التثاقُفُ ومستقبلُهُ في مجتمعات المسلمين وجهةُ نظرٍ إسلامية

عبد الرحمن السالمي

 

I

 

أستحضر في ذهني وأنا أكتب هذه الْمُداخلة عن التثاقف (acculturation) وإمكانياته في حاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم توجهين سيطرا على توجه الباحثين العرب خلال العقد الأخير؛ فالتوجه الأول عني بالقِيم والمقاييس الأخلاقية في مجتمعات المسلمين، وأمَّا التوجه الثاني فَعُني على الخصوص بإدراكات الديمقراطية في عدة بلدانٍ عربية وإسلامية، ولو شئنا الدقّة لقُلنا: إنّ هذين التوجهين إنما ينطلقان من قول شاع بأنّ هناك مشكلةً حقيقيةً ذات أبعادٍ سياسية وأخلاقية ودينية، بين المسلمين (وبخاصةٍ العرب) والديمقراطية، بوصفها "قيمة" و"ثقافة"، وبوصفها ممارساتٍ، وبوصفها أخيراً طريقةً في بناء الأنظمة السياسية والمؤسّسات، ففي حين تصل أفكار المجموعة الأولى إلى أنّ المشكلة موجودةٌ في "الثقافة" في صورة تضادّ بين الشريعة والحريات السياسية ومؤسّساتها، وإن لم تكن قويةً وسائدة؛ فإنّ المجموعة الثانية -والتي تدّعي الميدانية- تصل إلى نتيجةٍ معاكسة، وترى أنّ المجتمعات العربية والإسلامية ليس في وعيها عقبات أمام الديمقراطية؛ في حين أنّ المشكلة ظاهرةٌ في الأنظمة السياسية المسيطرة. أمّا المجموعة الأولى فعادة ما تقترحُ لتجاوُز المشكلة تقويةَ مؤسّسات وجِهات المجتمع المدني، وتشجيع برامج التربية على الديمقراطية، وترى أن المشكلة يمكن حلها بتطوير الأنظمة أو تغييرها، للوصول إلى أنظمة للتداوُل على السلطة، وإقرار الحريات الأساسية، والمشاركة الواسعة والمتطوِّرة. وهكذا فإنّ كُتّاب المجموعة الأولى يرون أنّ "المثاقفة" دونها عقباتٌ بعضها آتية من ماضي المسلمين، وبعضُها الآخرُ آتٍ من "سياسات الهوية" واستراتيجياتها المتعملقة في زمن العولمة. ويرى البعض أنّ المثاقفة جاريةٌ ومتواصلة لدى النُخَب العربية والإسلامية وفي زمن العولمة بالذات؛ لكنهم يعودون فيؤكدون أنّ "العملية الديمقراطية" تختلف تجاربُ الوصول إليها، وينبغي أن تكونَ التجربةُ ذاتيةً في المجال العربي والإسلامي؛ لكي لا تتعرض للانتكاسات بعد انقضاء الأنظمة السياسية أو خلال عمليات التطوير والتحرير.

 

لماذا أطلْتُ في تلخيص نتائج التوجهين؟ فعلْتُ ذلك لأُوضّح أنّ الثورات العربية الجارية في الأشهر الأخيرة، لمتصَدِّق نتائج البحوث والمُطالعات الجارية على مدى السنوات العشر الأخيرة؛ فالذين أكثروا من الحديث عن معوِّقات الديمقراطية في الدين والثقافة والسياسة والنظام الدولي، لمتَصْدُق آراؤهم؛ لأنّ الثورات الديمقراطية انطلقت فاستقطبت الجمهور كلَّه في حركيةٍ زاخرةٍ، دون تساؤلاتٍ عن مشروعية الديمقراطية أو سلطة الشعب. وهكذا لمتكن هناك مشكلاتٌ في النظر إلى الديمقراطية باعتبارها قيمةً أو ممارسة أو الأمرين معاً. أما أصحاب المذهب الثاني الذي رأى العقبة في السلطات القائمة وليس في الجمهور؛ فإنه عاد فأكّد على الذاتية والخصوصية في حالة العرب، والتي تقتضي ديمقراطيةً عربيةً إذا صحَّ التعبير. ونحن نجدُ أنّ الثورات الجارية لا تملكُ هذا الهمَّ؛ أي التفرقة بين ما هو عالمي أو أجنبي، وما هو مصري أو تونسي، أو عربي أو إسلامي. فالحريةُ هي الحرية، وسلطة الشعب هي سلطةُ الشعب، والمؤسّساتُ التمثيليةُ الناجمةُ عن انتخاباتٍ حرةٍ هي المؤسّساتُ ذاتُها الموجودة في سائر أنحاء العالم؛ بل إنه كان هناك مَنْ قال في "ميدان التحرير" بالقاهرة: إنه إنما خرج مع زملائه إلى الشارع ليُثبت أنّ المصريين يريدون أن يكونوا جزءًا من حركة العالم وحركة قِيمِهِ، وحركة مجتمعاته ودُوَله. وهذا الشاب يُحسُّ - كما قال- أنّ العوائق من جهة المصريين لمتكن ذاتيةً؛ بل آتية من جهة النظام الذي كان يعتمد على التجهيل، وعلى الأجهزة الأمنية، وهو يخشى ألّا يكون التجاوُب قوياً مع الثورة بالفعل من جانب الأميركيين والأوروبيين، رغم الترحيب الظاهر؛ لأنهم "كانوا مرتاحين" مع النظام السابق.

 

II

 

وفي ضوء هذه الملاحظات النقدية، يكونُ علينا العودة إلى موضوع "التثافُف" وماذا يعني لنا نحن العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين. ولدينا في هذا الشأن تجربتان وسيطتان أو كلاسيكيتان، وتجربة أو تجارب حديثة ومُعاصرة. وأنا أقصِدُ بالتجربتين الوسيطتين: تجربة بغداد في التواصُل مع الحضارات القديمة والمُعاصرة فيما بين القرنين السابع والثاني عشر للميلاد؛ حيث جرى التواصُل مع الحضارات القديمة اليونانية والهندية والفارسية من طريق الترجمة في شتّى العلوم والفنون والفلسفة. أما التجربةُ الثانيةُ آنذاك فهي التجربةُ الأندلسية على مدى سبعة قرون، وهي تجربةُ تثاقفٍ كبيرةٍ من خلال الترجمة(يوناني ولاتيني -عربي- لاتيني) ومن خلال العيش معاً؛ أي بين المسلمين والمسيحيين بتلك البلاد. وقد كانت التجربتان ناجحتَين بحدودٍ؛ لكنهما انتهتا نهايةً مأساوية. أما تجربةُ بغداد فانتهت بالحروب الصليبية التي ضربت العلاقات بين الشرق والغرب، وأحالت كلَّ تواصُلٍ إنساني وثقافي بين الطرفين(المسيحي والمسلم) إلى مُعاناةٍ وعذابٍ وتكفيرٍ للغريب أو قتْلٍ له لأكثر من ثلاثة قرون. وأمّا التجربةُ الأندلسيةُ فقد انتهت بحروب الاسترداد، التي أنْهت -وعلى كلّ المستويات- الوجود الإسلامي الإنساني والثقافي بأسبانيا بطريقةٍ استئصالية.

 

لقد قلتُ من قبل: إنّ التثاقُف الوسيط في بغداد والأندلس-والذي بادر إليه المسلمون- كان ناجحاً بحدود، وليس على الإطلاق؛ لأنّ مسألة "الأصالة" ظلّت عائقاً قوياً في الفكر كما في المُمارسة. فصحيحٌ أنه ظهر ببغداد والأمصار الكبرى الأُخرى تيارٌ قويٌّ ظلَّ موجوداً عبر العصور الوُسطى في الثقافة والفلسفة، يرى أنّ " الحكمة اليونانية" هي من الصحة والبرهانية والخلود، بحيث ينبغي أَخْذ المنطق والعلوم والفنون منها دون تردد، وتأويل النصوص الإسلامية بحيث تتلاءمُ مع الفلسفة الأرسطية والأفلوطونية المُحْدَثة؛ بيد أنّ التيارات الأقوى والأكبر والأكثر دواماً في حضارتِنا لم تلبث أن ظهرت وتبلْورت وفرضت توقُّفاً وتراجعاً بحجة الأصالة والحفاظ على الدين من الفساد من طريق تلك الفلسفة الوثينة. وبقي المنطقُ كما بقيت العلوم البحتةُ والتطبيقية، لكنّ الفلسفة ضُربتْ بحجة غُربتها، والذي بقي منها بقي بشكلٍ مُداور. أمّا محدوديةُ النجاح في التجربة الأندلسية فسببُها أنَّ هذا العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين واليهود لم يمكن له أن يستمرَّ، والذين استأصلوا المسلمين من أسبانيا والبرتغال هم أحفادُ الذين عاشوا مع المسلمين، وإن كانوا قد أخذوا منهم الكثير، كما أنّ الترجمات التي أُنجزت من العربية إلى اللاتينية أثّرت كثيراً في النهوض الأوروبي اللاحق.

 

أما التجربةُ الحديثةُ والمُعاصرة للعرب والمسلمين مع الغرب، وعمليات التثاقفُ التي حصلت؛ فإنها كانت مختلفةً عن التجارب الوسيطة من حيث الدوافع والمَدَيات والنتائج.

 

أ‌-          كان الغربيون هم الذين بادروا إلى فرض ثقافتهم على العالم وبطريقةٍ اجتياحيةٍ شملت شتّى مجالات الحياة الإنسانية الخاصة والعامة. وعندما كانت تلك العملية الزاخرة تجري كانت الجيوشُ الأوروبيةُ تحتلُّ مُعْظَم بلدان العالميْن العربي والإسلامي, ولذا فقد فهم كثيرٌ من المتدينين المسلمين حتّى عندما كانت المُثاقفة تجري دون عنفٍ ظاهر أنها - كما يقول ابن خلدون- بمثابة " تقليد المغلوب للغالب"، وقد خلّفت هذه العمليات العنيفة وغير العنيفة جراحاً غائرةً في النفسية العربية والإسلامية، رغم اقتناع الكثيرين أنّ هذا "الاستيراد" كان ضرورياً للخروج من "وهدة التخلُّف"؛ لكنها وإن تكن ضروريةً فلم يكن ينبغي لها أن تقترن بالعنف. لقد قال خير الدين التونسي (-1888م): إنّ هذا الغرب (الثقافي والسياسي) هو مثل السَّيل، ولا بد من استيعاب موجاته؛ لأنه لا يمكنُ مَنْعُ تدفُّقه لا بالقوة والعنف ولا باللين والمُصالحة. وما دام الأمر كذلك فينبغي قَبوله والتلاؤمُ معه أو نغرق في أمواجه الهائجة. وكان هو ورجالات الدولة والمثقفون الآخرون يرون أنّ هذا الاستيراد والاستيعاب أو مُحاولته لن يؤدّي إلى ذوبان المسلمين أو ذهاب دينهم وثقافتهم؛ وذلك لأنّ الاستعانة بأدوات الحداثة سوف تُكسبُ المسلمين مناعةً مشهودةً تُمكِّنُهُم من تطوير حياتهم، والعودة لمُنافسة الغرب.

 

ب-حصلت عمليات الاستيراد أو التوريد هذه حين كانت مجتمعاتُ المسلمين وثقافتُهم راكدةً، وبالتالي فاقدةً لأيِّ مناعةٍ باستثناء المناعة الدينية، ولذلك سُرعان ما اصطدمت المستجداتُ الأوروبيةُ بالدين، وليس لدى المسلمين فقط؛ بل ولدى مسيحيي الشرق القُدامى أيضاً. ولذا فقد انقسم المسلمون إلى فريقين: فريق يرى تعلُّم منتجات الحداثة وتبنّيها لمواجهة الأوروبيين والتمرد على سطوتهم العسكرية، وفريق عمد للتقوقُع والانعزال، لصَون خصوصيته ودينه. وكما لم ينجح المتمردون، فكذلك لم ينجح النفعيون أو البراغماتيون؛ لأنهم صاروا في النهاية سالكين لمسالك "تقليد المغلوب للغالب".

