسلمين مع النصّ إلى أنّ كثيرين تساءلوا عن تخلُّف العمل الصالح عن الإيمان؛ وذلك من خلال مبحث مرتكب الكبيرة. فالمؤمن الصادق لا يرتكب محرَّم كسفْك الدم أو استباحة الأعراض والأموال؛ بيد أن ذلك وقع في عصر الصحابة، وبعض الذين ارتكبوا ذلك كانوا معروفين بالإيمان العميق، وتقصُّد السلوك الطيّب، والعمل الخيَّر؛ فكيف نفهمُ تخلُّف العمل الصالح عن الإيمان؟ وعلى ذلك أجابت السيدة عائشة أُمّ المؤمنين في حديثها عن أخلاق رسول الله صلوات الله وسلامُهُ عليه حين قالت: كان خُلُقُهُ القرآن. أي أنه عليه الصلاةُ والسلام استظهر في تفكيره وتصرفاته القيم القرآنية السالفة الذكر، وهي لا تحولُ دون الخطأ الإنساني؛ لكنها تحول بالتأكيد دون ارتكاب المحرَّم الذي عدَّه القرآن حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر. فقيمة المساواة تستقر في خَلَد المسلم بما ذكره القرآن من وحدةٍ في أصل الخلق، وأن البشر جميعاً كنفسٍ واحدةٍ أمام الله في القيمة والعمل والثواب والعقاب. وهكذا فإنّ اعتقاد التساوي يُذهب رذيلة الكِبْر، كما يُذهب رذيلة اعتقاد الأفضلية. وقيمة الكرامة تضعُ على عاتق المؤمن فضيلة العهدين: عهد ألسْتُ بربّكم، وعهد: ولقد كرَّمْنا بني آدم؛ أي عهد الاعتراف والمعرفة، وعهد الاستخلاف والمسؤولية. وهاتان كرامتان من الله -عزَّ وجلَّ- تحدث عنهما القرآن باعتبارهما الأمانة التي تميز بها الإنسان على سائر الكائنات أو المخلوقات. وانطلاقا من المساواة والكرامة، تأتي قيمة الرحمة، وهي صفةٌ ساميةٌ من صفات الله -عزَّ وجلَّ- تجاه مخلوقاته، وقد أعطاهم نصيباً منها فصارت قيمةً وخُلُقاً في الوقت نفسه؛ وذلك لأنها نظرةٌ ورؤيةٌ من جهة، وتصرفٌ وخُلُقٌ من جهةٍ ثانية فقد قال تعالى: ﴿كتب على نفسه الرحمة﴾، وقال: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾، وسمَّى نفسه: ﴿الرحمن الرحيم﴾, وقال متحدثاً عن النبي ورسالته: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾, ثم قال للإنسان في توصيته بوالديه: ﴿واخفض لهما جناح الذُلّ من الرحمة﴾. وبذلك تكتمل الدائرةُ بين الربّ وسائر بني البشر؛ دلالة ذلك كما جاء في الأثر النبوي فإنّ الراحمين يرحمهم الله تعالى؛ بيد أنّ الرحمة والكرامة معاً تقتضيان العدل، ليس بوصفه سمةً قضائية وحسْب؛ بل وبالتسديد في النظرة والإنصاف فيها وفي الفعل. والعدل بهذا المعنى هو توازُنٌ دقيقٌ يدفع إليه الإيمان والرحمة والإنصاف، فيكون المؤمن عادلاً ومنصفاً في نظرته وفعله ومجتمعه وحاكمه. ثم إنّ هذه القيم كُلها إنما تُمارس تجاه الآخرين, وهذا معنى التعارف الذي يتضمن معنى المفاعلة أو الحِراك باتجاه الآخر المختلف. وبهذا الحراك المستند إلى الكرامة والرحمة يصبح الاختلاف داعية تعارُفٍ وتلاقٍ, وليس داعية تفرقة وانفصام. فالتنوع في القرآن الكريم داعية وحدةٍ وتكامُلٍ، وليس العكس؛ ثم يأتي نداءُ القرآن الدائم لممارسة الخير العامّ، والتحلي بالصبر، وانتظار الأجر من الله.

 

وإذا كان النظام القيمي القرآني قد شكلَّ أو كان الدافع في تشكل منظومة القيم الاجتماعية في الإسلام -والتي صارت أخلاقاً اجتماعية- فإنّ التجربة التاريخية تشير مرةً أُخرى إلى ظهور تلك القيم على مستوى الثقافة والجدل الكلامي. فقد ركّزت اتجاهاتٌ كلاميةٌ على قيمة العدل؛ بينما ركّزت اتجاهاتُ أخرى على قيمة العناية والرحمة. وبذا فقد بدا أحياناً بسبب النقاش والجدال الحادّ أن هاتين القيمتين متقاطعتان؛ لكنهما ما لبثتا أن تلاقتا من جديد لدى الفقهاء والأصوليين الذين طوَّروا نظرية الضرورات أو المقاصد الشرعية أو حقوق الإنسان: حق النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسْل، وحقّ المِلْك, ويضاف إليها كذلك حق الحرية، ولو تأملنا هذه الخُماسية/السداسية لوجدنا أنها تصل المساواة بالكرامة وبالعدل والرحمة، وبذا؛ فالذي يبقى من مقتضيات المنظومة القيمية القرآنية أمران اثنان: ما طالبنا به الله -عزَّ وجلَّ- من الصبر، وما وعَدنا به -نحن المحتسبين- من حظٍ عظيم. إنما ما معنى طلب الصبر في هذا السياق؟ إن الدعوة إلى الله التي تتحدث عنها الآية تقتضي أمرين: الإيمان ومنظومة القيم من جهة، والصبر على البلاء وحين البأس من جهةٍ ثانية. ذلك أنّ في تَحَمُّل الدعوة وتبليغها مشقة كبرى وبالغة، وقد يصرف ذلك غير ذوي العزيمة عن المتابعة دون أن يعني ذلك تشكُّكا في الدين، بل في جدوى الدعوة لهؤلاء القوم. والقرآن يطلب من أهل الدعوة أن يصرُّوا على الصبر وعدم اليأس وعلى المتابعة. ثم إن الدعوة قد لا تحصل على استجابة؛ بل قد يكون أيضا من ورائها اضطهادٌ بسب الثبات عند المبدأ. وهكذا يكون الصبر هنا ثباتاً على المبادئ، كما يكون تحُملاً لعبء دعوة الآخرين وإن لم يستجيبوا. فالتوفيق في الدعوة يكون نتيجة الصبر للجهتين: لجهة المبادرة إلى دعوة الآخرين، ولجهة تحُّمل التبعة والصمود في الدعوة وعليها.

 

إذا كان المؤمن صبوراً إذن فإنه يفوز، ثم إنه يكون صاحب حظً عظيم، والحظُّ العظيمُ هذا يكون في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا تفوزُ الدعوة، وفي الآخرة هناك الأجر, والذي بمقتضاه يسعد المؤمن؛ لأنه أدى واجبه وصبر عليه فاكتملت لديه المنظومة القيمية الإسلامية حينما حقّق إيمانه بالعمل الصالح، واستخدم العمل الصالح لخير المسلمين وللإسلام والعالم.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/73

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك