المجتمع الخيري الصالح بحسب الماوردي والنظام القيمي في التجربة الإسلامية

رضوان السيد

 

-I-



المجتمع المؤمن وقيمه:



حدَّد الله سبحانه وتعالى سِمات ومعالم المجتمع الخيري في سورتين من سُوَر القرآن الكريم هما سورة الفُرْقان (الآيات: 62-72)، وسورة المؤمنون (الآيات1-10). وعلى غير عادة القرآن -الذي يخاطب الرسولَ صلواتُ الله وسلامُهُ عليه أو يخاطبُ الإنسان- فإنه في هاتين السورتين تركّز الخطابُ على "عباد الرحمن" أو على "المؤمنين". وتتناولُ آيات السورتين المسائل الأخلاقية المتعلقة بتعامُل المؤمنين فيما بينهم، وتعامُلهم مع الآخرين، والقيم والتصرفات الأخلاقية التي تصنعُ المجتمع المؤمن؛ باعتباره مجتمعاً خيرياً واحتسابياً. فعبادُ الرحمن في سورة الفرقان ﴿يمشون على الأرض هَوناً﴾؛ أي أنهم ينظرون إلى الأشياء بعين العقل والسلام والاتّزان في التصرفات الشخصية، وفي التصرفات تُجاه الآخَرين أياً كانت أفعالُ أولئك الآخرين وتصرفاتهم تُجاههم. وبالطريقة نفسها يتعاملون مع مسائل المال والثروة ﴿لم يُسرفوا ولم يقتُروا﴾. ثم إنهم لا يرتكبون المحرَّمات -وبخاصةٍ القتل والزنا- ولا يشهدون الزور، ويُعرضون عن اللغو، ويحيَوْن حياةً علانيةً وشرعيةً في مسائل النسْل وبناء الأُسرة الصالحة(1). أمّا في سورة المؤمنون، فيأتي حفظ الفرج والتعفف في الحياة الخاصّة بعد الصلاة مباشرةً، ثم يأتي حفظ العهد والوفاء بالوعد في التعامُل، ويأتي ضمن السِمات في آيات السورتين ذكْر الفروض العبادية باعتبارها هي التي تقود إلى الأعمال الصالحة التي تذكرها الآيات(2). والأمر الآخَرُ أنهم يقصدون بذلك كلِّه مرضاة الله؛ أي أنّ فلسفة مجتمع المؤمنين هي فلسفةٌ قيميةٌ احتسابيةٌ، تقوم على ركنين أساسين: الركن الأول الإيمان الذي يُنتج أو يترتبُ عليه العمل الصالح وهو الركن الثاني(3). 



إنّ السِمات التي تتحدث عنها آيات السورتين -والتي يترتّبُ، أو يجب أن يترتّبَ فيها العملُ الصالح على الإيمان- إنما تُشعِرُ بذلك لا بطرائق ميكانيكية أو سببية بحتة؛ بل لأنها ترتكزُ على مجموعةٍ من القيم هي الواسطة- إذا صحَّ التعبير- بين الإيمان والعمل. وقد استظهرنا في دراساتٍ سابقةٍ أنّ هذه القيم هي: المساواة والرحمة والكرامة والعدل والتعارُف والخير العام(4). وهذه منظومةٌ انشغلت بها المجتمعات الإسلامية الأُولى في تجربتها مع القرآن وأخلاقه، والدليلُ على ذلك أنّ موضوعيْ الإيمان والقَدَر(5) كانا الأمرين اللذين شغلا المتكلمين الأوائل؛ في حين انشغل الفقهاء بمتطلبات وشروط وكيفيات العمل الصالح. أمّا موضوع القَدَر فقد صار شغلاً شاغلاً في فهم العلاقة بالله عزَّ وجلّ، وحرية الإنسان في القيام بهذا العمل أو ذاك، ويعني هذا كُلُّه أنّ الإيمانَ الذي يُنتج عملاً صالحاً متصلٌ بموضوعين: القيم الموجِّهة، والحرية في التفكير والتصرف.



سمَّى متكلمو المعتزلة - أقدم فرقةٍ كلاميةٍ في الإسلام- أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والتوحيدُ المقصودُ به تنزيهُ الذات الإلهية عن مشابهة البشر، أمّا العدل فيعنون به الدفاعَ عن صورة الله سبحانه وتعالى، وليس بالدرجة الأولى عن حرية الإنسان في الفعل أو عدمه. فإذا كان العبدُ مسؤولاً عن أفعاله فينبغي أن يكونَ هو الذي استقلَّ بفعلها؛ في حين لا يكون من العدل أن تناله العقوبة على الذنب، أو ينال المثوبة على فعل الخير أو التوبة إذا كان المولى عزَّ وجلَّ هو خالقُ الفعل، أو يكون معنى القضاء والقَدَر هو المعنى المتعارَف عليه. وبذلك صارت أُصول المعتزلة التي تضبط انتماءهُمُ المدرسيَّ خمسةً هي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(6). وبذلك يظلُّ العدل إلى جانب الإيمان القيمة الرئيسة في النظام الفكري للمعتزلة الأوائل. فتفكير المعتزلة عَقَدي أو لاهوتي وأخلاقي، وهناك مَشَابهٌ لنظامهم هذا لدى المسيحيين الذين عرفوهم في الشام والعراق؛ لكنهم يستدلُّون على كلّ ذلك من القرآن إنما بتأويلاتٍ بعيدةٍ أحياناً.



وفي الوقت الذي كان فيه المعتزلة يزدهرون في الربع الأول من القرن الثالث الهجري، وتمضي طليعتُهم في التحالف مع السلطة العباسية، وإقبال قسم كبيرٍ منهم على النتاج الفلسفي المترجَم، ماضين باتّجاه بحث مسألة الحُسْن والقبح في الأشياء والأفعال؛ أي باتجاه تحديد وظائف العقل الإنساني، والسعْي الإنساني نحو مسألة القيمة والمعنى وليس الفعل وحسْب؛ كان المتأدبون منهم -مثل ثُمامة بن أشرس والجاحظ- يكتبون الرسائل الساخرة من فقهاء العامة، فيسمُّونهم بالنابتة، ويتهمونهم بالتجسيم للذات الإلهية. أمّا فقهاءُ العامة هؤلاء -والذين سمَّوا أنفُسَهم بأهل السنة وأصحاب الحديث- فقد كانوا يعجبون ويسخرون من محمَّد بن عبد الملك الزيّات -وزير الواثق والمتوكّل الذي كان يعذّب خصومه في التنُّور- فإذا سُئل الرحمةَ بهم قال ساخراً ومستكبراً: لا رحمةَ؛ لأنَّ الرحمةَ خَوَرٌ في الطبيعة! حتَّى إذا وضعه سيّدهُ هو نفسُه في التنّور وصاح طالباً الرحمة، أقبل هؤلاء على السخرية منه بالطريقة نفسِها: كيف تطلُبُ الرحمةَ وهي خَورٌ في الطبيعة؟!(7) وقد لا يكونُ شيء من ذلك قد حَدَث؛ لكنْ لنُلاحظْ هذا التقابُل بين مركزية قيمة العدل في نظام المعتزلة الكلامي، ومركزية قيمة الرحمة في النظام الذي كان أصحابُ الحديث يحاولون بلورتَه. لقد كان النقاشُ أو الجدالُ ما يزال يدورُ ظاهراً حول التنزيه أو حول صورة الله وعلاقة الإنسان به، وما كان أصحابُ الحديث من أنصار الكلام أو من عارفيه، إنما في هذا الجيل بالذات ظهر التوجُّهُ الذي يريد مواجهة المعتزلة والفلاسفة معاً وبالأساليب الكلامية؛ إنما من ضمن رؤيةٍ أُخرى تضعُ الصفات الإلهيـة -وفي طليعتها قيمةُ الرحمة- في قلب النظام القديم/ الجديد. ويذكر مؤرّخو الكلام بين طلائع أصحاب هذا الاتجاه كلاًّ من المحاسبي (-243هـ)، والقطّان وابن كُلاّب، وهم يستندون في ذلك إلى ظواهر النصّ القرآني القديم أو غير المخلوق، فالله سبحانه وتعالى عادلٌ ولا يظلمُ أحداً، وهو كتب على نفسه الرحمة، وأقام علاقة الإنسان به على العناية والفضل واللطف، وليس على العدل؛ وإن يكن العدلُ متضمَّناً تحت سقف الإحسان والرحمة. ومضت حوالي المائة عام، قبل أن يجرؤ أبو الحسن الأشعري (-324هـ) على الانشقاق عن المعتزلة، والإقبال على بناء النظام اللاهوتي والقيمي الآخر، لاهوت العناية والرحمة والفضل. وظلَّ الفعلُ الإنسانيُّ- الذي يسميه الأشعريُّ كسْباً- مشكلةً كبرى لأصحاب النظام الجديد، الذين صاروا بالتدريج الاتجاه الكلامي الرئيس لدى أهل السنة. قال الأشعريُّ: إنّ الخلق كلَّه لله، بما في ذلك أفعال الإنسان، والمرءُ إنما يكسب أعمالَهُ ولا يخلُقُها. وهو يحاسَبُ ليس على الفعل بالذات، بل على اختيار الفعل أو التَرك. والمسؤوليةُ تترتبُ على هذا الكسْب الناتج عن النية والاختيار. والاعتبارات الدافعة لهذا التأويل البعيد اعتبارُ الإيمان بالقَدَر جزءًا من العقيدة، واعتبارُ تفرد الله سبحانه بالخَلْق: ﴿له الخلْقُ والأمر﴾(8). وما أقنع هذا التعليل كثيرين من المتكلمين حتَّى جاء الباقلاّني (-403هـ) فأَكمل النظام، بما في ذلك القول: إنّ أحكام القيمة(=الحُسْن والقُبح) هي أحكامٌ إلهيةٌ، وليست عقلية. فالقيم هي المُطلَقة، أمّا الأفعالُ فهي نسبيةٌ من حيث الحكمُ عليها من الناحية العقلية بالتحسين أو التقبيح، فإذا ترتّب عليها ثوابٌ أو عقابٌ صارت شرعية(9). وصحيحٌ أنّ كسْبَ الأشعري بقي موضعَ نزاع؛ لكنّ أشعرية العامة هذه سادت لدى السواد الأعظم منذ القرن السادس الهجري.



وهكذا فإنّ تجربة المتكلمين وصراعاتهم خلال ثلاثة قرونٍ على قراءة النصّ القرآني ترتّب عليها ظهورُ لاهوتيْن: لاهوتُ التنزيه والعدل، ولاهوتُ العناية والرحمة والفضل. والله خالقٌ في التصوُّرين؛ لكنه ذاتٌ مجردةٌ ومحايدةٌ لدى المعتزلة والفلاسفة، وهو ذاتٌ فاعلةٌ ومتدخّلةٌ بالخَلْق المستمر وبالعناية والرحمة لدى الأشاعرة.



أمّا التجربةُ الفقهيةُ فقد انفصلت عن الكلام وأهلِه بعد أبي حنيفة (-150هـ)، فقد كانت لدى أبي حنيفة اهتماماتٌ كلاميةٌ وأُخرى سياسية؛ لكنه كان واضحاً في قسمة العلم إلى قسمين: الفقه الأكبر: أو علم الكلام أو أُصول الدين- والفقه الأصغر: فقه الفروع الذي يهتمُّ بعبادات الناس ومعاملاتهم من حيث الحِلُّ والحرمةُ والمُلاءمة. فإذا كان المتكلم مهتماً بصحة عقائد الناس؛ فإنّ الفقيه مهتمٌّ بتصحيح عبادات الناس ومُعاملاتهم؛ أي أنه مهتمٌّ بتعليم الناس دينهم، وتسهيل عيشهم، ومصالحهم في الدنيا. وهكذا فإنّ عمل الفقيه هو عملٌ أخلاقيٌّ في مبتدئه وغاياته، هو عملٌ أخلاقيٌّ في دوافعه، وهو عملٌ أخلاقيٌّ في استهدافه مصلحةَ الناس في معاشهم وبالتالي في معادهم. بيد أن الفقهاء قبل القرن الخامس الهجري ما اهتموا بالتنظير لاجتهادهم في المصالح، ولا اهتمّوا بكتابـة قراءات شاملةٍ للنظام الفقهي. أمّا في القرن الخامس فنجد صوفيةً وفقهاء من الشافعية والحنابلة، حاولوا القيـام بشيء من ذلك؛ ومن هؤلاء الحكيم الترمذي (-290هـ)، وأبو الحسن الماوردي (-450هـ)، وأبو يعلى الحنبلي (-458هـ)، وإمام الحرمين الجويني الشافعي (-478هـ)، والغزالي الشافعي (-505هـ)، والراغب الأصفهاني(502هـ) المختلَف في توجُّهه العقَدي والفقهي. ويعيد بعض مؤرّخي الفقه -مثل ابن الصلاح- اهتمامات الماوردي النظريَّة والقيمية إلى أنه كانت لديه ميولٌ معتزلية(10)؛ إنما الطريف أنه في كتابه "أدب الدنيا والدين" حاول أن يؤلّف بين لاهوتي العدل والرحمة؛ إذ تحدث عن الأُصول القيمية والخيرية التي رآها ضروريةً لصلاح حال دنيا الإنسان فاعتبرها ستاً وهي: دينٌ متبعٌ، وسلطانٌ قاهرٌ، وعدلٌ شاملٌ، وأمن عامٌّ، وخصبٌ دارٌّ وأملٌ فسيح.



-II-



الماوردي والمجتمع الخيري:



عندما كان الماوردي (-450هـ) يكتب كتابه عن المجتمع الخيري في الإسلام بعنوان: "أدب الدنيا والدين" في عشرينات القرن الخامس الهجري(11)، كانت الاتجاهات والمدارس الكلامية والفقهية والفلسفية قد اكتملت على وجه التقريب؛ فالمتكلمون صاروا معتزلةً وأشعريةً وزيدية، والفلاسفة صاروا أرسطيين وأفلوطينيين، والفقهاء صاروا أحنافاً وشافعيةً ومالكيةً وحنابلة. وقد تداخلت الاهتمامات والمناهج، كما تداخلت الثقافات ووجوه الوعي، وسادت الثقافة الإسلامية العامة القائمة على مشتركاتٍ كبرى نتيجة تداخُل المناهج والاهتمامات. ولأنّ المتكلمين كانوا قد أعرضوا عن بحوث التنزيه والفعل الإنساني، وانهمكوا في بحوث الجوهر والعَرَض والتوليد متأثّرين بالفلاسفة؛ فإنّ البحث الأخلاقي صار أدنى إلى التخصص الفلسفي، أو أنّ فلاسفة الإسلام تقدموا في بحوث مسائله، وما خلا الأمر من بحوثٍ أو تأملاتٍ بالأَحرى في المجال الأخلاقي في صورة شذراتٍ لدى كبار المتصوفة، وهذا الأمر يعطي الماوردي قيمةً في إقباله على الدرس القيمي والأخلاقي بفلسفةٍ إسلامية، مثل ميزته الأُخرى في اجتراح الفقه الدستوري في كتابه: "الأحكام السلطانية والولايات الدينية". فابن أبي الدنيا في القرن الثالث كتب كثيراً في الأخلاق الزُهدية؛ بينما في القرن الرابع كتب العامري ومسكويه ويحيى بن عدي في الأخلاق الفلسفية. ولا نعرفُ في عصر الماوردي من كتب في الفلسفة الأخلاقية الإسلامية غير الراغب الأصفهاني في "تفصيل النشأتين" و"الذريعة إلى مكارم الشريعة". والمشترك بين الرجلين كبير؛ لكنّ الراغب (الذي يملك ثقافةً فلسفيةً معتبرة) كان مثل الماوردي معتمداً على القرآن، وأكثر من الماوردي رجوعاً إلى الثقافة الفلسفية، في حين ظل الماوردي أكثر اهتماماً بالموروث الأدبي والحكَمي العربي. الفلاسفة يريدون من البحث الأخلاقي الوصول إلى "مجتمع السعادة"؛ بينما يريد الراغب والماوردي وصف تجربة مجتمع الخير والصلاح(12).



قسم الماوردي كتابه(13) إلى خمسة أبواب: الأول في فضل العقل وذمّ الهوى، والثاني في أدب العلم، والثالث في أدب الدين، والرابع في أدب الدنيا، والخامس في أدب النفس. والتقسيم كما هو واضحٌ مُركَّبٌ من كتب الأخلاق الفلسفية (وبخاصة بابيْ العقل والنفس)، وقد أعاد الماوردي الاعتبار إلى التجربتين القرآنية والإسلامية، عندما جعل بابي الدين والدنيا مركز الكتاب وقُطب دائرته؛ بيد أنّ الماورديَّ لا يختلف مع الفلاسفة بهذا المعنى فقط؛ بل إنه في باب أدب العلم لا ينصرف مثلهم إلى تقسيم العلوم إلى ديني وبرهاني ورياضي.. الخ؛ بل العلمُ عنده هو العلمُ الإسلامي، وإن لم يعالجه بالمعنى الفقهي، بل بالمعنى المعرفي والسلوكي، أو بالأحرى: العلم الذي يؤثّر في السلوك أو المقصود باكتسابه ذلك التأثير، دون أن يبلغ في هذا المجال ما يذهب إليه الصوفية. 



والعقل عند الماوردي قسمان: مطبوعٌ ومسموع، والمطبوع هو الغريزي أو الفطري، بينما المسموع هو المكتَسَب بالتجارب. وكان المحاسبي (-243هـ) قد اعتبر العقل غريزةً تقوى وتزيد بالتجارب، وكان يقصدُ بذلك الردَّ على اعتبار الفلاسفة العقلَ جوهراً فرداً(14). والماورديُّ ينحاز إلى رأي المتكلمين والفقهاء هذا في تقسيمه للعقل؛ لكنه يمضي في اتجاه الفلسفة عندما يهتمُّ كثيراً بالعقل النَظَري، وهو خليطٌ من الفطري والمكتَسَب. والدليل على أنه يمضي أكثر من الفقهاء والمتكلمين أنه سُرعان ما يصل إلى مبحثٍ يتصل بتقدم العقل على الشرع أو العكس. وهو يقول بتقدم العقل في مسائل الوحدانية وإدراك الكونيات، ويستطرد أنّ الشرعَ دلَّ على ذلك بكثرة ما ذكر القرآن العمليات التعقلية. والواقع أنّ القرآن الكريم يمضي من الفطرة (هل هي مُرادفة للعقل؟!) إلى مسائل العقل العملي أو الأعمال التدبيرية للعقل، أمّا القدرات الإدراكية للعقول فيعود لمعالجتها في باب العلم. على أنّ هذه الثقافة الفلسفية أو شبه الفلسفية تتوارى عندما يصل إلى فصل الهوى، فيدرسه من وجهة نظرٍ عربيةٍ بحتة، باعتباره صَدَأ العقل أو ما هو مُضادٌّ له من أهواء النفس، وبذلك يعود التقديم للعقل التدبيري أو التعقُّل العَمَلي. على أنّ هذه الجدالية المركَّبة والتي تسير على الحافّة أو تظلُّ متوتّرة تبدو عندما يظلُّ موضوع العقل حاضراً- كما سبق القول- ليس في باب العلم فقط؛ بل وفي باب أدب الدين. والعلم عند الماوردي- كما سبق- مختلفٌ تماماً عنه عند الفلاسفة، وحتى عند الراغب الأصفهاني(15). أمّا في باب أدب الدين فالبارزُ أمران: الارتباط الوثيقُ عنده بين الدين والعقل والعلم، والأمر الآخر ذاك الكلام المبسوط في عِلَل العبادات أو مقاصدها ولماذا تتقدم الصلاة على الزكاة، والزكاة على الصوم، والصوم على الحج. ولدينا مشابهٌ من هذا المبحث المقاصدي لدى الحكيم الترمذي في كتبه عن مقاصد الصلاة أو أسرارها وأسرار الحج. لكن الماورديَّ -والحق يقال- يعدّ أبواب العقل والعلم والدين ممهِّدات للبابين الأخيرين: أدب الدنيا وأدب النفس. وفي باب أدب النفس- وهو أطولُ أبواب الكتاب- هناك تركيزٌ على أمرين: الأخلاق وكيف تكتسبُها النفس، وآداب المواضعة والاصطلاح وكيف يجري تعلمها أيضاً. وهو كما في كل أبواب الكتاب يفيد من تقسيمات الذين كتبوا في النفس والأخلاق في القرنين الثالث والرابع، لكنّ مضامين البابين- باستثناء بعض الاستشهادات والتقسيمات- هي عربيةٌ وإسلاميةٌ أو مؤسلمة. فهو على سبيل المثال- وبخلاف صنيع الراغب الأصفهاني مثَلاً- يذكر قوى النفس بحسب التقسيم الأرسطي إلى غضبية وشهوية، وفضائل ورذائل على أساسٍ من هذه القوى؛ لكنه لا يرتّب عليها نتائج كبرى أو بارزة(16)؛ بل إنما يركّز على ما يمكن اعتباره أخلاقاً اجتماعيةً، تستند إلى الفطرة السليمة في التأسيس (الطبع)، وإلى التخلُّق والاكتساب في العمليات.



ولنعُدْ إلى رؤية الماوردي أو مشروعه للمجتمع الخيري، وهو -والحقُّ يقال- مبحثٌ لم يُسَبقْ إليه، كما لم يُسبَقْ إلى كتابه السياسي: الأحكام السلطانية. يرى الماوردي أنّ صلاح الدنيا معتبرٌ من وجهين(17): أولهما ما ينتظم به أمور جملتها. والثاني ما يَصْلُحُ به حالُ كلِّ واحدٍ من أهلها، "فهما شيئان لا صلاحَ لأحدهما إلاّ بصاحبه"؛ بيد أنّ باب أدب الدنيا هذا أو أدب المجتمع إنما هو مخصَّصٌ للأمر الأول؛ أي انتظام الأُمور على الجملة أو انتظام الأمر الاجتماعي، أمّا المسألة الأُخرى المتعلقة بالأفراد فهو يعالجُها في الباب الخاصّ بأدب النفس(18). فالذي تصلُحُ به الدينا؛ حتَّى "تصير أحوالها منتظمة وأُمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدُها وإن تفرعت وهي: دينٌ متبعٌ، وسلطانٌ قاهر، وعدلٌ شاملٌ، وأَمْنٌ عامُّ، وخِصْبٌ دارٌّ، وأملٌ فسيح". وهذه عناصر ما سُبق إليها الماورديُّ بهذا الكشْف وهذا الترتيب؛ أي الدين والسلطة والعدل والأمن والخصب (التنمية!) والأمل (النظر المستقبلي أو انفساح الآفاق).



يتحدث الماوردي إذن في القاعدة الأُولى(19) (=الدين المتَّبع) من قواعد صلاح أمر الدنيا -دنيا الإنسان وخيريتها- عن الدين باعتباره نظاماً أخلاقياً عاماً "يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطِف القلوب عن إراداتها حتَّى يصير قاهراً للسرائر، زاجراً للضمائر، رقيباً على النفوس في خلواتها، نَصوحاً لها في مُلمّاتها. وهذه الأُمور لا يُوصَلُ بغير الدين إليها، ولا يصلُحُ الناسُ إلاّ عليها، فكان الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأَجدى الأُمور نفعاً في انتظامها وسلامتها. ولذلك لم يُخْلِ الله تعالى خَلْقَه مُذْ فطرهم عقلاء من تكليفِ شرعٍ، واعتقاد دينٍ ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرفُ بهم الأهواء..". لدينا هنا إذن أمران: الدين باعتباره نظاماً قيمياً وأخلاقياً شاملاً، وأنه يعتمد في تأثيره على الدخلنة، وليس على الضبط الخارجي. فالانضباط الإنساني بالدين هو انضباطٌ من داخل الإنسان، نتيجة التسليم بالأصل الإلهي له باعتبار ذلك سلطةً أو مرجعيةً عليا. ويستخدم الماوردي تعابير ومفردات: السرائر والضمائر والرقابة في الخلوات، وهذا معناه أنّ الدين يعني الانضباط الفكري والسلوكي بدخوله المطواع على نوازع النفس الإنسانية تهذيباً وقَوْداً إلى الحقّ والاطمئنان والانتظام. والماوردي يستخدم بالفعل مفرداتٍ وتعابير عن النتائج التي يُحدثُها الدين في إنسانية الإنسان وانقيادها لأوامره ونواهيه، وهي: الانتظام والسلامة والصلاح. فالدين مُنتجٌ للمجتمع الصالح والخيري لجهتين: أنه يؤلّف النفوس ويضبطُها، وأنه يأمر بالمعروف بالمعنى الإيجابي فيندفع الإنسانُ فردياً وجماعياً للأعمال الصالحة. فالفرد الإنساني ينضبط بالقيم الدينية، والمجتمع الإنسَاني يحتضن الشريعة فتتدخلنُ في سلوكه العام، كما تدخلت في فكر الفرد وسلوكه، وتشكّل القاعدة الأولى (=الدين المتّبَع أو السائد) لصلاح المجتمع الإنساني، أو كما يقول الماوردي: صلاح حال الدنيا! 



ثم تَعْرِضُ لدى الماوردي الإشكاليةُ التي عرضتْ له في باب العقل؛ فانصرف لمناقشة مسألة الأولية بين الدين والعقل! فقال: "إنما اختلف العلماء في العقل والشرع، هل جاءا مجيئاً واحداً أم سبق العقل ثم تعقّبه الشرع. فقالت طائفةٌ: جاء العقل والشرع معاً مجيئاً واحداً لم يسبق أحدُهُما صاحبه، وقالت طائفة: بل سبق العقل ثم تعقّبه الشرع؛ لأنه بكمال العقل يُستدلُّ على صحة الشرع، وقد قال الله تعالى: ﴿أيحسبُ الإنسانُ أن يُترك سُدى﴾ وذلك لا يوجد إلاّ عند كمال عقله!". والواقعُ أنه لولا ثقافة الماوردي الفلسفية والكلامية لما عرضت له هذه الإشكالية؛ ففي الثقافة العربية أنّ العقل ضدُّهُ الهوى، وهو القامعُ له؛ بينما يعتبر الماوردي في كلامه السابق أنّ الدين هو الذي يضبط الأهواء والنوازع دونما قمْعٍ، أمّا القمع فتمارسُهُ السلطات الاجتماعية والسياسية. إنما الذي أَشكل على الماوردي ليس الموروث العربي فقط؛ بل والثقافة الفلسفية التي تعدّ العقلَ جوهراً فرداً مستقلاً بتدبير الإنسان، والدين في هذه النظرة هو أحد أدوات العقل ووسائله في دفْع الإنسان للانضباط الأخلاقي والسلوكي. وهذا التأمل تابعٌ لدى المتكلمين لمبحث الحُسْن والقبح: فمن الذي يملك سلطة تحديد الحسن من الأفكار والأعمال، والقبيح منها؟ والمعروف أنّ المعتزلة يرون أنّ السلطةَ للعقل في هذا المعرِض؛ بينما يرى الأشاعرةُ أنّ السلطة للشرع، ويذهب متأخروهم إلى التفرقة بين العمل الديني أو ما يترتب عليه ثوابٌ أو عقابٌ، والأعمال الأُخرى التي لا يترتب عليها شيء من ذلك. فالعمل الذي يترتب عليه ثوابُ وعقابٌ يختصُّ الشرع بتحديده، أمّا "الأعمالُ المباحةُ"؛ فإنّ تحديد حسْنها أو قُبْحها هو شأنُ العقل. ومن هذا الاستعراض يتبين أنّ الماورديَّ ما تعامل مع الموضوع تعامُلَ الفقهاء أو المتكلمين الأشاعرة الذين يقولون بأولية الدين على العقل في الشأن التدبيري على الأقلّ. وكان المحاسبي (-243هـ) -الذي يُعطي العقل وظيفةً تدبيريةً أيضاً- قد حلَّ الإشكالَ بأن اعتبر العقل غريزةً أو من الدوافع الإنسانية، ووحَّد بين الشرع وعقل الجماعة، فدعا إلى "العقل عن الله"(20)؛ بمعنى أنّ الجماعة التي تحتضن الدين فيشكّل قيمها ووجوهَ سلوكها، تتوجه بكليتها إلى المولى سبحانه، لا يفترقُ فيها عقلٌ عن دين، ولا يتقدم أحدُهما على الآخر. وربما كانت وجهة النظر هذه هي التي يعرضُها الماوردي باعتبارها رأْياً أول للعلماء: "قالت طائفةٌ جاء العقل والشرع معاً مجيئاً واحداً لم يسبق أحدُهُما صاحبَه"! ومع أنّ الماورديَّ لا يُصرّح بماهية توجُّهه الشخصي من المسألة؛ لكنّ ما يختمُ به يدلُّ على أنه يميل لترجيح أولية العقل أو تقدمه، فهو يفسّر قوله تعالى: ﴿أيحسب الإنسانُ أن يُترك سُدى﴾ على أنه يعني أنّ الدين لا يأتي إلاّ بعد كمال العقل"؛ لأنه "بكمال العقل يُستدلُّ على صحة الشرع"! وظاهرُ الآية يدلُّ على عكس ذلك، بمعنى أنّ العناية الإلهية لا تُفارقُ الإنسان منذ خَلْقه، فالدين مع الإنسان منذ بدء الخَلْق. ثم يعود الماورديُّ فيحسم أمره لصالح التمييز في الوظائف بين الدين والعقل؛ إذ يُوردُ عن "بعض الحكماء" قولهم: "الأدبُ أَدَبان: أدبُ شريعةٍ وأدبُ سياسة؛ فأدب الشريعة ما أدَّى الفرض، وأدبُ السياسة ما عَمَر الأرض". فالدين ذو وظيفةٍ تكليفية وانضباطية وتعبدية، والعقل (معبَّراً عنه هنا بالسياسة) ذو وظيفةٍ تدبيريةٍ في مجال إعمار الأرض. وهاتان الوظيفتان تعودان للالتقاء في قيمة العدل: "وكلاهما - أي الدين والعقل- يرجع إلى العدل الذي به سلامةُ السلطان وعمارةُ البلدان؛ لأنّ مَنْ ترك الفرض فقد ظلم نفسَه، ومن خرَّب الأرضَ فقد ظَلم غيرَه"!



ومن دون الانتهاء إلى نتيجةٍ حاسمة (وربما كان قاصداً لذلك) يصل الماوردي إلى القاعدة الثانية(21) في صلاح الدنيا، وتحقيق المجتمع الخيري؛ وهي السلطان القاهر، الذي "تتألف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكفّ بسطوته الأَيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية.."؛ لأنّ "في طباع الناس من حبّ المغالبة على ما آثروه، والقهر لمن عاندوه ما لا ينكفّون عنه إلاّ بمانعٍ قويٍّ ورادعٍ مَليّ..". ويتابع الماوردي تعظيمه لشأن السلطة ودورها القهري من طريق إيراد الآثار المعروفة مثل: ظل الله في الأرض، وإن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، والإمام الجائر خيرٌ من الفتنة، إلى أن ينتهي إلى القول: "السلطان في نفسه إمامٌ متبوع، وفي سيرته دينٌ مشروع؛ فإنْ ظلم لم يعدلْ أحدٌ في حكم، وإن عدل لم يجسُرْ أحدٌ على ظُلْم..". وهكذا فإنَّ السلطة تملك تجاه المجتمع الإنساني وظائف هوبزية (نسبة لتوماس هوبز) إذا صحَّ التعبير. والماوردي يستخدم في هذا المعرض أقوى التعابير: فالسلطان قاهر، وهو يرغم القلوب المتفرقة على الاجتماع، والأيدي المتغالبة على الكفّ، والنفوس المتعادية على عدم الاندفاع إلى المزيد من الاقتتال. فهو كما يقول هوبز: يمنع حَرْب الجميع على الجميع التي تدمِّرُ المجتمع البشري! والمعروف أن النظريَّة الفلسفية اليونانية في قيام المجتمع والدولة: أنّ الناس يجتمعون من أجل التكامُل في قضاء الحاجات الأساسية، وهي المأكل والملبس والمسكن. ولكي يستمر هذا الاجتماع لا بد من سلطةٍ تكفُّ عادية بعضهم على بعض، وأفعالهم الغَرَزِيّة. ويتحدث الفلاسفة عن "سُنّةٍ" أو قانون ينفذه السلطان في المجتمع، باعتبار أنّ الجميع يُسلّمون به، ويتحرك هو لتأليف القلوب من حوله من خلال الدين المتَّبَع هذا(22). وقد توصّل الماوردي إلى ما يشبه هذه الرؤية في كتابه: "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلْك"؛ لكنه هنا يعطي السلطة قوةً أكبر؛ إذ هي لا تحمي الإنسان من نفسه والآخرين وحسْب؛ بل وهي تحمي الدين وتحرسه. وكان الرجل قد اعتبر في "الأحكام السلطانية" أنّ مهمتي الإمامة(=السلطة) الرئيستين هما: حراسةُ الدين وسياسةُ الدنيا. وهو هنا يذهب إلى أنّ السلطان - إضافةً إلى أثره في التأسيس للصلاح الاجتماعي والإنساني- له أثرٌ كبيرٌ أو وظيفة في "حراسة الدين، والذَبّ عنه ودفْع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه (كذا) وزجْر من شذَّ عنه بارتدادٍ، أو بَغَى فيه بعنادٍ، أو سعى فيه بفساد. وهذه أُمورٌ إن لم تنحسمْ عن الدين بسلطانٍ قويٍّ ورعايةٍ وافية أَسرع فيه تبديلُ ذوي الأهواء، وتحريفُ ذوي الآراء. فليس دينٌ زال سلطانه إلاّ بُدّلت أحكامُه وطُمِستْ أعلامُه، وكان لكلِّ زعيم فيه بدعة، ولكلٍّ عصرٍ في وَهْيه أثّر..". إنما إذا كانت السلطة على هذه الأهمية للدين؛ فإنّ الدين مهمٌّ أيضاً للسلطة، وعليها أن تكونَ ملتزمةً به؛ لكي يعتقد الناس شرعيتَها وينفذوا أوامرها، فالسلطة دون دينٍ تلتزم به، تكون "سلطان قهر ومفسد دهر.. فوجب إقامةُ إمامٍ يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة؛ ليكونَ الدين محروساً بسلطانه، (ويكون) السلطان جارياً على سَنَن الدين وأحكامه". وما أورد الماورديُّ هذه المرة مقولة أردشير: الدين أُسّ، والسلطان حارس، وما لا أُسَّ له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع؛ لكنه أَورد بيتاً قال إنه لعبدالله بن المعتز جاء فيه: 