 

جـ- لم يعدّ كثيرٌ من المثقفين المسلمين عملية التحديث هذه عملية مُثاقفة؛ لأنها كانت مفروضةً من جهة، ولأنّ المسلمين لم يقدّموا شيئاً يمكن للمستعمرين الإفادة منه، وهكذا فإنّ الندّية لم تكن متوافرة، كما لم تتوافر المشاركة, وإن ظلّ البعضُ يفتخر بأنّ للمسلمين دَيناً على أوروبا التي أَنهضوها من سُباتها، وهي تردُّ لهم الجميل الآن.

 

III

 

إنّ الثورات العربية الجارية قد كشفت عن "رؤيةٍ للعالم" لدى الجمهور الذي نزل إلى شوارع ثماني بلدان عربية حتَّى الآن، لميكن أحدٌ من الباحثين أو الاستراتيجيين يتوقّعُهُ، فضلاً عن تقارير المؤسّسات الدولية والإقليمية، والتي تحدثت مطوَّلاً عن ضعف مؤسّسات المجتمع المدني في العالم العربي، بسبب ضعف قيم الحداثة والمشاركة والديمقراطية، إلى جانب ضغوط الأنظمة وقمْعها:

 

-           فالجمهور الذي نزل إلى شوارع المدن العربية، وتحمَّل بشكلٍ سلميٍّ وعلى مدى أسابيع متطاولة عُنْف أجهزة الأمن، كان يحملُ شعارات الحرية، والتداوُل على السلطة، وفصْل السلطات والشفافية ومكافحة الفساد، والانتخابات الحرة سبيلاً لتكوين مؤسّسات تمثيلية. وكلُّ هذه القيم والمبادئ والإجراءات المطلوبة هي قيمٌ مدنيةٌ تحملُها الدولة الحديثة والديمقراطية. ولأنّ الأكثرية الساحقة من المتظاهرين كانت تحمل تلك الشعارات، ولا ترى حائلاً دون تنفيذها غير الحكّام الخالدين، والأجهزة الأمنية؛ فإنه حتَّى عندما نزل الإسلاميون أو جماعات الإسلام السياسي إلى الشارع للانضمام إلى المتظاهرين؛ فإنهم أَهملوا شعاراتهم الخاصة المتعلقة بالالتزام بالشريعة، وركّزوا على الشعارات نفسها التي يحملُها المتظاهرون. وهكذا فعمليةُ "التثاقُف" أو اعتناق قيم العصر قد جرى استيعابُها من جانب الشبان الذين نزلوا للشارع، ولميكن هناك هياجٌ ذو نوازع دينية أو أُصولية، ولا أثر للعداء للغرب الذي كان الباحثون يحسبون أنّ الشبان يحملونه بين جوانحهم، وبذلك لم يعد هناك ما يدعو للحديث عن صِدام الحضارات، ولا عن الاستثناء الإسلامي أو العربي تُجاه الحريات والديمقراطية.

 

-           تكونت جماهير تلك التظاهُرات الزاخرة وبنسبة 85% من شبان تحت الثلاثين من العُمُر، وقد كان معروفاً أن نسبة صغار السنّ في العالم العربي تبلُغُ حوالي الـ70%، وقد تجمع هؤلاء ونظَّموا مجموعاتهم بواسطة وسائل الاتصال الحديثة. وهكذا يترتب على هذا الأمر أو على هذه الظاهرة-ظاهرة الثورة الديموغرافية- عدة نتائج: أنّ الثورات هي ثورات شباب، وهي نابعةٌ من "الثورة الديموغرافية" في العالم العربي، وأنّ أبناء الطبقة الوسطى هم الكثرةُ الساحقةُ بين المتظاهرين؛ لأنهم يُحسنون استخدام وسائل الاتصال ويملكونها، وبذلك فهم فئاتٌ اجتماعيةٌ متعلِّمة وحديثةٌ، وليست فئات تقليدية أو مُحافظة. ولا يعني ذلك أنّ الفئات المُحافظة انتهت من المجتمع؛ فهي موجودةٌ وكثيرةُ العدد؛ لكنها ليست هي التي تُحدِّدُ الاتّجاه، كما أنها لا تملكُ السيطرةَ على حركة الشارع، ولا تستطيعُ تغيير القيم السائدة بين الشباب، كما أنها لا تملكُ القدرة على الانقلاب عليها. والحديثُ عن "التثاقُف" هنا ضروريٌّ أيضاً؛ فقد احتكم الجميعُ -محافظين وتغييريين- إلى القيم نفسها، كما أنهم أَظهروا التزاماً بهذه القواسم المشتركة الحديثة، والتي تعني وجودَ وعيٍ قويٍّ ومشتركٍ لدى هؤلاء الشباب بالانتماء إلى عالَم الحداثة والحريات والديمقراطية والمجتمعات المدنية في العالم. ومن ضمن تلك القيم والممارسات الراقية الإيمان بالحريات وبالرأي الآخر؛ فقد مضوا في مصر وتونس إلى صناديق الاقتراع، وتقبلوا النتائج التي صدرتْ دونما تذمُّرٍ رغم أنها لمتكن متفقةً مع نوازعهم وآرائهم وتوجُّهاتهم.

 

-           والميزةُ الثالثةُ لدى هؤلاء الشبان: المُسالمة، وكراهية العنف، وكراهية الدم، والحرص على الممتلكات العامة والخاصة، وحتّى عندما كان البوليس يواجهُهُمْ لم يستخدمون العنف في صدَّه؛ لكنهم كانوا مُصرّين على إزالة أجهزة الأمن السياسي، وأجهزة الضغط الجسدي، بالاستمرار في التظاهُر السِلْمي حتَّى تنحلَّ تلك الأجهزة أو تنهار. وهذه المُسالمة القويةُ التي تتحمل العنف ضدَّها دون أن تثأر ليست معروفةً لدى الحركات المدنية، وحركات الخُضْر والبيئة بعد الحرب الباردة؛ ولذا فالذي يمكن قولُهُ أنّ هذه الحركات المدنية هي حركاتٌ شبابيةٌ من نوعٍ جديدٍ، وتُمثّل درجةً عاليةً من المُثاقفة أو المشاركة في قيم العالم المتحضّر، كما أنها حركاتٌ استيعابيةٌ. ففيما عدا القطيعة مع النظام الاستبدادي السائد، هي تريد التواصُل مع سائر الفئات، وحتّى تلك الفئات التي لم تُشاركْ في الحركة لسببٍ أو آخر، ولذا فإنّ إنذار بعض الجهات بإمكان الانقسام في دولٍ مثل ليبيا وسورية واليمن لا مبِّررَ له؛ بل إنّ العملية الحركية الجارية أدّت إلى تقارُبٍ بين الشمال والجنوب باليمن، وإلى تقارُبٍ بين العرب والأكراد في سورية، وبين الأمازيغ والعرب في ليبيا. وقد تحدث كثيرون عن عِلَل هذه الظاهرة، وكيف تُفهم في ضوء الخصوصيات التي يُقالُ: إنّ العولمة قد شجّعتْها. فالشبابُ الثائرون الحريصون على الحريات العامة يؤكدون دوماً على عمومية المُواطنة، وعلى عدم التمييز على أساس العِرْق أو الدين أو الجهة، وقد لعب الأقباطُ المسيحيون دوراً بارزاً في الثورة المصرية، وبدا الأمر وكأن السُلُطات السابقة هي التي كانت تُشجّع الانقسامات، والتي ألْغتْها الثورات.

 

إنّ المتوقَّع -إذا اكتمل هذا التطوُّر في البلدان العربية- ألا تكونَ هناك مشكلاتٌ جديةٌ في عمليات المثاقفة الحاضرة والمستقبلية؛ إذ يبدو أنّ الحدَّةَ التي بدتْ في بعض الأَوقات والعقود الماضية إنما كانت ناجمةً عن الظروف الاستثنائية التي كانت تعيشُها منطقة الشرق الأوسط، ولجهتين: لجهة الثُنائية بين الأنظمة المستبدة والإسلاميين، ولجهة الضغوط الدولية والإقليمية التي واجهتْها شعوب المنطقة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. وإنه لأمرٌ رمزيٌّ بالغُ الدلالة أن ينتهي أسامة بن لادن مع انتهاء عهود خصومه من حكّام الجمهوريات الوراثية الاستبدادية، ولو لقيت قضيةُ فلسطين حلاًّ عادلاً لما بقيت هناك أُصولية عنيفة أو غير عنيفة في العقود القادمة.

 

IV

 

في شهر أكتوبر من العام الماضي (2010) توفّي المفكر البارز محمَّد أركون، الذي دأَب خلال العقود الأربعة الماضية على كشف الانسدادات التي أحدثها النصُّ الدينيُّ في التفكير الإسلامي قديماً وحديثاً، ومن ضمن تلك الانسدادات التي لاحظها أركون وغيره من الليبراليين واليساريين: افتقار الشباب المسلم المتديِّن إلى قِيَم العصر ومُثُله ومعارفه. فهناك اعتقاد-بحسب أركون والجابري وحنفي-بأن ثمة قصورًا في قراءة النصّ الديني قراءةً نقدية- وهناك قصورٌ آخَرُ في تبنّي قيم العصر، والتأكيد على قيم الخصوصية والأصالة. وبحسب هذا التصور؛ فإنّ العرب والمسلمين لن يتحركوا باتجاه العصر إلاّ إذا انتهت امتثاليتُهم للنصوص المقدَّسة، من طريق إصلاح ديني راديكالي، مثلما حدث في أوروبا في القرون الثلاثة الأخيرة، وإلاّ إذا صارت قيم العصر جزءًا من منظومتهم الأخلاقية والمدنية. وقد أظهرت الثورات الشبابيةُ العربية- ومعظمُ هؤلاء الشبان متديِّنون- أنّ التثاقُف المطلوب مع قيم العصر قد تحقّق إلى حدٍ كبير؛ لكنهم لم يُضطرّوا -وهم يحقّقون هذه المُثاقفة-إلى إنكار نصوصهم الدينية؛ أي أنّ الإسلام لم يشكّل عقبةً في وجه التحول نحو الديمقراطية؛ بل إنه في بعض الحالات في اليمن وليبيا وسورية؛ فإنّ القيم الأخلاقية الدينية حالت دون اللجوء إلى العُنف، كما حالت دون الاعتداء على الأملاك والمصالح العامة والخاصة، وشجّعت أخيراً على نوعٍ من الثقة بنجاح التحرك الديمقراطي المُسالم؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لا يقبلُ الظُلْم، ولا ينصُرُ الظالمين، ويساعدُ المؤمنَ على صون الكرامة الإنسانية، وبلوغ الحرية.

 

بقيت المشكلة المعضلة في هذا السياق وهي مسائل الخصوصية والهوية، ولن تنتهي بحصول الثورات، وسيظل هناك متشددون يعتقدون أنّ الديمقراطية خطر على الدين؛ بيد أنّ الاتجاه الشعبي العام السائد الآن الذي نعرف أنه اتجاه تثاقفي غلاّب، يريد التواصُل مع الآخر ولا يرفضه، ويريد المشاركة في حضارة العصر وعصر العالم، وليس باسم العصرنة والحداثة فقط؛ بل وباسم الإسلام أيضاً.

 

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/106

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك