الجمعيات الخيرية" الخليجية الوجه المشرق "للثراء النفطي" صمدت في وجه التحديات

محاصرتها تحتاج إلى محاصرة الخير في نفوس المحسنين

 

تمكنت العشرات من الجمعيات الخيرية في دول الخليج العربي، خلال العقود القليلة الماضية، من تقديم المجتمعات النفطية الثرية والناشئة بصورة مغايرة لبقية شعوب العالمين العربي والإسلامي عن تلك الصورة النمطية التي كثيراً ما تُعرض للخليجي "الثري المنهمك في صرف أمواله بلا مسؤولية والبعيد عن قضايا أمته".

وظلت الجمعيات الخيرية في تلك الدول ميزة اجتماعية، تمثل مؤسسات مجتمع مدني لا تتلقى التمويل من أي جهة أجنبية، بقدر ما هي مؤسسات تتلقى تبرعات المحسنين قبل أن يصار إلى توزيعها على المحتاجين من الفقراء والمعوزين في أنحاء العالم الإسلامي.

وتمكنت قبائل تسكن مجاهل أفريقيا من أن تتعرف على دول الخليج لأول مرة، عبر تلك المساعدات المالية والتنموية التي كانت تصل إلى تلك القبائل قادمة من المحسنين في تلك الدول، فتعينهم على مواجهة مجاعة أو مرض أو كارثة طبيعية.

ونجح الناشطون في العمل الخيري في دول الخليج، لأول مرة في مأسسة العمل الخيري هناك قبل نحو ثلاثة عقود من الزمان، وتم  تحويل لجان خيرية متناثرة هنا وهناك إلى مؤسسات عمل تطوعي كبيرة، تتحرك بأموال تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وتطور عمل هذه المؤسسات من عملية التوزيع التقليدي للمساعدات، إلى تأسيس وإنشاء مشاريع تنموية ومشاريع بنية تحتية واستثمارات للأسر الفقيرة والأيتام والأرامل.

وتوجد المئات من الجمعيات الخيرية الخليجية التي لديها برامج للمساعدات، سواء للإغاثة في الدول التي تتعرض لنكبات طبيعية أو أزمات وصراعات، أو في الدول التي تحتاج إلى مساعدات لإعادة الإعمار. وتأخذ هذه الجمعيات أشكالاً عدة، فمنها ما هو حكومي كجمعيات الهلال الأحمر، ومنها ما يعود للأسر الحاكمة التي تؤسس جمعيات خيرية باسمها لمساعدة المحتاجين في كل مكان، ومنها جمعيات نفع عام تأسست من تبرعات رجال الأعمال والمقتدرين.

إلا أنه وفي ظل الحملة الأمريكية على "الإرهاب" والتي ابتدأت عام 2003؛ تغيرت علاقة الأنظمة الحاكمة في دول الخليج مع هذه الجمعيات التي لطالما اعتُبر ناشطوها سفراء وئام وتنمية غير معيّنين لهذه الدول. وأصبح معيار التعامل معها هو معيار التعامل ذاته مع الجماعات الإسلامية المتشددة، ووجهت لهذه الجمعيات اتهامات نمطية تتعلق بتمويلها لأنشطة الجماعات الإسلامية المسلحة، التي اتهمت بتنفيذ عمليات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي استهدفت نيويورك وواشنطن.

وقد أوعزت الإدارة الأمريكية إلى الحكومات العربية، خصوصا الخليجية بتشديد قبضتها على الجمعيات الخيرية، تحت زعم تمويلها لما تصفه بالجماعات الإرهابية ضمن خطة أمريكية، مدعومة إلى حد ما أوروبياً، تهدف إلى تجفيف مصادر تمويل الجماعات الإسلامية. إلاّ أنّ الخطة الغربية تحوّلت بحسب المراقبين إلى خطة لتجفيف منابع الخير والمشاريع التنموية في المنطقة، خصوصاً وأنّ تلك الجمعيات حققت نجاحات تنموية لم تقدر حكومات على إنجازها.

ونظراً لصعوبة اتخاذ قرار بإنهاء عمل هذه الجمعيات؛ فقد اتخذت السلطات الخليجية إجراءات سعت إلى وضع أنشطة تلك الجمعيات واللجان تحت مراقبة صارمة، وهي مراقبة تهدف إلى التأكد من الأماكن والجهات التي تستفيد من أموال تلك اللجان. إلا أن تلك الإجراءات لم تكن كافية بالنسبة للأمريكيين الذين طالبوا بمراقبة طرق جمع الأموال، الأمر الذي دفع السلطات الخليجية إلى وضع ضوابط لجمع الأموال، تمثلت في طلب تصريح قبل جمع التبرعات، إضافة إلى منع وضع صناديق اللجان الخيرية في الأسواق والتجمعات كما كان حاصل سابقاً. وباتت الجمعيات مطالبة بإبلاغ الحكومات بأنشطتها، وباتت السلطات مطالبة بمتابعة أنشطة الجمعيات التي كانت في السابق تمارس عملها دون تدخل من السلطات؛ لإدراكها أن مساعدات جمعياتها تتوجه في الطريق السليم. وقد حدث ذلك في الإمارات والكويت والسعودية.

ففي الكويت، تم الإعلان عن إنشاء لجنة عليا للإشراف على الجمعيات الخيرية، كما أعلنت حكومة دبي عن تأسيس مجلس إشرافي تنسيقي لمتابعة أعمال الجمعيات الخيرية في الإمارة.

وبالرغم من أن بعض الجمعيات الخيرية في الإمارات تتبع الأسر الحاكمة هناك، مثل مؤسسة الشيخ زايد بن سلطان للأعمال الخيرية ومؤسسة آل مكتوم الخيرية؛ إلاّ أنّ ذلك لم يكن منبع طمأنينة للأمريكيين. وبلغ حجم إنفاق مؤسسة زايد لوحدها على المشاريع الخيرية في داخل الإمارات وخارجها عام 2004 نحو 83 مليون درهم (24 مليون دولار)، وتمتد مشاريعها لتشمل إنشاء عدد من المراكز الصحية ودور الأيتام، وكذلك مشاريع خيرية حول العالم، كما وصلت مساعداتها إلى السويد وبريطانيا لإنشاء مساجد للجاليات الإسلامية هناك. وكذلك هناك مؤسسة محمد بن راشد للأعمال الخيرية والإنسانية التابعة لحاكم إمارة دبي.

وعن الجمعيات التي تأسّست من قِبل رجال الأعمال وكبار التجار فهناك مثلا جمعية "بيت الخير" في دبي التي يرأس مجلس إدارتها رجل الأعمال المعروف خليفة النابودة، وتشكلت بمبادرة من مجموعة من رجال الأعمال لتقديم المساعدات المادية والعينية للأسر المحتاجة في داخل الإمارات وخارجها، وتعتمد مثل هذه الجمعيات في مصادر تمويلها على تبرعات رجال الأعمال والزكوات التي تجمعها على رؤوس أموال التجار.

وعادة ما تنشط الجمعيات الخيرية في شهر رمضان بالتحديد لجمع زكاة المال من التجار ورجال الأعمال، وفي المقابل تقدم المساعدات للمحتاجين في هذا الشهر حول العالم.

وقد اتبعت جمعية مثل "بيت الخير" في دبي فكرة تمويل أنشطتها بشكل مستمر عن طريق أن يتعهد رجل الأعمال بتخصيص مبلغ سنوي لأنشطة الجمعية علاوة على زكاة المال التي يخرجها سنوياً، لذلك لدى الجمعية العديد من المشاريع الخيرية مثل مشروع الصدقة الجارية "عطاء"، وهدفه تكوين وقف خيري لكل مشروع قائم أو تقوم به الجمعية على مدى عامين، وتعطي الجمعية من خلال هذا المشروع للمحسن أو المتبرع الحق في أن يعمل لنفسه وقفاً خاصاً به أو يساهم مساهمة دائمة في هذا الخير.

ويعود السبب في انتشار الجمعيات الخيرية بكثافة في دول الخليج دون غيرها من الدول العربية والإسلامية إلى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إلى ما حققته دول الخليج من وفرة مالية جراء ارتفاع عائدات بيع النفط. ورأت الحكومات الخليجية ومعها رجال الأعمال ضرورة مشاركة الآخرين همومهم من خلال مساعدة المحتاجين، ودعم الدول الإسلامية المحتاجة إلى مساندة مالية لإنشاء المساجد والمراكز الصحية والمستشفيات والمدارس.

ويرى بعض المراقبين أنّ العمل الخيري أضفى على دول الخليج طابعاً إنسانياً إيجابياً عند الشعوب المتلقية لمساعداتها الخيرية، كما يرى كثيرون أنّ دول الخليج استفادت إعلامياً من المساعدات الخيرية التي تقدمها للدول الفقيرة. وأيا كان الأمر؛ فليس هناك خلاف على أنّ المساعدات الخيرية التي تُقدّم من قبل الجمعيات الخيرية لعبت دوراً جوهرياً في تحسين معيشة العديد من الأسر المحتاجة.

وقد ظلّت الجمعيات الخيرية منذ انطلاقتها وحتى ست سنوات خلت، تمارس عملها الإنساني دون رقابة تذكر من جانب الحكومات الخليجية لأسباب أبرزها إدراك الحكومات أن مساعدات هذه الجمعيات تذهب إلى أوجه مشروعة. ولكنّ الرقابة بدأت تتسلّل إلى هذا القطاع بالتدريج، بمفعول ضغوط أمريكية أساساً.

وقد قال مسؤولون أمريكيون في عدد من التصريحات إنّ تصريحات المسؤولين في دول الخليج حول إحكام الرقابة على عمل المؤسسات الخيرية "لم يتعدّ سوى الحديث والكلام"، معتبرين أنّ تلك السلطات "أخفقت" في السيطرة على تلك الجمعيات التي يدريها رجال أعمال كبار، مشيرين إلى خشية الحكومات من الدخول في صراعات مع القائمين على تلك الجمعيات.  كما أنّ هناك إجماعاً عاماً لدى الرأي العام الخليجي مفاده أنّ مساعدات هذه الجمعيات لم تذهب يوماً لأية جماعات خارجة على القانون.

إلاّ أنّ الخبير الاجتماعي الخليجي فؤاد العلي؛ رأى أنّ محاصرة "عمل الخير" في دول الخليج يبدو وكأنه "المهمة المستحيلة" لواشنطن والحكومات الخليجية معاً، مشيراً إلى أنّ عمل الخير ينبع من النفوس "ومحاصرته تحتاج إلى محاصرة الخيرين أنفسهم"، معتبراً أنّ ذلك "من الصعب أن يحصل .. لن تتمكن من تكبيل رجال الأعمال الذين يعتبرون جزءا من قادة الرأي العام في الخليج .. إن القضية مرتبطة بمفاهيم راسخة نابعة من العقيدة الإسلامية".

المصدر: http://www.humanitarianibh.net/articles/emirate.htm

الأكثر مشاركة في الفيس بوك