الرَّبيع العربيُّ من أين وإلى أين

بقلم: سمير طاهر 

 

ما الَّذي يجري في بلداننا العربيّة؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ إنَّها شكوى أكثر منها أسئلة، يضجُّ بها ملايين النَّاس من الشُّعوب السَّاكنة في نطاق الدُّول العربيَّة، فالفوضى الضاربة في هذه المنطقة لم تشمل العرب وحدهم. نحن نسأل لأنَّنا إن لم نعرف كيف ولماذا انتهى بنا الحال إلى هذا الحضيض فلن نعرف كيف الخروج منه.



مزَّقت الحروب الداخليَّة العراق وسوريا وليبيا واليمن والسُّودان، وتهدِّد مصر وتحاول جرَّ بلدان عربية أخرى إلى ذات السيناريو. معظم العالم العربيِّ متوقِّف عن النُّمو، فيما تتَّجه أغنى دولة فيه إلى الإفلاس في المستقبل المنظور. ونتيجة لكلِّ هذا، ولعوامل أخرى أيضًا، يشهد العالم واحدة من أكبر موجات الهجرة السُّكانيّة، فالبلاد العربيَّة لم تعد مكانًا صالحًا لعيش أبنائها.



رغم الدَّور الكبير للقوى الدُّوليَّة والإقليميَّة في صنع الأوضاع الحاليَّة للمنطقة (ومع التَّضخيم المتداول لهذا الدَّور إلى درجة جعلهِ العامل الوحيد في صنع هذه الأوضاع) إلاَّ إن جوهر ما يجري اليوم هو – في رأيي - تفجّر لتراكمٍ طويل من السياسات السيِّئة والمشبوهة في الدُّول العربيَّة، تلك السياسات الَّتي طالما جرى التَّنبيه إلى خطورتها من قبل مؤسَّسات ومنظمات وشخصيات ذات اختصاص وعلى مدى سنين، والتَّحذير من عواقبها، دون أيِّ استجابة من الأنظمة. وها نحن اليوم نشهد هذه العواقب. ولولا هذه السياسات لما تمكَّنت القوى الدوليَّة والإقليميَّة من التَّدخل في بلداننا بهذا العنف.



يمكن إجمال هذه السياسات السَّيِّئة بما يلي:



- الاستحواذ على الدَّولة من قبل عُصَب حزبية أو عسكريَّة أو قبَليَّة أو طائفيَّة ما زالت تحكم إلى اليوم بواسطة أشكال متنوِّعة من التَّوريث دون أن تقدِّم - مقابل هذا الاستحواذ –عيشًا كريمًا للمواطنين، فلا رفاه اجتماعيًّا مقابل الحرمان السياسيِّ (كما هو الحال في بعض دول الخليج مثلاً) وإنَّما هو حرمان اجتماعيٌّ وسياسيٌّ معًا.



- قطع مسيرة التَّنمية الَّتي كانت جارية خلال العقود الثَّلاثة التَّالية للحرب العالميَّة الثَّانية واستبدالها بمسيرة الدَّولة الفاسدة وهي المستمرة حتَّى اليوم، وهو ما عنى استيلاء الطبقة المحيطة بالسُّلطة على النَّصيب الأعظم من خيرات البلاد وعلى حقوق المواطنين، بموازاة انحدار دائم في مستوى العيش ممَّا صنع بؤسًا اجتماعيًّا واسع النِّطاق ظلَّ يزداد سوءا عامًا بعد عام مع كلِّ عواقبه.



- كان من نتائج الدَّولة الفاسدة إهمال التَّربية والتَّعليم، ممَّا أدى إلى تدهور مستمر لا في المستوى المعرفيِّ وحسب وإنَّما في القيم أيضًا، وكانت تقارير التَّنمية البشريَّة تكرر سنة بعد أخرى إيراد الأرقام المخزية عن واقع المعرفة في العالم العربيِّ وتحذِّر الحكومات من العواقب المجتمعيَّة الكارثيَّة لحرمان نسبة كبيرة من الأطفال واليافعين من التربية السليمة والتَّعليم اللاَّزم، ولم تحرك تلك التَّقارير أيَّ اهتمام لدى هذه الحكومات، إلى أن انفجرت في السَّنوات الأخيرة تلك العواقب الَّتي جرى التَّحذير منها.



- إنتشار الظَّلاميَّة الدينيَّة وانتعاشها في المجتمعات العربيَّة الاسلاميّة بفعل العوامل التَّالية: التَّدهور المعرفيُّ المذكور أعلاه؛ انحسار الثَّقافة من المجتمع (تحوُّل الثَّقافة إلى حالة نخبويَّة وترف مظهريٍّ) وتراجعها النَّوعي؛ التَّمويل الخليجيُّ عمومًا، والسَّعوديُّ خصوصًا، لنشر التَّشدد الاسلامي في البلدان العربيَّة؛ تضييق السُّلطات الحاكمة في أكثر من بلد عربي على الفكر العلميِّ والتَّوجهات الحرَّة لارتباطها بالحِراكات الشَّعبيَّة والمطلبيَّة، وتشجيعها – بالمقابل - لخطاب التَّشدد الدينيِّ لأنَّه يخدم سياستها في مكافحة التيَّار الديمقراطيِّ؛ تردي الأوضاع الاجتماعيَّة وحيرة البحث عن حلول.



وكما نرى فإنَّ المسارات الَّتي أدت إلى الانهيار العربيِّ مشتبكة ببعضها، مؤثرة في بعضها البعض. وكلُّ هذه المسارات ظلَّت تتراكم طوال العقود الأخيرة، كما إنَّ آثارها السلبيَّة ظلَّت تتراكم هي الأخرى، إلى أن تفجَّر هذا التراكم بدءا من عام 2011 وإلى اليوم على شكل ثورات شعبيَّة. والحقُّ إنَّه بسبب اشتباك مسارات الفساد والفشل تلك ببعضها، وبسبب تجذرها في الإدارة وفي المجتمع، فإنَّها لا يمكن وقفها إلاَّ عن طريق ثورة.



لكن تحوُّل التَّراكم إلى انفجار كحدث موضوعيٍّ حتميٍّ شيء، واستعدادات كلِّ شعب وقدراته الذَّاتيّة شيء آخر. لهذا شهدنا أنَّ الثَّورات العربيَّة لم تتمكن من تحقيق“ثورة” بالمعنى الحقيقيِّ، وأخذت اتِّجاهات مختلفة، وتقيّأت كلَّ ما في المجتمع، وما في العمل السياسيِّ، من تشوّهات وأمراض كانت خبيئة تحت الواجهات البراقة. أضف إلى هذا أنَّ عصرنا يتميَّز عن كلِّ العصور السَّابقة بأنَّ التَّدخل الخارجيَّ في الأوضاع الدَّاخليّة للدُّول صار أكثر سهولة، وجاءت هذه الميزة نتيجة للعولمة وثورة الاتِّصالات؛ وفي الأحداث الَّتي شهدتها منطقتنا منذ 2011 لعب التَّدخل الخارجيُّ دورًا ضخمًا كان في البداية سريًّا ثمَّ تكشَّفت أوراقه حتَّى بات اليوم حقيقة معروفة وحتَّى تمَّ تحويل “ثورات” بكاملها من قضية عدالة اجتماعيَّة إلى مشاريع ينفذها مقاولو سياسة لحساب دول خليجيَّة وغربيَّة وهدفها تقسيم البلاد وتحطيم الدَّولة. الاستثناء الوحيد الَّذي حقَّق نجاحًا نسبيًّا (لحدِّ الآن) من بين الثَّورات العربيَّة الأخيرة الَّتي أطاحت ببعض الحكام هو تجربة تونس، الَّتي تكافح اليوم ليس فقط لإحباط مخطَّط النِّظام القديم لاستعادة موقعه وإنَّما أيضًا لإحباط مخطَّط الإسلام السياسيِّ - المدعوم من الخليج - لركوب موجة الوضع الجديد. أمَّا الاستثناء الوحيد من بين الاحتجاجات العربيَّة الَّذي أصرَّ على سلميته وتحضره رغم عدم الإطاحة بالحاكم وعدم تحقيق المطالب فهو نموذج البحرين، فقد أظهر البحارنة أنَّهم أكثر وعيًا بالضرورة الرَّاهنة وبحدود إمكاناتهم وإمكانات واقعهم، من أيِّ معارضة أخرى في العالم العربي. لهذا أتمنى أن تستلهم المعارضة في البلدان العربيَّة هذا النموذج الراقي.



على الرَّغم من أنَّ القوى الإقليميَّة والدُّوليَّة تتدخل في أحداث منطقتنا بشكل علني إلاَّ أنَّها ليست هي الَّتي خلقت التناقضات الَّتي تتفجر الآن وإنَّما هي تستخدم، لمصلحتها، تناقضات قائمة أصلاً. وإذا أرادت الأنظمة العربيَّة وقايةً من تدخلات تلك القوى فليس ثمَّة أفضل من معالجة التَّناقضات في بلدانها بشكل عادل. إنَّ نمط “العصبة الحاكمة” (على اختلاف أنواعها وشعاراتها) هو الَّذي أنتج هذا الانهيار الاجتماعي الكبير وهو مصدر التَّذمر الشَّعبيِّ. كما أنَّ أيَّ “إصلاح” جزئيٍّ توافق عليه هذه العُصَب الحاكمة سوف لن ينجح، وذلك لترابط عناصر الفشل البنيويِّ للدَّولة العربيَّة ببعضها كما بينّا أعلاه. فأيُّ “إصلاح” جزئيٍّ سيكون مصيره الضياع في نهر الفساد الهادر. والحلُّ هو تغيير جذريٌّ عن طريق البدء بعملية تنمية حقيقيَّة شاملة تقوم بها إدارة حكم نزيهة. فالحكم النَّزيه، وليس القمع العنيف للاحتجاجات، هو أقوى سلاح في وجه المؤامرات الخارجيَّة.



أمَّا المعارضة، الَّتي قدَّمت نفسها بديلاً عن الأنظمة القائمة، فيفترض أنَّ ما تمتلكه من وعي ومن نزاهة وطنية سيجعلها تنأى بنفسها عن القوى الاقليميَّة والدُّوليَّة مهما كانت المغريات ومهما ارتدت تلك القوى من شعارات منافقة مثل “دعم قضية الحريَّة” أو “الديمقراطيَّة” أو “المظلوميّة الطائفيَّة”... إلخ، فبالقاء نظرة تاريخيَّة بسيطة سنرى أنَّ لعبة الشِّعارات المنافقة هذه عتيقة، منذ شعار “حقوق الإنسان” الأمريكيِّ لتبرير الأنشطة التَّخريبيَّة والمخابراتيَّة في الاتِّحاد السوفييتيِّ السَّابق والدُّول الاشتراكيَّة السَّابقة، بل منذ أن رفع السُّلطان العثمانيُّ شعار نصرة السُّنة، والشَّاه الفارسي شعار نصرة الشِّيعة، لتبرير غزوهما للعراق وضمِّه إلى الامبراطوريتين. وإذا رغب المعارضون بنظرة تأريخيَّة أقرب عهدًا فما عليهم سوى التَّأمل بالمصير الَّذي آل إليه ارتماء المعارضين لنظام صدام حسين في حضن المصالح الأمريكيَّة، وما أدى إليه ذلك من دمار نهائي للبلد وللمجتمع مستمر حتَّى اليوم. وقتها سخر المعارضون لنظام صدام حسين من النصيحة القائلة أنَّ الخيانة الوطنيَّة لن تبني أوطانٌا، وأن لا وسط بين الوطنيَّة والانتهازيَّة، وأنَّ الولايات المتَّحدة هي آخر دولة تفعل شيئًا “لوجه الله” وترفع قبضتها عن العراق بعد أن “تحرره”. واليوم يسخر معارضون في بلدان عربيَّة أخرى من هذه النَّصيحة، ويصفون تعاونهم مع حلف الناتو، بهدف إسقاط النِّظام الحاكم على حساب سيادة بلدهم، بنفس الوصف الَّذي كان يردِّده المعارضون العراقيون وقتها: تَقاطُع مصالح!



شخصيًّا أدعوه عمى مصالح. 

المصدر: http://alawan.org/article14465.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك