جديد الموسم الثَّقافيِّ الفرنسيِّ

بقلم: هاشم صالح 

مارسيل غوشيه ونظريَّة الخروج من الدِّين أو من الأصوليَّة الدينيَّة

ما هي المناقشات الَّتي تهمُّ المثقَّفين الفرنسيين هذه الأيَّام؟ هذا هو السُّؤال الَّذي طرحته على نفسي وأنا متوجِّه إلى غرب فرنسا لقضاء بضعة أيَّام هناك. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما نشر مؤخرا على صفحات بعض المجلاَّت الأساسيَّة الفصليَّة أو الشَّهريَّة وجدنا أنَّ هناك محورين أساسيين:



محور الأصوليَّة الاسلاميَّة من جهة، ومحور نقد الحداثة أو مراجعات الحداثة من جهة أخرى. المحور الأوَّل يعتبر خارجيًّا على الغرب والثَّاني داخلي عليه. هذا ما اكتشفته من خلال الاصدار الأخير لمجلتين جادَّتين يجتمع على صفحاتهما كبار المفكرين الفرنسين كمجلَّة “لو ديبا” أي النقاش أو المناقشة، ومجلَّة “اسبري” أي الروح أو الفكر. في الأولى لفت انتباهي بحثان: الأوَّل للفيلسوف مارسيل غوشيه والثَّاني لعالم الاسلاميات المستعرب ماتيو غيدير. أعتقد أنَّ تحليل مارسيل غوشيه لظاهرة الأصوليَّة الاسلاميَّة من أعمق ما قرأته في اللَّغة الفرنسيَّة على الرَّغم من أنَّه ليس مختصا بالدراسات العربيَّة أو الاسلامية. والسبب هو أنَّه مطلع جيِّدًا على تاريخ الأصوليَّة المسيحيَّة في الغرب. وبالتَّالي فيسهل عليه أن يقارن بين كلتا الأصوليتين لكي يجد أوجه التَّشابه والتَّقاطع في الخطوط العريضة. فالأصوليَّة الانغلاقيَّة تظلُّ هي الأصوليَّة في كلِّ الأديان والمذاهب.



إنَّ آليات اشتغالها واحدة وكذلك طريقة استحواذها أو هيمنتها على العقول. وبالتَّالي فليكف البعض عن اتِّهام الاسلام وحده بالأصوليَّة والتَّعصب وإعفاء الأديان الأخرى منها. هذا ليس صحيحا. والدَّليل على ذلك مقالة هذا المفكر الفرنسيِّ المختصِّ بتحليل الظاهرة الدينيَّة وكيفية تشكُّل الحداثة والديمقراطيَّة في فرنسا. الفرق الوحيد هو أنَّ الغرب تجاوز الأصوليَّة المسيحيَّة بعد أن عانى منها ومن مجازرها الطائفيَّة طيلة ثلاثة قرون في حين أنَّ العالم العربي أو الإسلامي لا يزال يتخبَّط بها بل ويعيش الآن أحلك لحظاتها. وإذن فالمسألة مسألة تفاوت تاريخي بيننا وبينهم لا أكثر ولا أقل. وهو تفاوت قد يبلغ القرنين أو ثلاثة فيما يخصُّ مواجهة التَّزمت الدينيِّ والحروب المذهبيَّة. لقد صفُّوا حساباتهم مع أنفسهم على مدار القرون السَّابقة ودفعوا الثَّمن باهظا. ونحن الآن على الطريق. وسوف ندفع الثَّمن باهظا أيضا. سوف ندفعه عدا ونقدا، وسوف تكتوي شعوبنا بحر نارها. ما الَّذي يحصل الآن؟ لقد وصلت فواجع شعب سوريا إلى زوايا العالم الأربع. وقل الأمر ذاته عن شعب اليمن الَّذي يرزح تحت الأنقاض. وماذا عن شعب العراق أو شعب ليبيا إلخ؟ كلُّ هذا ليس إلاَّ مرحلة إنتقاليَّة عسيرة في رأي مارسيل غوشيه. وقد مرَّت بها الشُّعوب الأوروبيَّة سابقا بعد أن فتكت بنفسها فتكا ذريعا. لماذا لا نترجم الكتب الَّتي تتحدَّث عن الحروب الطائفيَّة الكاثوليكيَّة-البروتستانتيَّة. ترجموا واحدا منها فقط لكي تفهموا ما يحصل حاليًّا في سوريا أو العراق أو أفغانستان والباكستان والحبل على الجرار.. نعم نحن نعيش المرحلة الانتقاليَّة الَّتي تفصل المجتمعات الماضويَّة التراثيَّة/عن المجتمعات الحداثيَّة العلمانيَّة ذات الدولة المدنيَّة. هذا ما أضاءه لي مارسل غوشيه في مقالة واحدة طويلة معمَّقة. ولكن هل كنت بحاجة إليه لكي يضيء لي كلِّ ذلك؟ منذ ثلاثين سنة وأنا أقول نفس الكلام وأتبنى نفس الأطروحات.



عفوا أزيدها شوية هنا وأنتفخ كالطاووس أكثر من اللُّزوم. فالرَّجل أضاف بعض الأفكار الجديدة المبتكرة. ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه. على أيِّ حال فإنَّ الدِّين بالنسبة للإنسان الأوروبيِّ أصبح مجرَّد عقائد ميتافيزيقيَّة فرديَّة تسكن قلقه وهلعه أمام قطيعة الموت الَّتي لا قطيعة بعدها. ولم يعد له أيُّ بعد طائفيٍّ أو مذهبيٍّ. الأصوليَّة المسيحيَّة الكاثوليكيَّة البابويَّة الَّتي كانت من أشرس الأصوليات في التَّاريخ انتهت وماتت إلى الأبد. لماذا؟ لأنَّ مفكري أوروبا أشبعوها دراسة وتمحيصا وتفكيكا. لا ريب في أنَّ أمريكا لا تزال متدينة في شرائح واسعة منها إذا ما قيست بأوروبا الَّتي خرجت من الدِّين كليًّا تقريبا. ولكن حتَّى أمريكا ذات الأصوليَّة البروتستانتيَّة و نجوم الدعاة الإنجيليين التلفزيونيين الَّذين لا يقلون جبروتا عن القرضاوي ومحمد العريفي وعمرو خالد تظلُّ دولة علمانيَّة بنصِّ الدستور المقدَّس بالنسبة لهم.



لقد خرجت أوروبا من الأصوليَّة الدينيَّة الَّتي كانت تتحكَّم بالانسان من المهد الى اللَّحد ومن العمادة إلى القبر. خرجت ولن تعود. ولكن كم كلَّف هذا الخروج من اختلاجات هائجة وصراعات فكريَّة بل وحروب أهليَّة مدمِّرة. وفي رأي مارسيل غوشيه فإنَّ العالم العربيَّ أو الاسلاميَّ كلُّه سائر على الطريق نفسه. إنَّه الآن يعيش مرحلة المخاض العسير. لقد كان الدِّين يتحكَّم بكلِّ شاردة وواردة في أوروبا قبل أن تنجح قطيعة الحداثة وعمليَّة الخروج من الأصوليَّة المسيحيَّة. لقد كان الإنسان آنذاك خاضعا كليًّا لمشروعيَّة التراث المقدَّس. وكان خاضعا كليًّا لمنطق الطائفة الَّتي ينتمي إليها من حيث الولادة. ولكن انتصار الحداثة العلمانيَّة حرَّره من كلِّ ذلك. فلم يعد مسؤولا عن طائفته وإنَّما عن نفسه فقط. وهذا هو معنى الاستقلاليَّة الفرديَّة قياسا إلى منطق الجماعة المفروض عليك غصبا عنك حتَّى قبل أن تولد. وهكذا بدلا من الخضوع للماضي وعبادة الأسلاف أحلَّ الغرب منطق الاختراع العمليِّ للمستقبل. لم تعد لحظة الماضي هي المقياس والمعيار لأنَّها لحظة النبوَّة والوحي الَّتي تعلو على كلِّ اللَّحظات. وإنَّما أصبحت لحظة المستقبل هي المقياس والمعيار: أي لحظة التَّقدم والتَّطور. وهكذا حلَّ الزَّمن التَّاريخيُّ المتدرج محلَّ الزَّمن المقدَّس الجامد الَّذي لا يحول ولا يزول. وبدلا من الشَّرائع الدينيَّة النَّازلة عليك من فوق أحلَّت الحداثة الغربيَّة القوانين الوضعيَّة الَّتي يتعاقد عليها البشر ويصوتون عليها في البرلمان. وهي قوانين قابلة للتَّعديل والتَّغيير بغية مسايرة تطوُّر المجتمع وليست ثابتة نهائيَّة معطاة مرَّة واحدة وإلى الأبد. وذلك على عكس الشَّريعة الَّتي لا تتغيَّر ولا تتطور حتَّى بعد مليون سنة. من هنا ديناميكيَّة المجتمعات الغربيَّة قياسا إلى المجتمعات الاسلاميَّة الَّتي تظلُّ ساكنة راكدة مستسلمة لأبديَّة الدَّهر. كما وتظلُّ سجينة أسلافها المعصومين وماضيها التراثيِّ المقدَّس بحذافيره. ولكن الخروج من الدِّين أو الأصوليَّة الدينيَّة بحسب مصطلح مارسيل غوشيه لا يعني نهاية الأديان أو القضاء عليها قضاء مبرما كما يزعم التقليديون. إنَّما يعني أنَّه طرأ تغيُّر كبير على مكانة الأديان في المجتمع ووظائفها وأدوراها. فلم تعد للدِّين في أوروبا المتنورة أية شحنة طائفيَّة أو مذهبيَّة تهدِّد السلم الاجتماعي وتنذر بانفجار الحروب الأهليَّة في أي لحظة. ولم يعد الدِّين يتحكَّم بكلِّ مناحي الحياة: من اجتماعيَّة واقتصاديَّة وتشريعيَّة وسياسيَّة وحتَّى جنسيَّة وسوى ذلك.



أصبح الدِّين في عصر الحداثة دينا بالفعل ولأوَّل مرَّة في التَّاريخ: أي يهتمُّ بالقضايا الميتافيزيقيَّة والدَّعوة إلى مكارم الأخلاق والحثِّ على التَّكافل الاجتماعي والتَّضامن مع الفقراء والمحتاجين وابن السبيل. وهذا هو جوهر الدِّين. وفصلت عندئذ الوظيفة الدينيَّة عن الوظيفة السياسيَّة، فللدين رجاله وللسياسة رجالها ولا يجوز الخلط بينهما كما يفعل القرضاوي مثلا حيث يستغل هيبته الدينيَّة لدعم تيار سياسي معين هو تيَّار الإخوان المسلمين. والشَّيء ذاته يقال عن بقيَّة رجال الدِّين بطبيعة الحال من سنة أو شيعة لا فرق. ومعلوم أنَّ رجال الدِّين إذا ما اشتغلوا في السياسة فإنَّهم منتصرون لا محالة. بل إنَّهم سيكتسحون الانتخابات اكتساحا سلفا. لماذا؟ لأنَّ هيبة الدِّين في مجتمعات تقليديَّة تراثيَّة كمجتمعاتنا ضخمة جدًّا بل وهائلة. وبالتَّالي فيكفي أن أضع عمامة أو طربوشا على رأسي لكي يصوت لي النَّاس زرافات ووحدانا. أمَّا في المجتمعات الأوروبيَّة المعلمنة والمحدثة منذ زمن طويل فلا حظَّ لهم في أيِّ انتخابات بل وسيسخر الشَّعب منهم على فرض أنَّهم تجرأوا على النزول إلى السَّاحة السياسيَّة ورشحوا أنفسهم. وهو شيء مستحيل ولا يفكرون فيه لحظة واحدة. ولذلك يكتفون بالمواعظ الانجيليَّة يوم الأحد. أمَّا عندنا فالأمور مختلفة تماما.عندنا إذا ما ظهر الخميني أو القرضاوي على شاشات التلفزيون فسوف يكسفون جميع المثقَّفين العرب والايرانيين دفعة واحدة. من يتجرَّأ على مناظرة أصغر شيخ على الفضائيات العربيَّة؟ من يجرؤ على أن يفتح فمه مجرَّد فتح؟ وستظلُّ الأمور هكذا ما لم يتجرأ المثقَّفون العرب على مواجهة الظَّاهرة الدينيَّة بكلِّ جرأة وجديَّة ومسؤوليَّة كما فعل كانط وبقيَّة فلاسفة الأنوار في الغرب مع المسيحيَّة. من المعلوم أنَّ كانط قال عبارته الشَّهيرة بأنَّ “الدِّين يحتج بقداسته لكي يبقى بمنأى عن أيِّ تفحُّص فلسفيٍّ أو غربلة نقديَّة”. إنَّه يضع نفسه ليس فقط فوق كلِّ نقد وإنَّما فوق كلِّ محاولة للتَّحليل والفهم. فالكاهن المسيحيُّ يقول لرعاياه: لا تفكِّروا وإنَّما آمنوا! صدِّقوا وسلموا تسليما. هذا كلُّ ما يطلبه منك رجال الدِّين. شغِل كلَّ شيء ما عدا عقلك. وهذا شيء لا ينبغي أن يستمر.



ينبغي أن يخضع الدِّين للدراسة النقديَّة مثل أيِّ موضوع آخر بل وقبل أي موضوع آخر. ذلك أنَّ “نقد الدِّين هو بداية كلّ نقد” كما يقول فيلسوف آخر شهير. وهذا هو معنى كتاب كانط: الدِّين ضمن حدود العقل فقط. ولكن من يتجرَّأ على تطبيق ذلك على الإسلام حاليًّا كما طبقوه على المسيحيَّة سابقا؟ تُقطع رأسه فورا بعد صدور فتوى بتكفيره وزندقته. بهذا المعنى فكلُّ فلاسفة الأنوار كانوا زنادقة: من كانط نفسه إلى فولتير إلى جان جاك روسو إلى ديدرو وعشرات الآخرين.

 



ولكن هذه الزندقة الفلسفيّة العظيمة هي الَّتي أنقذت أوروبا وجعلتها تقلع حضاريًّا وتتفوَّق على كلِّ شعوب العالم. وبالتَّالي فأهلا وسهلا بالزندقة التَّحريريَّة! أهلا بالكنديِّ والفارابي والتَّوحيدي وابن سينا والمعري وكلُّ زنادقة العرب والاسلام. فلولاهم لما كان زنادقة أوروبا.. الاشعاع ينتقل من مكان إلى آخر يا سادة يا كرام والحضارة دوارة..ما إن تنطفيء في هذه الضفة من المتوسِّط حتَّى تشتعل على الضفة الأخرى. وبالتَّالي فنحن وإيَّاهم في قارب واحد على الرَّغم من كلِّ الحزازات التَّاريخيَّة.

المصدر: http://www.alawan.org/article14480.html

###

أبو الأعلى المودودي وبلورة الأصوليَّة الاسلاميَّة

يقول مارسيل غوشيه إنَّ المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي هو الَّذي بلور الأصوليَّة الحاليَّة في الثلاثينات من القرن الماضي. وقد أثَّرت أفكاره على حركة الاخوان المسلمين من سنَّة وشيعة. فسيّد قطب متأثِّر به وكذلك الخميني. لقد قدم المودودي تصوُّرا توتاليتاريًّا عن الاسلام. وقال بأنَّه يشمل كلَّ جوانب الحياة ولا تفلت منه أيُّ شاردة أو واردة. فهو على عكس المسيحيَّة ليس دينا فقط وإنَّما هو دين ودنيا. إنَّه نظام متكامل يشمل كلَّ جوانب الحياة. والشَّريعة تقع في القلب منه. فهي تهيمن على كلِّ مناحي التَّنظيم الجماعيِّ للنَّاس. إنَّها تتحكَّم بالعلاقات العائليَّة وقانون الأحوال الشخصيَّة، كما تتحكَّم بالقضايا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والادارة العامَّة للدَّولة. وهي الَّتي تحدِّد أيضا حقوق المواطنين وواجباتهم، وكذلك النِّظام القضائي، وقوانين الحرب والسِّلم، وأخيرا العلاقات الدوليَّة. كلُّ شيء ينبغي أن يخضع للشَّريعة الَّتي كانت قد بلورت قبل ألف سنة. وهذا يعني القضاء على التَّاريخيَّة أو لجم التَّطور التَّاريخي وإيقافه وتجميده. من هنا سبَّب تخلُّف المجتمعات الاسلاميَّة قياسا إلى المجتمعات الغربيَّة الَّتي تحررَّت من القانون الكنسيِّ المقدَّس واللاَّهوت القديم بكلِّ إكراهاته وقيوده وفتاواه الَّتي عفى عليها الزَّمن. إضافة إلى ذلك فإنَّ المودودي يرفض الديمقراطيَّة رفضا قاطعا لأنَّها تنزل المشروعيَّة من السَّماء إلى الأرض، ومن الله إلى الشعب. وهذا لا يجوز بأيِّ حال من الأحوال. فالحاكميَّة لله، ولله وحده. ولكن يعترف للشَّعب بالحقِّ في اختيار حكامه.



وأخيرا فإنَّ المودودي هو الَّذي نظَر للجهاد العالميِّ الَّذي تتَّبعه الحركات التَّكفيريَّة الحاليَّة عندما قال بأنَّ الجهاد لن ينتهي قبل أن يشمل الإسلام الأرض المعمورة كلَّها. وهذا يعني ضمنيًّا تكفير جميع الأديان الأخرى قاطبة. وينبغي الاعتراف بأنَّ هذه هي العقليَّة المهيمنة على جمهور المسلمين حتَّى اللَّحظة. فلا يوجد مسلم واحد يعتقد بأنَّ للأديان الأخرى قيمة أو معنى. ما قيمة المسيحيَّة؟ إنَّها محرفة مزورة. ما قيمة البوذيَّة أو الهندوسيَّة أو سواهما من أديان الشَّرق الأقصى؟ إنَّها ديانات وثنيَّة مشركة، إلخ.. ولكنَّ مشكلة المودودي والخميني وسيِّد قطب وكلُّ الأصوليين هي أنَّهم يجهلون أنَّ المسيحيَّة كانت أيضا دينا ودنيا طيلة القرون الوسطى قبل انتصار الحداثة. كانت أيضا نظاما شموليًّا يتحكَّم بكلِّ مناحي الحياة. لماذا كلُّ هذا الجهل؟ لأنَّ العقل الأصوليَّ عقل غيبيٌّ لا تاريخي لا يعرف معنى المقارنة بين الأديان. بل ولا يعترف بوجود أيِّ تطور في التَّاريخ لأنَّ هناك مبادئ ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها. فقطع يد السَّارق أمر إلهي لا يمكن أن يتغيَّر. وقل الأمر ذاته عن الرجم والجلد وبقيَّة العقوبات البدنيَّة. والتَّكفير أمر إلهيٌّ أيضا وبالتَّالي فكيف يمكن التَّراجع عنه؟



هنا يكمن الانسداد التَّاريخيُّ الأعظم في الإسلام. وهو انسداد لا يمكن الخروج منه في المدى المنظور. ولن ينحلَّ قبل أن تهتزَّ الأرض ومن عليها. سوف تجري أنهار من الدَّم قبل تفكيك لاهوت القرون الوسطى الإرهابي والانتقال إلى لاهوت الحداثة التَّحريري. وبالتَّالي فاللَّحظة الأصوليَّة هي مرض إجباري يرافق بالضرورة عمليَّة الانتقال الحداثيِّ: أي الانتقال من المجتمع التُّراثيِّ إلى المجتمع الحديث. وهو انتقال عسير ومرير. إنَّه قطيعة مرعبة تكاد تتقطَّع لها نياط القلوب. من هنا سر الاختلاجات الهائجة الَّتي يعيشها العالم الاسلامي اليوم. فهو يدرك أنَّ هذا القطيعة آتية لا ريب فيها. ولذلك يقاومها بأيِّ شكل فينقبض وينكمش ويتشنَّج ويزداد ارتباطا بالجذور القديمة والأصول. إنَّه لا يريد أن يفترق عنها بأيِّ حال. بل ويفضل أن يموت على أن ينفصل عنها. ولكن حركة العولمة الكونيَّة الزَّاحفة سوف تجبر المسلمين على الدُّخول في الحداثة كبقيَّة شعوب الأرض. وسوف تؤدي إلى تفكيك أنماط الحياة التَّقليديَّة الَّتي كانت سائدة منذ مئات السنين. وكلّ الفتاوى اللاَّهوتيَّة التَّكفيريَّة الرَّاسخة منذ ألف سنة سوف تنهار كقصر من كرتون. وهذا شيء يموت الأصوليون ولا يقبلون به. على هذا المستوى من العمق ينبغي أن نموضع الاشكاليَّة لكي نفهم اللَّحظة الأصوليَّة الدَّاعشيَّة العارمة .

المصدر: http://www.alawan.org/article14482.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك