أركون وسطوة الاستشراق!
يعرف إدوارد سعيد "المستشرق" بأنه كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو بإجراء لبحوث عن موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، فالاستشراق إذن وصف لهذا العمل، من الواضح أن كثيرا من الدراسات الاستشرافية، كانت بدافع من إرادة الهيمنة، وعلى الخصوص منها ما يتعلق بالجانب الثقافي والاثنوغرافي، غير أننا نقر في نفس الوقت أنه قد حدثت طفرة في هذه الدراسات، وبرزت أجيال جديدة من المستشرقين تروم التفهم والدراسة العلمية للشرق وللإسلام وتاريخه على الخصوص، لذلك فإن إدوارد سعيد يقر أن المصطلح لم يعد يتمتع بتلك الحظوة القديمة، إذ يفضل المتخصصون استخدام مصطلحات بديلة كـ"الدراسات الشرقية".
أما فيما يخص دراسة الإسلام، يطرح أركون مفهوما بديلا يرادف عنده الاستشراق ويورده في سياق نقدي، وهو "الإسلاميات الكلاسيكية".
جل هذه الدراسات الكلاسيكية الاستشرافية تنطلق حسب أركون من موقف ثقافي يصدر عن خلفية فكرية وتاريخية تضخم أطروحة الاستثناء التاريخي للمسار الأوربي الذي أنتج الحداثة، وأراد لها أن تكون النموذج الوحيد المسيطر، "فالواقع أن هذا النموذج رفع تعسفا إلى مرحلة العالمية أو الكونية في حين أن له جذورا محلية واضحة"[1]. فمنطق الاستعلاء والتمركز الذي صدرت عنه الدراسات الاستشرافية، أفضى إلى إنتاج أحكام أقل ما يمكن أن توصف به أنها اختزالية ومتحيزة، وإن كان هذا الوصف ليس مطلقا.
يظهر هذا المنزع النقدي الذي يتبناه أركون في محاورته للاستشراق حول تيمة الأنسنة، فإذا كان الإقرار بأن الإنسانوية كمفهوم يرتبط بالعقلانية والتعددية والانفتاح؛ ينتمي إلى المجال التداولي الغربي والتاريخ الأوربي، فإن نزعة إنسية أو باصطلاح أركون "أنسنة" في التاريخ الذي يؤطر الشعوب الأخرى، واقع لا ينفيه أحد، إلا أن المشكلة تكمن في اعتبارها نزعات عابرة غير قابلة للدراسة التاريخية والسوسيولوجية، على النحو الذي حصل مع "الأنسنة العربية" في أوساط البحث الاستشراقي، ذلك أن الاستشراق، وخصوصا الفرنسي استمر خاضعا إلى ما أسماه ميشل فوكو بـ"الموضوعانية التاريخية المتعالية"، التي يولدها المفهوم الخطي والتراكمي للتاريخ، حيث لا يبدو الحاضر إلا استمرارا للماضي[2].
والحقيقة أن محمد أركون يعد من أوائل الدارسين العرب الذين تصدوا إلى مثل هذه الدعاوى، فهو لطالما انتقد مثل هذا الموقف، لاسيما وأنه يتضمن القول بأن الثقافة الإسلامية هي ثقافة معادية للنزعة الإنسية[3]، وقد وجد فيه إدانة "متسرعة" و"قطعية"، وهو يرى أنه حتى وإن كان الغرب قد استضاف التقليد الإنسي اليوناني الروماني الدائر على الإنسان، فإنه ما كف أبدا منذ حدث مجيء المسيحية عن تطوير إنسية مدارها على الله. فلا مساغ هنا أن يعاب هذا الأمر على إنسية الإسلام، ولا يعاب على إنسية مسيحية، وفضلا عن ذا وذلك لئن ساغ الحديث عن "فلسفة مسيحية" فلم لا يسوغ الكلام عن "فلسفة إسلامية"، ومن ثمة عن "نزعة إنسية مسلمة"، وذلك بقدر ما أوكل الفلاسفة وعلى إثرهم بعض أهل العقول الحرة المستقلة إلى العقل البشري، وحده دون سواه مهمة إعادة رسم المراحل المنطقية التي تقود إلى هذه الحقائق الكبرى التي يعرضها الوحي على إيماننا، فكما في كل الإنسانيات، على نحو ما تحددت هي في الغرب، صار الإنسان يحتل منزلة المركز في كل بحث فلسفي وعلمي، حيث تم التساؤل عن مصيره وأصوله ومنزلته في الكون وشرطه البيولوجي والروحي.[4]
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا في هذا السياق، هو هل يمكن تصنيف أركون ضمن الجيل الجديد من المستشرقين؟ قد تكون الإجابة بالنفي بالنظر إلى أن أركون ينتمي إلى الثقافة الشرقية، وهو حين يدرسها مسكون بهم أكاديمي ونضالي يروم تحريرها من قيود التبعية وسلطة السيطرة، غير أن الإشكالية تبقى قائمة وإن بصيغة أخرى.
ولعله من نافل القول، الإشارة إلى أن أركون يتخذ لنفسه مسارا بحثيا يعارض الاستشراق أو ما يسميه الإسلاميات الكلاسيكية، فنصوصه تحمل نقودا لاذعة للمنظومة الاستشراقية، وهو يروم من خلالها إلى نقد العقل الإسلامي وفق منهجية جديدة تتجاوز نواقص من سبقه، بذلك يفتح أركون أمام الباحث العربي أفقا انتظاريا أوسع بكثير مما صنعته المصادرات الاستشراقية. فهل فعلا استطاع الوفاء بهذا التعهد؟ أم أنه هو نفسه بقي أسير السياج الاستشراقي؟ هل حقا تخلص أركون من المصادرات الفكرانية التي وقع فيها غيره من نقاد العقل العربي؟.
ظل الاستشراق أسير المنهج الفيلولوجي في كثير من أبحاثه، لذلك لا يكل أركون في تكرار الدعوة إلى التخلص من سطوة الفيلولوجيا، غير أنه بقي في كثير من خلاصاته أسير هذا المنهج، ولعله هنا أكثر التزاما وإخلاصا للاستشراق، وتظهر هذه المسألة بشكل أبرز حين ينظر في مسألة نقد تاريخ القرآن، وإعادة النظر في قضية تدوينه وترتيبه، وهو يرى أن المانع من ذلك سببان: الأول سياسي يرجع إلى القرآن أو ما يسميه بالمدونة الرسمية التي تشكل ذروة المشروعية والشرعية للدول الناشئة بعد الاستعمار، وأما السبب الثاني فهو نفسي، حيث تمثل الوعي الإسلامي وهضم منذ فشل المدرسة المعتزلية بخصوص القرآن المخلوق ذلك الاعتقاد اليقيني الذي يقول: إن كل الصفحات الموجودة بين دفتي المصحف تحتوي على كلام الله بالذات، وهو بذلك يطابق بين القرآن المكتوب والقرآن الشفوي أو القرآن المقروء تلاوة[5].
هل قدم أركون بديلا لتجاوز هذا المأزق الذي أوقعتنا فيه المقاربة الفيلولوجية؟ الإجابة طبعا بالنفي، فهو هنا يكتفي بالدعوة إلى ضرورة فتح آفاق البحث على مجالات أوسع، كما يدعو إلى ضرورة تحديد أنماط الخطابات المستخدمة في المصحف، على غرار ما قام به بول ريكور P.Ricoeur في دراسة الوحي، من تنميط للخطابات المستخدمة في التوراة والأناجيل. دون مراعاة للسياق التداولي الفاصل بين النصوص، كما يقترح مجالا للبحث لا يزال بكرا في نظره، وهو مجال يرى أنه إذا تحقق أحدث نقلة معرفية في الفكر الإسلامي، وحقق للقرآن تاريخيته ومن ثمة تثويره وإدراجه ضمن المجال اللساني العلمي[6]. وبالتالي فتح آفاق جديدة للحداثة.
انتهى بنسالم حميش في دراسته حول الإسلاميات التطبيقية كبديل للإسلاميات التقليدية، إلى أن النقد الأركوني للاستشراق لا يضيف شيئا اللهم إلا من باب التأكيدات البرنامجية والإلحاح على ضرورة تطوير وتحديث مناهج الدراسات الإسلامية، علاوة على أن في كلام أركون ما يشير إلى أنه المفكر الوحيد الذي يقف بمنأى عن إشكالية الاستشراق خلافا لعبد الله العروي وأنور عبد الملك وهشام جعيط وادوارد سعيد الذين لم ينجوا من البلبلة، وهم يحاولون معاينة بحيرة الاستشراق الكلاسيكي، أو الإسلاميات الكلاسيكية بخصوص افتقاره إلى العناية بالجوانب العملية والجمالية والمسكوت عنه في الثقافة والحياة العربية الإسلامية، واقتصاره على المتداول المكتوب والقار من أدب وفلسفة وعلم الكلام وفقه وتاريخ،... والأهم من ذلك أن النقود الرئيسة التي توجه بها أركون إلى الاستشراق الكلاسيكي أو الإسلاميات التقليدية سبقه إلى التصريح بها مستشرقون محددون، وفي مقدمتهم جاك بيرك، بل سبقه إليها بعض المستشرقين الكلاسيكيين النقديين، أمثال لوي ماسينيون، ما يعني حسب حميش أن أركون لم يأت بجديد في هذا الباب[7].
والواقع أن معظم الخلاصات التي انتهى إليها أركون، فيما يخص النص الديني عموما والنص القرآني بالخصوص لا تخرج عن الإطار العام للاستشراق، حتى لو سلمنا باختلاف بينهما على مستوى المنطلقات والمناهج والأهداف، وبناء على ذلك حق لنا التساؤل ما الفرق بين الإسلاميات الكلاسيكية والإسلاميات التطبيقية أو خطاب نقد العقل الإسلامي، إذا كان الاستشراق يرمي إلى التبعية الاقتصادية، وهو يرمي إلى التبعية المعرفية؟ ألا نستطيع القول إذن إن منهج الإسلاميات التطبيقية هو الوجه الآخر للاستشراق، أو بالأحرى هو الوجه الجديد له؛ إنه الوجه الجديد للاستشراق في ظل النظام العالمي الجديد.[8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أركون، محمد، "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية"، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ط1، 2001، ص 44
[2] عبد الرحمن الحاج، إبراهيم، "تحديث الإسلام: من نزعة الأنسنة إلى استكشاف العقل الاستطلاعي"، مجلة أوراق فلسفية، العدد التاسع، يناير 2004، ص 6
[3] حسب ما أورده هاشم صالح: ابتكر أركون مصطلح الأنسنة كتعريب للمصطلح الغربي "هيومانيزم Humanisme" للتفريق بين الأنسنة والنزعة الإنسانية، لأن الأولى تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لتعقل الوضع البشري وفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، مع الوعي أن التاريخ صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقدة من الظلام.
- راجع: "أركون محمد معارك من أجل الأنسة في السياقات الإسلامية"، م. س، ص 7
- راجع أيضا: كيحل مصطفى، "الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون"، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، 2011، ص 61
[4] الشيخ، محمد، "أركون والنزعة الإنسانية في التراث العربي الإسلامي"، م. س، ص ص 126-127
[5] الفجاري مختار، "نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون"، م. س، ص 119
[6] نفسه، ص 120
[7] راجع: غسان إسماعيل عبد الخالق، "محمد أركون والاستشراق في مآله الأمريكي" مجلة أوراق فلسفية، العدد التاسع، يناير 2004، ص 67
[8] الفجاري مختار، "نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون"، م. س، ص 61
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B1%D9%83%D9%88%D9%86-%D9%88%D...