نهاية التوفيق .. بداية التركيب

عصام عبدالله

 

في عام 2007 – قبل زلزال الربيع العربي 2011 وتوابعه الكارثية – كتب (ديفيد فرومكين) في كتابه الأشهر (سلام ينهي كل سلام) : «إن الشرق الأوسط يحتوي على أعراق وديانات وثقافات وطوائف متعددة، وكانت فكرة (سايكس - بيكو) عام 1916  تهدف في العمق إلى جعل دول المنطقة - بعد تخليصها من الإمبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية – دولاً حديثة بمعنى الكلمة، أي أن ينخرط كل هذا التنوع والتعدد والثراء في الحداثة السياسية؛ لكن التجربة أثبتت أن الشرق الأوسط ليس من هذا النوع.. الشرق الأوسط لا مستقبل له».

ما الذي حدث؟ وكيف؟.. هل ستختلف الصيغ الفكرية التي صاحبت ظهور الدولة إلى (شبه الدولة) في الشرق الأوسط الجديد؟

يقول الفيلسوف هيجل: «إن أفضل وعي يمكن أن نكونه عن عصر ما، هو وعي فلاسفة هذا العصر».. لذلك فإن ما سأقوم به في هذا المقال هو تقديم وجهات نظر بعض المفكرين العرب حول هذا العصر، وأمرر الخيط بين حبات اللؤلؤ وشذرات الفكر على امتداد القرن (1914 – 2014).

الهوية والتاريخ والغرب

كانت (اليقظة العربية) كما يقول هشام شرابي في كتابه (البنية البطركية.. بحث في المجتمع العربي المعاصر)، «صراعاً ثقافياً واجتماعياً بين نظرتين: العلمانية التي اتخذت الحضارة الغربية نموذجاً لها ضمنياً أو صريحاً. والأصولية الدينية، التي تمسكت بالإسلام بوصفه مصدر الشرعية والإلهام». وهكذا فإن الحركة العلمانية المعبر عنها في الأيديولوجيات الليبرالية والقومية والاشتراكية، والحركة الأصولية المرتكزة على عناصر الإسلام الإصلاحية والمحافظة والمتسيسة، قد قدمت لليقظة العربية (نظامي الحقيقة) الأساسيين اللذين سيطرا على المراحل التالية للمجتمع البطركي الحديث. والواقع أنه لا الحركة العلمانية ولا الحركة الإسلامية نجحت في إنشاء مقال نقدي أو تحليلي بالمعنى الصحيح، مقال يقدم حلاً واضحاً وفعلياً لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب.

ويستطرد شرابي «إن التيار الإسلامي سواء في شكله الإصلاحي أو شكليه المحافظ والمسيس، قد نظر إلى التاريخ والغرب من زاوية أيديولوجية، ولم ير في الماضي سوى تجسيد لحقيقة الإسلام وعصره الذهبي، كما أنه لم ير في الغرب سوى نفي لذلك (...) أما المقال العلماني المبني أيضاً على موقف أيديولوجي، لكن المقرون بالقومية والليبرالية والاشتراكية و(العلم) بدلاً من (الدين) كمرتكز أساس، فقد نظر إلى الماضي على أنه قيمة تتضمن الهوية والقوة (تفوق التراث القومي)، وهما شرطان مسبقان للتعامل مع الغرب مع شعور بالإعجاب به والخوف منه في آن (تبدو الأيديولوجية العلمانية هنا بديلاً رمزياً للغرب). وهكذا فإن البحث عن الهوية أو تأكيدها، بشكليها العلماني والديني، قد حدث في حيز سياسي وثقافي نظر فيه إلى التاريخ والغرب بوصفهما قطبين متداخلين ومتناقضين، كما أن كلاً من الجانبين سعى إلى الارتكاز على قطبه لتوكيد ذاته وإيجاد أساس لهويته في الإسلام أو في العروبة» (ص – 24 و25).

التوفيقية والتلفيقية والتشرقية

لكن يبدو أنه كانت هناك محاولات جادة للتوفيق بين المقالين أو التيارين الرئيسين أبرزها محاولة الإمام (محمد عبده)، ففي كتابه (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية) عام 1902، يقول : «ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدانياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كل القبيلين بنصيب، ثم لم يكن من أصوله (أن يدع ما لقيصر لقيصر) بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذه على يده في عمله». (ط3  دار الهلال 1959، ص – 95 ).

وتستطيع عزيزي القارئ أن ترصد التحولات الفكرية الرئيسة في الشرق الأوسط عبر قرن كامل في ضوء هذه العبارة سالفة الذكر، وأن ترد (الوسطية) في الفكر العربي - الإسلامي الحديث، فضلاً عن معظم المفاهيم المرتبطة بها مثل : (التعادلية) و(الاتزان) وغيرها من المفاهيم إلى ما قرره الإمام في كتابه هذا، فقد كانت الصيغ الفكرية المطروحة منذ نهاية القرن التاسع عشر - والتي تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914 - تتمثل عملياً في صيغتين أساسيتين : الأولى عرفت بـ(الصيغة التوفيقة) ودشنها محمد عبده.. الإسلام والغرب أو الأصالة والمعاصرة، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للصيغة الأولى وتبناها تلاميذ الإمام على اختلاف توجهاتهم الفكرية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهي صيغة (إما .... أو )... إما الإسلام أو العلمانية حسب تعبير (هشام شرابي). وأهم كتاب عبر عن هاتين الصيغتين رصداً وتحليلاً هو: (الفكر العربي وصراع الأضداد) للصديق الدكتور محمد جابر الأنصاري، يقول: «إن التوفيقية في التحليل الأخير لم تكن توفيقاً متوازناً أو متكافئاً بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها، انحيازاً وترجيحاً لطرف على حساب الطرف الآخر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع توفيقي ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامناً داخل الصيغة التوفيقية، حتى حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة».

أما (ألبرت حوراني) فقد حلل نفسياً واجتماعياً هذه المعضلة الفكرية (التلفيقية) في العالم العربي منذ ميلاد الشرق الأوسط الجديد – وربما حتى اليوم – فيما أسماه بـ(التشرقية) وهي بكلمة واحدة : (انعدام الأصالة)، فالفرد التشرقي هو الذي «يعيش في الوقت نفسه في عالمين أو أكثر من دون أن ينتمي إلى أي منهما، وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية التي تشير إلى تملك جنسية معينة أو دين معين أو ثقافة معينة من دون أن يملكها بالفعل».

ويستطرد (حوراني): «وهو الفرد الذي لم تعدله قيمه الخاصة ولم يعد قادراً على الخلق بل على (المحاكاة) فحسب، وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضاً تقتضي نوعاً من الأصالة. إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به».

التيقنات الخيالية وموت الحداثة

ما حدث في بواكير النهضة العربية وحتى السبعينات من القرن العشرين – كما يقول (الأنصاري) في كتابه الرائد - كان (تلفيقاً) وليس (توفيقاً)، مما أدى في النهاية إلى حالة الانشطار الحاد التي نعيشها اليوم، بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع (العلماني) الليبرالي.

 

اللافت للنظر هو أن معظم أعلام النهضة والتنوير (أنصار المشروع العلماني) لم يكونوا أصلاء تماماً – بالمعنى الحوراني – وكما يقول هشام شرابي في كتابه سالف الذكر ذلك «أن الخاصية الرئيسة للوعي المحدث هي نزعته إلى تحويل النماذج إلى أصنام: وهذا اتجاه نلاحظه من خلال الطريقة التي يتم بها تلقف العلم واللباس والإنتاج الفني وحتى النظريات السياسية كنماذج مرشدة، ويتصف هذا الوعي المنمذج بنزعتين مترابطتين ومتعاضدتين هما المحاكاة والامتثال، وهكذا تثبت الأفكار والأعمال والقيم والمؤسسات أو تنقض، لا اعتماداً على نهج نقدي مستقل بل اعتماداً على نموذج خارجي باستمرار».

هذه النقطة عالجها بمهارة أمين معلوف وهو يدعونا إلى فهم أعمق لإشكالية الدين وتداخله مع النضال السياسي – بدلاً من تلبيس مجتمعاتنا نظريات سياسية غربية وغريبة على واقعنا - وذلك في كتابه (اختلال العالم) لا سيما الفصل المعنون بـ(التيقنات الخيالية)، حيث يشير معلوف إلى أن «غلبة الإسلام السياسي جاءت على حساب القومية والماركسية (والعلمانية عموماً) التي طبعت معظم القرن العشرين، فالإسلام السياسي لم يهزم كلاً من القومية العربية والماركسية فقط وإنما استملكهما. وهو أمر ليس خاصاً بالعالم العربي في الشرق الأوسط وإنما يمتد إلى الشرق الأقصى أيضاً، فما قام به (سوكارنو) في أندونيسيا، حين جمع مفردات القومية والإسلام والشيوعية، وهو ما يعرف باللغة المحلية (مبدأ نازاكوم)، هذا الدمج التعسفي (التلفيقي) ما هو إلا لصق مصطنع ما لبث أن تفكك.. فالقومية لم تنجح في أي مكان في العالم الإسلامي في استيعاب الدين ولكن الدين استوعبها لاحقاً.

إن نجاح حركات الإسلام السياسي – كما يقول - على امتداد الشرق الأوسط الكبير ومنذ السبعينات من القرن العشرين في اجتذاب الكثيرين من خلال الشعارات الدينية البراقة كرست ذهنياً فكرة جوهرية مفادها: أن تحقيق العدل الاجتماعي مرهون بوصولها إلى كرسي الحكم، ما يعني أن مضمون الإيمان لا يتحقق كامل معناه ومبناه إلا في ممارسة (الفكرة) التي ترمز إليه.

وقد لاحظ باحث أمريكي معاصر هو (وولتر أمبرست) عاش سنوات طويلة يرصد سلوك المصريين؛ أن (الحداثة) بالمفهوم الغربي قد ماتت في مصر، وهو ما دونه في كتابه : (الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر) عام 2000، يقول : «لقد أصبح المصريون أكثر تديناً زائفاً ولا يمكن العثور على (الحداثة) لأن مصر لم تزل في مرحلة العصور الوسطى، والمفارقة هنا أن (خطاب الحداثة) بمعنى قطع كل الصلات بالماضي والاعتماد على العقل والتفكير العلمي النقدي، يدور داخل حلقات المثقفين الضيقة وكتاباتهم حول (المفهوم الغربي للحداثة) بينما ظل الجمهور الواسع العريض الذي يجب (تحديثه من خلال الثقافة) غير مستجيب وخاملاً، يرزح داخل الثقافة التقليدية بشقيها الديني والشعبي، ولأن الجماهير تشعر بالإهمال والظلم والقهر على أيدي المؤسسات الرسمية والحكومات المتعاقبة فهي تلجأ إلى التدين الزائف أو ترديد الأغاني الهابطة التي يستنكرها نمط الذين يسيطرون على تلك المؤسسات».

الكونفدرالية والتركيب

بعد مئة عام على الحرب العالمية الأولى (1914 – 2014) وسقوط المعادلة (التوفيقية) أو (التلفيقية) – على مستوى الفكر– يتم تفكيك كل شيء في الشرق الأوسط بدءاً من الدول لتصبح (شبه دول) لا تملك السيطرة أو السيادة على كامل ترابها وحدودها الوطنية،  وحتى الأطروحات الفكرية الرئيسة. على مستوى الجغرافيا يجري التقسيم الناعم على قدم وساق فيما يشبه (سايكس – بيكو) جديد أو شرق أوسط جديد، وعلى مستوى (الديموغرافيا) يتكفل الصراع الدموي الطائفي والعرقي برسم خرائط  لـ(كانتونات) طائفية وعرقية يجمعها إطار إقليمي (كونفدرالي) في المستقبل وتصفى في النهاية فكرة (الدولة القومية) أو بالأحرى نزعة (القومية العربية)، وهي لحظة من أخطر لحظات التحدي السياسي والفكري الذي يواجهنا اليوم، وتشترط ممارسة (النقد المزدوج) حسب تعبير (عبدالكبير الخطيبي): نقد الذات ونقد الآخر.

والنقد المزدوج هو السبيل إلى (التركيب) و(الإبداع) و(الأصالة) و(التفرد) في القرن الحادي والعشرين، فقد سقطت المعادلة  (التوفيقة)  إلي غير رجعة بعد مئة عام من عمر الشرق الأوسط الحديث، وليس أمامنا إلا (التركيب) الخلاق الذي يتجاوز الثنائيات المزعومة إلى شيء ثالث جديد.

نحن أمام مفترق طرق شديد الالتباس والغموض وهو إما أن نجتر أخطاء الماضي بحذافيره – ونضيع قرناً آخر – لاسيما أن علامات الطريق القديم لم تعد هي نفسها العلامات الإرشادية للقرن الحادي والعشرين، وبالتالي نصبح خارج التاريخ والجغرافيا، أو نستفيد من الفرصة الذهبية السانحة لنا الآن ونساهم في صياغة المستقبل، إذ أن (تشاؤم العقل لا يقابله إلا تفاؤل الإرادة) كما قال (أنطونيو جرامشي).

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=3657&Archive...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك