التقارب والوئام الإنساني

عبدالله بن محمَّد السالمي

 

ما فتئت الدول والمؤسّسات خلال العقدين الأخيرين تنشئ وتقيم ما يعنى بحوار الحضارات أو ائتلافها، وحوار الأديان والثقافات أو الكلمة السواء، ولكل من الأساتذة الحضور اليوم مسعى يدخل في السياق ذاته، فماذا يعني هذا؟ لا يمكن أن يكون هذا النشاط عبثيا أو فضولا؛ بل إنه يدل على وجود مشكلة يسعى ذوو الإرادات الحسنة في العالم للبحث عن حل لها، مع إدراكنا لكثرة مشكلات العالم، ولكل منها مؤتمرات وندوات تعالج ظواهرها وتركز على حلول لها، ومن المهم التأكيد هنا على أن الحوار الثقافي أو الحوار الحضاري أو حوار الثقافات والحضارات يُعنى في مضامينه بعلاقات المسلمين المضطربة بالعالم المعاصر. فالثقافة في نظر علماء الأنثروبولوجيا وبعض الاستراتيجيين تتضمن الدين أيضا، أو أنه عنصر محوري فيها، ولا أريد العود إلى أسباب نشوء الاضطراب أو الصراع، فقد كتب عنها الكثيرون، وللأستاذ أسبوزيتو الحاضر معنا اليوم أكثر من كتاب في ذلك، وما دام ثمة إصرار على تأصيل هذا النزاع ووضعه في خانة الثقافة؛ فإن معنى ذلك أنه متصل بالمصطلح الفلسفي المعروف باسم: "رؤية العالم". فهناك من يذهب إلى أن أساس التنافر الحاصل هو أن رؤية المسلمين لأنفسهم وللعالم من حولهم لا تتلاءم مع قيم الحضارة العالمية السائدة ومعطياتها.

 

وفي العالم كما هو معروف ديانات كثيرة كبرى وصغرى، وثقافات لا حصر لها، ولا ينكر أحد أن هنالك تنافرًا بين الحضارة الغربية وبعض الأديان والثقافات ناجمة عن السطوة على تلك الثقافات باسم الدين في السابق وباسم الإمبريالية لاحقا. والملاحظ أن كل هذا التنافر لا يصل إلى أن يكون مشكلة عالمية تُعقد لها المؤتمرات والندوات مثلما هو الحال في العلائق مع المسلمين والإسلام، ومرد ذلك بالدرجة الأولى إلى ضخامة أعداد المسلمين فهم خمس سكان العالم، وإلى إصرار أعداد منهم -في مواطنهم الأصلية وفي المهاجر- على التمسك بخصوصيات دينية وثقافية, يراها الآخرون منافية لتقاليدهم وقيمهم وقوانينهم، وأخيرا إلى ممارسة فئات منهم العنف ضد الآخرين باسم الإسلام.

 

إزاء ذلك، انقسم الجو العالمي والاستراتيجي إلى قسمين: قسم قال بصراع الحضارات؛ أي أن الإسلام من طبيعته يعادي الأديان والثقافات والأمم الأخرى، ولذلك ينبغي التصدي له بالقوة، وهو ما حصل في العقد الأخير، والقسم الأكبر من الباحثين والمهتمين -ومنهم الذين نجتمع معهم اليوم- اعتنق مقولة: "حوار الحضارات والثقافات"؛ بغية الوصول إلى تعايش سلمي وتحاور ودود مع المسلمين، وفي كل الأحوال يجب إبعاد شبح العنف والإرهاب عن المجال الدولي والعلاقات بين البشر.

 

وقد اتَّخذ الحوار الثقافي والديني هذا أحد مسارين: الأول: رفع مقولة القواسم المشتركة الدينية والثقافية، وبحسب هذه المقولة فإن المسلمين يملكون من الناحية الدينية قواسم مشتركة في الاعتقاد، والممارسة، والنسب الإبراهيمي مع اليهود والنصارى، وبالتالي مع الحضارة الغربية التي تؤسس أصولها على اليونان والرومان تارة وعلى اليهودية والنصرانية تارة أخرى، أما الاشتراك الثقافي فيتمثل في التجارب الحضارية الكبرى التي تشارك فيها الغربيون والمسلمون في الأندلس وصقلية وعُمان وغيرها، والتجربة الزاخرة في بغداد, والتي نشأت فيها نهضة نتيجة الترجمة عن سائر اللغات العالمية, ومن ضمنها اليونانية والسريانية والفارسية الوسيطة والهندية، وقد كان من ثمرات هذه النهضة انتقالها إلى أوروبا ونشوء شراكة حضارية بين ثقافات ثلاث هي الإسلامية والأوروبية والصينية.

 

أمَّا المسار الثاني فهو براغماتي ومركزي في الوقت نفسه؛ ذلك أن الحضارة الغربية صارت هي حضارة العالم، والقيم الكبرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها صارت عالمية، وينبغي دفع العرب والمسلمين إلى المشاركة فيها والتخلي عن التقليد الجامد وعن الأصولية العنيفة؛ لأن في ذلك مصلحة لهم في عصر العولمة هذا؛ إذ التركيز على الخصوصية وصولا إلى العنف إنما هو ردة فعل من جانب المسلمين على الفشل، وعدم النجاح في التأسيس لحياة جديدة تندمج في أزمنة التقدم.

 

وهكذا نرى أن مقاربة أصدقاء المسلمين حول حوار الحضارات تؤكد على أن التأزم في العلائق يتحمل الطرفان مسؤولياته، وعليهم أن يعملوا معا على تجاوزه بالحوار من أجل التقارب والوئام.

 

إذاً هناك دعوتان موجهتان للمسلمين من جانب ذوي النوايا الحسنة، ومن جانب أصدقائهم في العالم: الدعوة للقيم المشتركة والحوار والعيش معاً على أساس منها، والدعوة إلى الدخول في زمن العولمة وترك الجمود والغلو؛ لكي يحصل الاندماج, وتزول أسباب الإحباط وسوء الفهم. ولا أريد هنا عرض رؤية بعض التيارات الإسلامية، وحكمهم على دعوات الحوار، فالمعروف أن كثيرين من المسلمين -تقليدين أو غيرهم- استجابوا للحوار الديني والثقافي، ورأى فيه بعضهم حلا ومخرجا، كما رأى فيه بعضهم الآخر فرصة لعرض وجهة نظرهم في أسباب التنافر؛ بيد أن ذلك ما حرك الجمهور المسلم ودفعه باتجاه التحمس والسير في المسارين أو أحدهما، ويرجع ذلك إلى أمرين اثنين: الأول أن المشكلات في وعيه ليست دينية أو ثقافية أو قيمية، وإنما هي مشكلات سياسية واستراتيجية واقتصادية. والأمر الثاني الإحساس بأن الحوار لا يقدم له الكثير؛ لأنه ليس ماضيا باتجاهه؛ بل إن عليه هو أن يقطع المسافة كلها من فوق المشكلات السياسية والاستراتيجية والأخلاقية المتعلقة بالحرية والكرامة واحترام إنسانية الإنسان، وهذا هو ما عبر عنه القرآن الكريم بالتعارف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فالتعارف عملية تتضمن أمرين متلازمين يقتضي أحدهما الآخر, وهما المعرفة والاعتراف. أما الحوار الديني أو المسيحي/ الإسلامي فهو جارٍ منذ أكثر من ستة عقود، وما أفضى إلى نتائج ملموسة، واقتصر على أوساط النخب الدينية، وأما الحوار الثقافي فكان مصيره أفضل من ذلك؛ لأنه أبقى الباب مفتوحا للحوار، دون أن يفضي ذلك إلى الاعتراف.

 

إن التقارب الثقافي والإنساني حصل ويحصل بالفعل، وباب الحوار مفتوح عليه، أما حصوله فلأن التوتر الذي اتخذ الدين والثقافة لَبوسَين، هو في الأصل ذو أصول سياسية واستراتيجية واقتصادية، والعلائق في هذه المسائل ما عادت أحادية أو ثنائية بين الشرق والغرب، بدخول أطراف آسيوية ومن أمريكا اللاتينية في النظام السياسي الدولي وفي النظام الاقتصادي الدولي، ثم حدثت الأزمة المالية العالمية، وها نحن أولاء على مشارف ظهور نظام دولي تعددي في السياسة والاقتصاد، تسوده الندية، والمصالح المتبادلة، فالتعددية القطبية أسقطت الأوحديات والثنائيات، وفتحت المسرح العالمي على مشهد جديد، ما تزال فيه نواقص كثيرة؛ لكنه اليوم وغداً سيكون أقرب إلى العدالة والندية، وستشهد كثير من التجمعات الإنسانية حضورا أكبر في المشاركة والتأثير، مع تراجع التدخل الدولي، وتضاؤل العنف والعنف المضاد، ويؤول حال الناس إلى شيء من السكينة والهدوء، ونبذ الغلو والعنف باسم الدين أو غيره.

 

ولكن هل يعني هذا كلّه أن الحوار ما كان أو لم يعد ذا فائدة؟! على العكس من ذلك، إنَّه ضرورة مستمرة في الدفع نحو التقارب والتفاهم، ومن خلال حصول عمليات التعارف التي كنا نفتقد أحد طرفيها، فقد كنا نُدعى إلى حوارات تجاه ما لدى الآخر، وما يستطيع تقديمه لنا من قيم وثقافات وممارسات حضارية، ويشعر شبابنا اليوم -كما نشعر نحن- أننا نستطيع بالحوار الذي بادرنا إليه أن نصل ليس إلى المعرفة والخطاب فحسب؛ بل وإلى الاعتراف أيضا، الاعتراف الذي يتحقق بالمبادرة والمشاركة والندية، وليس بالتلقي والتلقين فحسب. وهذا الفعل الثقافي والحضاري والسياسي جعل من شبابنا وأمتنا أصحاب مبادرة، بدلا من أن نغزى بحجة نشر الديموقراطية، أو أن يقال بأن هناك استثناء عربيا وإسلاميا لهذه الجهة أو تلك. لقد دلتنا التجارب على أن أزمات العالم اليوم مرد أغلبها إلى التجرد من ثوابت الأخلاق، والعزلة عن منظومة القيم، والتساوق مع الدعوات نحو التجرد من تعاليم الأديان ومراشدها والإعراض منها، وقد سار في العرب مثلٌ: "لولا الوئام لهلك الأنام" لما في ذلك من الموافقة على العيش المشترك، والسعي نحو المصالح وإتيان الجميل من الأخلاق.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/109

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك