النص والأرض وجدليات العلائق علم الكلام الإباضي نموذجاً

أحمد الإسماعيلي

 

تعدّ القرون الثلاثة الأولى من أكثر المراحل التاريخية للفكر الإسلامي التي انفعل فيها الحراك الاجتماعي بالنص المقدس، فالمجتمع الإسلامي تفاعل كثيرا مع النص المقدس في هذه المرحلة التاريخية؛ ليعالج المتغيرات الاجتماعية والسياسية والدينية التي كان يواجهها؛ حيث تعدّ هذه المرحلة من أهم مراحل التاريخ التي وجد المسلمون فيها أنفسهم في مواجهة مباشرة مع النص دون الرجوع إلى النبي، ولأنها ثانيا تعدّ من أهم المراحل التاريخية التي تأسست فيها الحركات السياسية والفرق المذهبية ومن ثم المدارس الكلامية.

هذه المتغيرات الاجتماعية والسياسية -التي حدثت مباشرة بعد وفاة الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- دفعت المسلمين إلى إعادة قراءة النص المقدس من جديد، حيث طرحوا لأول مرة إشكالية الخلافة التي لم تجد لها مرجعية واضحة، لا في النص القرآني ولا في الفترة الزمنية التي عاشها النبي -صلَّى الله عليه وسلم-، بحيث أصبحت إشكالية الإمامة الخطوة الأولى التي وجد فيها المسلمون أنفسهم دون اتصال مباشر مع الوحي في فهم الإسلام، كما وجدوا أنفسهم مباشرة أمام فهم معاني النص القرآني.

هناك إذن تحول هام حدث بعد وفاة الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-، وهو أن تلك النصوص المقدسة -المستمدة من النبي -صلَّى الله عليه وسلم- كمرجعية أساسية وحيدة متصلة بالوحي- لم تعد قادرة بعد وفاته على فرض سيطرتها على كافة الإشكاليات الاجتماعية والسياسية، إما بسبب عمومية النص القرآني -الذي يعدّ المرجعية الوحيدة القادرة على فصل الصراعات البشرية والمتغيرات الاجتماعية- وإما بسبب عدم وجود نص مقدس يعالج المشكلات الطارئة على المجتمع الإسلامي، ولهذا السبب لجأ المسلمون إلى فهم الممارسات النبوية التي كان يفعلها النبي في حياته -وهو ما عرف بعد ذلك باسم "علم الحديث"- ليكون مرجعية نصية أخرى تضاف إلى القرآن لفهم المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تحدث للمسلمين.

إن "النص المقدس" أصبح -بعد وفاة الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-- مفككا بين عقليات متعددة أفرزها الظرف التاريخي الذي كان يعيش فيه المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري، ومن هنا نشأ المشكل التاريخي: كيف نفهم النص القرآني؟ إن هذه الإشكالية تَبْرز بصورة واضحة في الحدث التاريخي المتعلق بالفتنة الكبرى، التي أسست مسرحا من الأحداث التاريخية الكبرى في القرن الأول الهجري وما بعده، حيث حاول المسلمون علاج إشكاليات الفتنة الكبرى بتأويل النص المقدس، ومحاولة تطبيقه بالقوة على المتغيرات الاجتماعية والسياسية، تؤسسها تلك المناظرات الدينية التي حدثت بين ابن عباس والإمام علي من ناحية والخوارج من ناحية أخرى.

فبعد وفاة النبي -صلَّى الله عليه وسلم- بدأت بعدها مرجعيات أخرى متعددة ومختلفة ومتناقضة أحيانا، تنتمي كلها إلى المجتمع المادي- الأرضي- تحاول أن تفهم النص المقدس بطرق مختلفة ومتعددة، وكل هذه المرجعيات المتعددة كانت تخضع لسياق اجتماعي وسياسي مرتبط بظرفه التاريخي. بمعنى آخر، أن محمَّدا الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- لم يكن سوى رمز أو واسطة تنتقل من خلالها المبادئ السماوية إلى الأرض، فهو رمز يمثل فكر السماء؛ بينما أصبحت المرجعيات الفاعلة في قراءة النص الديني - بعد وفاته- مرتبطة بالأرض أكثر من ارتباطها بالسماء؛ أي أنها تمثل جزءا من الصراع الاجتماعي السياسي الذي يحدث في الأرض.

فترة الوحي:

انقطاع الوحي وموت النبي (نهاية الاتصال المباشر بين السماء والأرض)

في هذه اللحظة التاريخية وفي عمق الصراعات الاجتماعية السياسية بدأ النص المقدس ينزل إلى الأرض بقوة؛ ليصبح واحدا من الأجزاء الفاعلة في المسرح الاجتماعي والسياسي؛ أي أنه لم يعد هو ذاك الذي يفصل في المتغيرات الاجتماعية كما كان يحدث في زمن الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- الرمز المتصل بالسماء - بل أصبح بنفسه أحد أجزاء المعادلة الاجتماعية، ومن هنا نشأت فكرة (التأويل) كمحاولة لاستنطاق النص بما يتناسب مع اللحظة الزمنية والحدث الاجتماعي السياسي. إن فكرة "التأويل" نشأت عن اصطدام الفعل البشري بالنص المقدس، فأصبح المسلمون يعودون إلى النص لإسقاطه في الأحداث اللحظية التي أنتجها الصراع البشري سياسيا واجتماعيا، فالتأويل عبارة عن تفريغ المعاني التي يحملها النص وإسقاطها في المتغيرات المادية التي نسميها اليوم بالأحداث التاريخية، مما نتج عنها بعد ذلك النظريات الكلامية التي أسهمت في بناء منظومة الحركات السياسية والمدارس الكلامية، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن معادلة الصراع اللاهوتي أصبحت كالتالي:

صدام السماء بالأرض:

إن فهم المسلمين للنص المقدس في المسائل اللاهوتية تأثر مباشرة بالظرف التاريخي الذي نشأت فيه، فلم يكن فهمهم للنص بريئًا من الصراعات السياسية والدينية التي كانت تعيشها المدارس الكلامية، ينبغي إذن أن نقرأ منظومة العلم الكلامي باعتبارها مسائل أنتجها العقل اللاهوتي أثناء انفعال الحدث الاجتماعي السياسي بالنص المقدس؛ أي أنها بشرية خرجت من الأرض، وليست سماوية.

هناك إذن سياقات تاريخية ثلاث أسهمت في رسم محددات اللاهوت الإسلامي، أولها الشروط الموضوعية التي أطرت الزمان والمكان الذي نزل فيه النص من السماء إلى الأرض، ومن ثم السياقات التاريخية الاجتماعية والسياسية التي أفرزت الممارسات النبوية للنص في مرحلة الرسالة، وهناك الشرط التاريخي الذي أنتج جميع الإشكالات الكلامية أثناء المرحلة التاريخية التي راجت فيها الحرب المقدسة باسم الله بين المسلمين أنفسهم؛ لأن الفاعل الحقيقي في هذه المرحلة هي التناقضات الأرضية المتصلة بعمق الاضطرابات السياسية، فمثالية النص لم تجد لها مساحة واسعة لتقضي على اضطرابات الأرض والإنسان.

لجأت المدارس الكلامية إذن إلى لغة العنف لبناء منظومتها الكلامية، وكان واضحا جدا في مسألة خلق القرآن؛ بل قبل ذلك في منتصف القرن الأول الهجري؛ حيث الجدل الكلامي حول ماهية المؤمن والمراتب اللاهوتية التي تسيجه بسياجها؛ مؤمن مرة وفاسق أخرى، مسلم تارة وكافر أخرى، زنديق مرة وتقي أخرى. إن مرتكزات الصراع الديني في منظومة علم الكلام هو إما نتاج خلط بين العقيدة الجدلية كمنتج بشري والوحي كرمز سماوي، أي بين الرمز (الوحي) أو العلامة (النص) والكائن الأرضي (الإنسان)، أو نتاج خلط بين السياسي والديني كمقاربة بنيوية؛ أي بين الوقائع البشرية -كحدث اجتماعي/ سياسي أسهم كثيرا في ظهور الإشكاليات الكلامية- وبين النص المقدس كرمز سماوي قبل حراكه الأرضي.

إن دراسة علم الكلام بعيدا عن فهم السياق التاريخي الذي نشأ فيه يعدّ عملا قاصرًا في الوقت المعاصر؛ لأن المتغيرات السياسية والاجتماعية والدينية التي حدثت في القرون الثلاثة الأولى كان لها دور كبير في إعادة فهم النص المقدس من جديد، كما كان لها دور كبير في تشكل المسائل الكلامية. إن علم الكلام ليس مادة حسابية تعتمد فقط على علم المنطق والبرهان الجدلي في الوصول إلى النتائج، كما أن النص المقدس لم يكن الطرف الوحيد في تأسيس المشكل الكلامي؛ وإنما هو علم كان يغلي في مستنقع الصراعات الاجتماعية والسياسية التي يمر بها المجتمع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى، وهي القرون التي أسست علم الكلام، فلا بد إذن من فهم الظرف التاريخي الذي نشأ فيه حتَّى نتمكن من فهم أسس التفكير العقلي عند المتكلمين.

المشكل الكلامي ومسائله:

من الصعوبة أن نعطي تحديدا زمنيا لبداية علم الكلام في الإسلام، فهو إنْ بدأ بصورة عميقة في القرن الثالث الهجري فإنه بلا شك كان امتدادا لمسائل اجتماعية وسياسية ظهرت في القرن الأول الهجري، بداية من مسألة الإمامة ومن ثم ظهور الحدث التاريخي المتعلق بالفتنة الكبرى، التي أسست بعدها بسنوات محدودة مشكل الدائرة الإيمانية ودرجات الكائن الإنساني لتشغل حيزا هاما في الواقع الاجتماعي لدى المسلمين كما نظَّر لها الخوارج، وهي تلك المتعلقة بحقيقة الإسلام والإيمان أي ما الإسلام؟ من هو المسلم؟ هذه الإشكاليات أصبحت فيما بعد مادة جوهرية لعلم الكلام تقوم على توصيف الكائن الإنساني بشكل عام والكائن المسلم بشكل خاص، ثم أفرزت هذه التقسيمات إشكاليات أخرى منها مسألة الولاية والبراءة؛ التي وُظفت أولا بشكل عميق اجتماعيا وسياسيا داخل المجتمع المسلم لتحديد تقاطيع الدائرة التي يعيش فيها المسلمون إيمانيا، واستخدمت ثانيا كعقاب دنيوي تمارسه الكائنات الدينية في الأرض لإعطاء شرعية سماوية لتصنيفات دينية تلصق بالكائن الإنساني المجرد من الأدلجة، وكذلك لحماية ذاتها التاريخية/السياسية من الضياع.

إن الدائرة الكلامية في هذه اللحظة التاريخية كانت متصلة اتصالا مباشرا باضطرابات الأرض، وخاضعة لشروطها الموضوعية، فلم تكن فكرة "الله" حاضرة في العلم اللاهوتي، حيث كانت الحرب المقدسة باسم الله بين المسلمين أنفسهم -معركة الجمل، صفين، النهروان- ولذلك كانت المعادلة الكلامية تقع ضمن إطارها الأرضي، ولم تنتقل بعد إلى دائرة السماء(نظريَّة الذرة، الله، جدلية الذات والصفات..)، فجدلية الذات الإلهية تحتل موقعا ضئيلا في مساحة العقل الكلامي المنشغل في تلك الفترة - بسبب الغليان السياسي- بمراتبية الكائن الإنساني كالصورة التالية:

إذن، إن كافة مسائل علم الكلام لا تخرج عن سياقين:

1-         سياق فلسفي تندرج فيه الإشكاليات الكلامية المتعلقة بالميتافيزيقيا كطبيعة الذات وحقيقة تلك الماهية، أو إشكاليات كلامية استعيرت من ثقافات قديمة كمسائل علم الذرة، وهي إشكاليات متأخرة ظهرت عند المسلمين في القرن الثالث الهجري تقريبا.

2-         سياق معرفي مرتبط بالإطار الاجتماعي السياسي الذي يتحرك فيه علم الكلام، وذلك من أجل فهم المراتب الدينية للكائنات البشرية، أو بشكل أكثر وضوحا من أجل فهم مراتب الألوهية داخل الكائن الإنساني بصفته كائنا دينيا تارة وأرضيا تارة أخرى، كائنا مؤمنا مرة وكافرا مرة أخرى، كائنا تقيا مرة وزنديقا أخرى. إن معظم هذه المسائل الكلامية أثارها الحراك الاجتماعي/السياسي في القرون الأولى للإسلام والصراعات المادية بين المسلمين، وهي مسائل أثيرت تاريخيا في القرن الأول الهجري. هذه الإشكاليات كانت لها مرجعية مفاهيمية في النص المقدس بشكل أكثر وضوحا عن المسائل الفلسفية السابقة؛ بحيث أصبحت تشكل وترسم صورة كاريكاتورية لكل مدرسة كلامية عن الأخرى؛ أي أن هذه المسائل هي التي التصقت في ذاكرة التاريخ كصورة عن هذه المدرسة أو تلك؛ لأنها بكل بساطة كانت تناقش المسائل التي يتحرك فيها المجتمع؛ أي ارتبطت بالمجتمع وانفعلت معه، كمسائل الغيب والإمامة وكافة المسائل الكلامية/النصية التي وضعت لتحدد صفة الكائن الإنساني، كافرا، مسلما، زنديقا، منافقا...وغيرها.

لا يهمنا كثيرا تعريف علم الكلام بقدر ما يهمنا تحديد الدائرة الكلامية؛ أي ما طبيعة المشكل الكلامي؟ ما الإطار المعرفي للمشكلة الكلامية؟ كيف نميز بين المشكلات الكلامية والفقهية والسياسية أحيانا؟ كيف نقرأ علم الكلام بعين متكلم لا بعين فقيه؟

إن المدارس الكلامية لم تستطع أن تضبط الإشكاليات الكلامية كما أنها لم تستطع تحديدها معرفيا، فهناك إشكاليات كلامية ذات طبيعة دينية تارة وفلسفية أخرى، ذات طبيعة فقهية تارة وجدلية أخرى، اجتماعية تارة وسياسية أخرى. إن تحديد المشكل الكلامي وضبطه معرفيا من أكثر الصعوبات التي يوجهها الباحث في علم الكلام؛ لأن إشكاليات علم الكلام ما هي إلا مجموعة من المسائل الدينية التي ولدت في سياقات متعددة ومختلفة، كما أن قواعد معالجة هذه الإشكاليات الكلامية متغايرة ومتناقضة إلى حد كبير، فبعضها يعتمد على العقل فقط كنظريَّة الذرة؛ بينما تعتمد الأخرى على النص المقدس كالغيبيات، ومنها ما يتعلق بالذات الإلهية، ومنها ما يتعلق بالإنسان، منها ما يتعلق بالدنيا ومنها ما يتعلق بالغيب، إذن هناك مشكلة إبستيمولوجية في ضبط المسائل الكلامية.

غالبا ما تضبط المدارس الكلامية علم الكلام بأنه كافة المسائل التي تخضع لنصوص صريحة (مُحْكَمَةٌ كمصطلح كلامي) تتعلق بالذات الإلهية وصفاتها وأفعالها، إضافة إلى الإشكاليات الغيبية التي تعنى بالحياة الآخرة، غير أن هذا التعريف ليس دقيقا؛ لأن المدارس الكلامية لم تستقر كثيرا على تحديد النصوص المحكمة في القرآن؛ بل اختلفت في تأويل معظم النصوص المتعلقة بالإشكاليات الكلامية. إضافة إلى ذلك فإن بعض إشكاليات علم الكلام كانت تخضع في دراستها وتحليلها للعقل فقط؛ أي ممارسة عقلية في النص القرآني، بينما كانت تخضع بعض الإشكاليات المتعلقة بالغيب الأخروي لنقاش فقهي قائم على دلالات اللغة وضوابطها الشرعية والكلامية وكذلك الرواية إلى حد ما؛ أي أن "الحديث النبوي" تفاعل بشكل كبير مع هذه المسائل واختلط بها، كما أنها لامست الحس العاطفي أو ما يسمى بالأسطورة في علم الميثالوجيا الذي يستهوي المجتمع بشكل عام، بل يعدّ روح العقل الجمعي في الحراك الديني، بعكس المسائل المتعلقة بعلم الذرة أو البحث في حقيقة الذات الإلهية، فإن المجتمع لا يفهم كثيرا الجدل القائم فيها، وبذلك فهو لا يكترث بها كثيرا. إضافة إلى ما سبق، فإن اختفاء إشكاليات أخرى متعلقة بعلم الكلام -كإشكاليات النبوة، وحقيقة الخلود الفلسفي، ومسألة حقيقة الروح كلاميا وليس صوفيا أو فقهيا، وإشكالية الغيب- كل ذلك يمثل دلالة رمزية على البعد البشري لمنتج علم الكلام.

لاهوت الإباضية:

تمثل دراسة تاريخ المدرسة الإباضية وعقيدتها عمقا هاما في الدراسات الأكاديمية؛ لأنها تنتمي إلى دراسة حقل هام من حقول التأسيس السياسي الإسلامي في القرون الأولى، وهو فكر المحكمة، الذي يشكل جزءا مهما من أشكال المعارضة في الإسلام السياسي، بالإضافة إلى الفكر الشيعي بشكل عام.

إن أهمية هذا النوع من الإسلامات لا تمكن فقط في التعريف بالإضافة العلمية التي أنتجتها المدرسة الإباضية في القرون الأولى خاصة في علم الكلام؛ بل لأنها تكشف أيضا عمق هذه المرحلة التاريخية المهمة التي انتقل فيها النص المقدس من السماء في عهد النبي -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الأرض بعد وفاته مباشرة؛ أي أن كل المبادئ الدينية التي كان ينادي بها الرمز السماوي تحولت بعد وفاته إلى مادة قابلة لإعادة الفهم والتأويل والتفكيك والبناء بما يتناسب مع سياقات المجتمع التاريخية التي يتحرك فيها، ولهذا أعادت الحركات السياسية بعد أحداث الفتنة الكبرى قراءة النصوص المقدسة المتعلقة بالسلطة السياسية لتشكل فيما بعد ما عرف بالإسلام السياسي، وكذلك فعلت بعد ذلك المذاهب الإسلامية لتشكل ما عرف بعد ذلك بالإسلام المذهبي، ومن المدارس الكلامية في بداية القرن الثاني الهجري، حيث قامت بتأويل منظومة النص المقدس من جديد لفهم الإشكاليات الكلامية؛ لتشكل ما عرف بالإسلام الكلامي.

يتميز الإباضية بشكل خاص عن المعتزلة بأن لهم مرجعية تاريخية أسهمت في فهمهم لعلم الكلام، فهم من المدارس الكلامية التي مارست النضال السياسي ضد الدولة المركزية، ولهذا فإن بعض الإشكاليات الكلامية للخوارج لا تستمد مرجعيتها من النص المقدس فقط؛ بل لها مرجعية تاريخية/ سياسية تتمثل في مقتل عثمان بن عفان، ومن ثم في أحداث الفتنة الكبرى، وبعدها موقفهم من الدول المركزية الإسلامية بشكل عام، كل هذه الأحداث التاريخية شكلت وعيا معرفيا كلاميا خاصا للخوارج بشكل عام والإباضية بشكل خاص أثرت في فهمهم للنص القرآني، وبالتالي أثرت كذلك على فهمهم للمسائل الكلامية؛ أي أن الخوارج استوعبوا داخل الدائرة الكلامية الحدث التاريخي نفسه.

إن المدرسة الإباضية لا تعالج المسائل الكلامية كما تفعل المعتزلة في تقييدهم للنص داخل حقل العقل؛ بل يعتمدون على النص القرآني أولا لفهم كافة الإشكاليات الكلامية؛ أي أنهم يحفرون في منطقة النص مستخدمين لغة التأويل لفهم المشكلات الكلامية. هذا المنهج الذي يمارسه الإباضية استمد مرجعيته التاريخية من منهج "القراء" - ولذلك قلت سابقا: إنهم مزجوا التاريخ والنص في الدائرة الكلامية- الذين رفضوا التحكيم في أحداث الفتنة الكبرى، وكانت بينهم مناظرات مع الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس. لقد كان "القراء" يتأولون النص القرآني فقط دون الإغراق في عقلنته بالمنطق أو البرهان الجدلي، وقد مارس الإباضية المنهج نفسه طوال تاريخهم في فهم الإشكاليات الكلامية؛ لذلك لا نجد في مؤلفاتهم إغراقا في علوم الجدل والمنطق الذي تميزت به المعتزلة.

كما يختلف منهج الإباضية عن منهج الأشاعرة؛ فلا يمثل لهم "النص النبوي" قيمة كبرى فيما يتعلق بالمشكلات الكلامية؛ لأنهم ينظرون إلى السنة النبوية المتعلقة بمسائل علم الكلام نظرة الشك والريبة وبالأخص أحاديث الآحاد كونها كتبت من قبل خصومهم السياسيين التابعين للدولة الأموية، أو لكونها كتبت بعد مرور قرنين من وفاة الرسول وبعد تشكل مسرح الأحداث السياسية؛ أي أن السنة النبوية ليست بريئة في نظرهم من الانحرافات المؤدلجة فيما يتعلق بمنظومة علم الكلام، فهي من وجهة نظرهم نصوص صالحة للإسلام التطبيقي؛ ولكنها ليست صالحة للإسلام الكلامي، وهذا المنهج هو ذاته المستمد من منهج "المحكّمة" الذين رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية.

لقد كان منهج الاباضية يقوم على تأويل القرآن، والبعد عن الجدل الكلامي الذي توسعت فيه المعتزلة، والبعد أيضا عن الممارسات النبوية كمادة غير موثوق فيها كثيرا في النزاعات الكلامية التي لا يمكن الفصل فيها إلا من خلال محاكمتها بالنص القرآني ذاته، وفهمه بالطريقة التي يرونها هم وفق دائرتهم التاريخية. فهم لا ينكرون الممارسات النبوية أو ما يعرف بالسنة النبوية؛ بيد أنهم يشكون في طريقة نقلها أو براءتها من تأثير الأحداث السياسية عليها.

إذاً المدرسة الإباضية ألجأتها الشروط الموضوعية لسياقات الظرف التأريخي الذي شهدته أن تسلك منهجين في فهم الإسلام بشكل عام، فهناك المسلك الفقهي الذي تمثل في جابر بن زيد، وهناك المسلك الثوري السياسي المستمدة روحه من عقيدة "المحكمة"، ثم انتقل بعدها إلى "القعده" خاصة شخصية أبي بلال مرداس، هذان المنهجان كونا شخصية أبي عبيدة، الذي كان تلميذا لجابر بن زيد، كما أنه كان مولى لأبي بلال مرداس. استطاع أبو عبيدة توظيف هذين المنهجين في المدرسة الإباضية التي أنتجت منهجا فقهيا، برزت فيه بصورة واضحة شخصية الربيع بن حبيب، ومنهجا ثوريا تمثل في شخصيات إباضية برزت بصورة كبيرة في القرن الثاني الهجري مثل عبدالله بن يحيى الكندي والمختار بن عوف والجلندى بن مسعود في عمان، وقد سارت المدرسة الإباضية على هذين المنهجين طوال تاريخها الزمني، نلحظ ذلك كثيرا في عمان، فالمنهج الفقهي يتوسع ويسيطر على المجتمع عندما يكون المجتمع في حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، عندما ينشغل الناس بحياتهم الطبيعية الاجتماعية فإن الإشكاليات الفقهية هي التي تظهر بصورة كبيرة، أما عندما يكون المجتمع الإباضي في حالة الكتمان أو في حالة من الهيجان السياسي فإن علم الكلام هو الذي يسيطر على العقل الإباضي؛ كونه يؤصل أولا للفعل السياسي الحاضر أو المرتقب، ويقوم ثانيا بالبحث عن الذات المدعمة بالنظريات الكلامية التي يستمد منها الثوار قوتهم، ويستمد المجتمع قدرته في الحفاظ على ذاته التأريخيه، ولهذا نجد في عمان مثلا أن علم الكلام كان يمارس بصورة واسعة في القرون الأربعة الأولى، ثم بدأ يضمر في القرون اللاحقة حتَّى القرن السابع لعدة أسباب منها:

1-         أن هذه المرحلة التاريخية -حتى القرن الثالث- تعدّ امتدادا زمنيا وموضوعيا لأحداث الفتنة الكبرى، وبداية لتشكل المداس الكلامية، كما أنها المرحلة التاريخية الهامة التي استقر فيها الإباضية في موطن جغرافي ذي سيادة بعيدا عن سلطة الدولة المركزية.

2-         إعلان الإباضية -لأول مرة- إمامة الظهور، مما جعلهم يشكلون قوة في وجه الدولة المركزية، فاهتموا كثيرا برسم معالم الإسلام السياسي الكلامي.

3-         في القرن الثالث الهجري حدث إشكال سياسي مهم في عمان، تمثل في الانقسام التاريخي بين الإباضية أنفسهم في مسألة إمامة الصلت بن مالك، فهو أشبه بالانقسام الإسلامي العام في خلافة عثمان بن عفان، حيث بلغ الصلت بن مالك سنا كبيرا لم يعد باستطاعته إدارة شؤون الدولة مما استدعى إقالته. هذا المشكل التاريخي أفرز كثيرا من الإشكاليات الكلامية منها مسألة الولاية والبراءة وغيرها؛ بل كان من شأنه أن يوسع الدائرة الفقه كلامية ذاتها فيما عرف بعد ذلك بالمدرسة الرستاقية والنزوانية.

4-         أن القرون الأربعة الأولى تعد هي المرحلة التاريخية المهمة التي تأسس فيها علم الكلام واكتسب مكانة كبيرة في المجتمع، ولذلك استفاد إباضية عمان كثيرا من وجودهم في البصرة في القرنين الأول والثاني الهجريين، كما استفادوا من وجود المعتزلة والمرجئة في القرن الثالث في عمان، ولهذا تفاعلوا كثيرا مع المدارس الأخرى، وتأثروا بها نوعا ما.

بدأ علم الكلام يهتز في منتصف القرن الخامس، وبدأ الفقه المنغلق حول النص ينمو بشكل كبير، كما هو واضح من خلال ما كتبه الكندي حول نظريَّة الذرة، حيث يعد الكندي من المرجعيات العلمية الكبيرة في عمان في القرن الخامس الهجري؛ بيد أنه تعرض للتضليل كونه تبنى نظريَّة الذرة، كما يحكي عن نفسه في مقدمة كتابه " الجوهر المقتصر"، مما يعطينا دلالة كبرى على مدى توغل الفكر الفقهي السلفي -كدلالة لغوية- في العقل الإباضي، ولأن الإباضية لم يعودوا بحاجة إلى المنهج الثوري؛ حيث أقاموا دولة لهم، مما نتج عنه البعد عن المسائل الكلامية وضمور دائرة المتكلمين.

فَقَدَ علم الكلام عند الإباضية مكانته بعد القرن الخامس(**)؛ لعدة أسباب منها: سقوط المعتزلة وبداية ضمور علم الكلام في المدرسة الأشعرية، وصعود المدارس الفقهية والصوفية، فالإباضية تأثروا بشكل مباشر بما حدث لعلم الكلام في المدارس الكلامية الأخرى.

إن هذا الطرح يقودنا إلى القول: إن المدرسة الإباضية ما هي إلا امتداد سياسي- ثوري وتاريخي منذ وضع إشكاليات قواعد الإسلام السياسي خلال القرن الأول الهجري، مسهمين في تأسيس علم الكلام الإسلامي؛ وكانوا فاعلين في تأسيس الأسس المفاهيمية للإسلام الكلامي لإثارتهم إشكاليات حقيقة المؤمن والمنافق والعاصي وغيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**) كانت هناك محاولات لعودة علم الكلام عند الإباضية في القرن السابع الهجري عن طريق المتكلم العماني الإباضي محمد بن عثمان الأصم الذي حاول انتشال المنظومة الكلامية من ثنايا الفقه؛ لكنها لم تستطع الصمود؛ حيث واجهت سيلا من المؤلفات الفقهية التي أغرقت العقل الجمعي فأغلقته.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/108

الأكثر مشاركة في الفيس بوك