المُلْكُ بالدين يبقى ... والدين بالمُلْك يقوى 



ومرةً أخرى يهتم الماورديُّ بإشكالية "ضرورة السلطة"، وهل تتأسس الضرورةُ على العقل أو على الشرع. ومرةً أُخرى يذكر اختلاف الدارسين، فمنهم من يقول: إنّ ضرورة السلطة تتأسَّس على العقل؛ لأنّ في ذلك مصلحةً اجتماعيةً قاهرة. ومنهم مَنْ يقول: إنها تتأسَّسُ على الشرع؛ لأنها تملك مهماتٍ دينية. والماورديُّ يميل في "الأحكام السلطانية"(22) إلى تأسُّس ضرورة السلطة على الأمرين؛ أي العقل والشرع. وفي ضوء أهمية السلطة والسلطان للمجتمع البشري، يعالج الماوردي أمرين آخرين: أولهما: مسألة وحدة السلطة، وقضية مهامِّها. في المسألة الأولى يقول: إنّ من الضروري في رأي العلماء أن يكون الإمامُ واحداً لتبقى الأمة والأرض موحدة. إنما إذا كانت الأقطار متباعدة ويُخشى من انتشار الفوضى، فعندها يجوزُ اختيارُ إمامين. وهذا نقاشٌ طويلٌ يكرّر فيه الماوردي ما ذكره في "الأحكام السلطانية". وتتلخص مهامُّ السلطة عند الماوردي -والتي تجعل منها ضرورة- في سبع: (1) حفظ الدين من تبديلٍ فيه. (2) وحراسةُ البيضة والذبّ عن الأمة من عدوٍ في الدين أو باغي نفسِ أو مال. (3) وعمارةُ البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سُبُلها ومسالكها. (4) ومعاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فضلها. (5) وتقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين من غير تحريفٍ في أخذها وإعطائها. (6) وإقامة الحدود على مستحقها بغير تجاوُزٍ فيها ولا تقصيرٍ عنها. (7) واختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها والأمانة عليها. ومهامُّ الإمامة في "الأحكام السلطانية" عشرة وليست سبعة، وهي تشمل المال والإدارة والقضاء وصون البلاد داخلياً وخارجياً، وصون الدين على أعرافه المستقرّة(24). 



وتشمل القاعدة الثالثة(25) "العدل الشامل الذي يدعو إلى الأُلفة ويبعثُ على الطاعة، وتعمر به البلاد وتنمو به الأموال", وهكذا فالعدل أحد قواعد الدنيا "التي لا انتظام لها إلاّ به، ولا صلاحَ فيها إلاّ معه, وينصرف الماوردي إلى التشقيق والتطويل في مسألة العدل، فيتحدث عن القضاء وعدم التدخل فيه؛ لأنه تدخُّلٌ في الشرع، ثم يذكر أنّ الأفراد لديهم العدل مع ذواتهم ومع أُسَرِهم ومع سلطانهم ومع أقرانهم: "ولستَ تجد فساداً إلاّ وسبب نتيجته الخروجُ فيه عن حال العدل إلى ما ليس بعدل".



أما القاعدة الرابعة(26) لمجتمع الصلاح والخير فهي" الأمن العامُّ الذي تطمئن إليه النفوس، وتتيسر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف..". والأمن العامُّ هذا عند الماوردي متصلٌ أو مرتبطٌ بثلاثة أمور: وجود القضاء العادل، ووجود السلطان العادل، ووجود المادّة الكافية. والأمران الأولان مفهومان، أمّا الأمر الثالث فيقصد به الماوردي أنّ السلطة والقضاء هما اللذان يستطيعان تحقيق الاستقرار والأمن، فتحدث حالة الرغد والطمأنينة، وتتوافر الموادّ، وتزدهر الزراعات والتجارات. 



وإذا كان الماوردي قد عدّ المادة الكافية أو الحياة المادية للمجتمع من بين أسباب الأمن والطمأنينة؛ فإنه قد خصَّص القاعدتين الخامسة والسادسة لمسألة الكفاية وطمأنينة الناس؛ من خلال: الخصب الدارّ، ومن خلال الأمل الفسيح. والخصبُ الدارُّ له أسبابٌ طبيعيةٌ مثل تخيُّر المكان لقيام المدينة، وارتباطها بالأنهار والبحار والطرق التجارية، مثلما أَوضح في "تسهيل النظر"(27). إنما للخصب أيضاً أسبابٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ: كيف يتعامل الناس فيما بينهم ويتعارفون، وكيف يتعامل سلطانهم معهم من حيث سلوك سياسات تجهيزية وتنموية وإصلاحية, وأداء الحقوق واستقلال القضاء، وتجنب الحروب والنزاعات إلاّ ما اقتضته ضرورات الدفاع وصَون الأمن. وهكذا فإنّ التنمية -أو ما يسميه الماوردي نماء الزراعة والصناعة- لا بد أن تتوافر لها أسبابٌ طبيعيةٌ وأُخرى اجتماعية وسياسية. وللسلطة دورٌ كبيرٌ في ذلك؛ لكنّ المجتمع يستطيع القيام بدورٍ رئيس من طريق التعامُل النزيه والسلِس، ومن طريق التزام أهل الحِرَف بواجباتهم، ومن طريق تعاوُن سائر الجهات في تحقيق الأمن الذي يصنع الخصب الدارّ.



وتأتي القاعدة السادسة(28)؛ الأمل الفسيح، وهي قاعدةُ عجيبةٌ توصل إليها الماوردي، فالعدل والأمن والتنمية تفتح منافذ للأمل لدى الناس بحيث يُقْبلون "على اقتناء ما يقْصُرُ العُمُرُ عن استيعابه، ويضرب الماوردي مثلاً على ذلك بابتناء المساكن والدُور والتجارات التي تبقى بعد أصحابها، وكذلك الزراعات. ولولا الأملُ الذي ترتفعُ به الهِمَمُ لاحتاج كل جيلٍ إلى البدء من الأول، ولما حدث التراكم. فالذي يتحدث عنه الماوردي هنا هو أخلاقُ الثقة والتي تقوم على العلاقة الحسنة بين الناس والدين والسلطة والمحيط الطبيعي والصناعي والزراعي. والثقةُ هذه تصنع أخلاق عملٍ جديدةٍ تبني للمستقبل، ولا تلعنُ الماضي، بل تُراكم كما راكم الماضون! 



إنّ هذه القواعد الست -كما يقول الماوردي- "هي التي تصلُحُ بها أحوال الدنيا وتنتظم أُمورُ جملتها فإن كملتْ فيها كملَ كلُّ صلاحها"(29). 



إنّ الذي يدعو إليه الماوردي هو إقامة "مجتمع الثقة"، والذي يتأسس على الدين والسلطة العادلة والأمن المستقرّ والتنمية والتفكير في المستقبل. وهذا المجتمع في نظره هو مجتمع الخير والرحمة والصلاح.



**********************



الحواشي:



*) أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، ومستشار تحرير مجلة التفاهم.



1) قارن بتفسير آيات سورة الفرقان قديماًَ في تفسير الطبري، نشرة الحلبي بالقاهرة، 1378هـ، م11، 246-258. وانظر تفسير المنار نموذجاً لكتب التفسير الحديثة، 1356هـ، م6،318-342. 



2) قارن بتفسير آيات سورة المؤمنون قديماً في تفسير الطبري، مصدر سابق، م10، 198-238، وتفسير المنار حديثاً، مصدر سابق، م6، 123-158.



3) سبق أن درسْتُ المشهد القرآني لمجتمع المؤمنين وقيمه؛ في مقالتي: المفهوم القيمي والأخلاقي في العقل الإسلامي؛ بندوة القيم العُمانية ودور المواطن في التنمية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان، 2011، ص349-364، ومقالتي: شواهد التغيير ومشاهده في القرآن الكريم؛ بمجلة التفاهُم العُمانية، السنة التاسعة، 2011، م 34، ص28-42.



4) هما المقالتان اللتان ذكرتُهما سابقاً، ومقالة بمجلة التفاهم، السنة التاسعة، 2011، م 31، ص22-40.



5) قارن عن دور مسألة القَدَر في النقاش الكلامي الأول بعبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، دار العلم للملايين، 2008، ص97-120.



6) عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، مرجع سابق، ص55-72.



7) السيد المرتضى، الغُرَر والدرر(=أمالي الشريف المرتضى)، القاهرة 1954، ص167-168. وترجمة محمَّد بن عبد الملك الزيّات في "وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر 1972- 1973. م4، ص311-313.



8) الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، اسطنبول 1929، ص111-112، 216-221، 312-318، وبدوي: مذاهب الإسلاميين، مرجع سابق، ص555-563.



9) عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، مرجع سابق، ص615-618، 625-627.



10) ابن الصلاح، طبقات الشافعية، نشرة دار الكتب العلمية، بيروت 1998، ص111-113.



11) اشتغلت على الماوردي منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، ونشرتُ ثلاثةً من كتبه. وانظر مقدمتي على قوانين الوزارة وسياسة الملك له. مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي، بيروت 2011، ص9-133، ومقدمتي على تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي، نشر مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي، بيروت 2011، ص11-95.



12) انظر عن الفكر الأخلاقي العربي، ماجد فخري: الفكر الأخلاقي العربي، 1-2، الدار العلمية ببيروت 1978، ومحمَّد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، 2001. وفي كلا الكتابين نصوص ونظرات في أخلاقيات الماوردي وأقرانه وسابقيه. 



13) أبو الحسن الماوردي البصري، كتاب أدب الدنيا والدين، المطبعة الأميرية بالقاهرة، 1915. وهناك نشرة أفضل للكتاب باعتناء مصطفى السقّا، القاهرة 1954، لكنها ما كانت بين يديَّ عندما أُقبلتُ على كتابة هذه المقالة.



14) المحاسبي، العقل وفهم القرآن، نشر حسين القوتلي، بيروت، دار الفكر 1971. وقارن بمقالتي: بين التنزيل والتأويل، منهج الحارث المحاسبي في رسالتيه:(مائية) العقل وفهم القرآن؛ في أعمال مؤتمر الرابطة المحمَّدية للعلماء بالمغرب (2010)، نشر دار مدارك للنشر. بيروت 2011، ص11-18. وقارن أيضاً برضوان السيد: الأمة والجماعة والسلطة، بيروت، دار جداول للنشر، 2011، ص181-200. 



15) للراغب الأصفهاني عدة كتب اشتهر منها في الأزمنة الحديثة أربعة: مفردات غريب القرآن، ومحاضرات الأدباء، وتفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، والذريعة إلى مكارم الشريعة. ومقارنتنا هنا بينه وبين الماوردي تنصبُّ على كتاب الذريعة، نشرة أبو اليزيد العجمي، دار السلام بمصر 2007.



16) كان الماوردي أكثر أرسطيةً في القسم الأول من كتابه: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك. مصدر سابق بتحقيق رضوان السيد، ص127-166. والواقع أنّ الراغب والماوردي والغزالي وغيرهم شديدو الانقياد لأرسطو (في كتاب الأخلاق)، ولجالينوس (في كتاب الأخلاق له) في بحوث النفس وأخلاقها وسجاياها. 



17) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص112.



18) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص204 وما بعدها.



19) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص113-114.



20) العقل وفهم القرآن، مصدر سابق، ص201-202.



21) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص114-119.



22) قارن بكتابي: الأمة والجماعة والسلطة، دار جـداول ببيروت، 2011، ص285-208.



23) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق محمَّد جاسم الحديثي، بغداد 2000، ص126-127.



24) الأحكام السلطانية، مصدر سابق، ص130-141.



25) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص119-122.



26) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص122-124.



27) تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص256-263.



28) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص125.



29) أدب الدنيا والدين، مصدر سابق، ص125-126.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/97

الأكثر مشاركة في الفيس بوك