بين عصر الدواة وعصر الأداة: شظف التعلم.. ومخملية التعالم
فؤاد العنيز
كان الباحث ومازال معيناً لا ينضب، يبحث عن المعلومة، ينقحها، يراجعها ويتأكد من صحتها ثم يمدنا بها جاهزة. كان على الباحث أن يصول في الأرض طولاً وعرضاً، يطرق أبواب المكتبات في أقاصي المدن يبحث عن مرجع يشبع نهمه، ويشفي غليله من تقصي المعلومة وسبر أغوار المراجع مهما ندرت من أجل العثور عليها.
هل كان عمله على عسره أشد نجاعة مما هو عليه عمل الباحث الآن؟
فعلاً، أصبح الباحث مع سهولة العثور على المعلومة وقد تعددت وسائل التواصل من إنترنيت وقنوات فضائية، أقل معاناة مما كان عليه وضعه سابقاً، لكن، يبقى عمله رغم سهولته محفوفاً بالشوائب التي من شأنها أن تبخس مجهوده مع احتمال عدم صحة المعلومات عبر الوسائل الحديثة التي تتجاذبها عدة تيارات ومصالح تجعل منها عرضة للتزوير والتعديل ضاربة ما يفترض فيها من أمانة بعرض الحائط.
نعم، أصبح عمل الباحث المعاصر أقل تكلفة وأكثر يسراً، لكن مع ما يصاحب ذلك من ضعف الجودة وغياب حيادية المعلومة واحتمال عدم أمانتها.
إن طريقة البحث الميدانية القديمة كانت أكثر حميمة، تمكن الباحث من تصفح مباشر لمصادر ومراجع قد تكون قديمة أو فعل فيها الزمن فعلته حتى تآكلت أوراقها وتمزق بعضها، الشيء الذي يجعل الباحث بالإضافة إلى تنقيبه عن المعلومة، يتحول إلى حلال لألغاز وضعها القدر في طريقه. فهذا الكتاب تنقصه ورقة وهذا السطر ضاعت منه كلمة أو أكثر.. يتعامل الباحث اليوم مع تقنيات حديثة بالإضافة إلى كونها مشوبة باحتمال عدم صحتها، فهي أيضاً تحرم الباحث من إمكانية حميمية البحث ولذة المعاناة في تحري وتدقيق المعلومة.
من نافل القول أن ننفي أو نؤكد وجود أو انقراض الباحث المحقق بمفهومه الكلاسيكي. ولكن، وكما أن الكتاب الورقي لم يفقد عشاقه ولم ينقرض رغم وجود هذا الكم الهائل من وسائل التقنيات الإلكترونية الحديثة، وبقي، صامداً أمامها وبكل قوة؛ سيصمد الباحث المحقق، وسيبقى يجوب مناطق الأرض طولاً وعرضاً لاستقصاء المعلومة من مصدرها الأصلي بعد أن ينفض عنها غبار السنين وبعد التلذذ بفك رموزها مهما استعصت عليه.
وسيوجد الباحث الميداني المحقق طالما بقي للمرجع الورقي قيمته التي لن يستطيع الزخم الإلكتروني المتزايد زحزحتها.
لا يمكن نفي القيمة المضافة التي تجود بها تقنيات الاتصال والتواصل الحديثة على الباحث، فهي من جهة تيسر له وسيلة البحث وهي من جهة أخرى تقلص مصاريف البحث وزمن إنجازه. كما أن من شأن الكم الهائل من المعلومات المتاحة أن يشجع الباحث على أن يغني بحثه وألا يقتصر على ما يتيحه له المرجع الورقي الأصلي مع ضرورة التمحيص والتدقيق في صحة المعلومة.
لابد أن التقنية الحديثة رغم ما يشوبها من غموض أحياناً وشك في صحتها أحياناً أخرى، ساهمت في تبسيط سبل البحث وإغنائها. وإذا كان الباحث الكلاسيكي قبل هذه الإمكانية يقوم بعمله محاطاً بعشرات المراجع ومئات الأوراق والمستندات والصور، فإنه اليوم باستطاعته بمجرد كبسة زر أن يستحضر ما أراد من معلومات متاحة عبر ما تعدد وتنوع من وسائل الاتصال والتواصل. وهذا بالطبع من شأنه أن يجعل الباحث المعاصر يقوم بعمله وهو يتمتع بوسائل الراحة المنشودة كما سيعفيه من مشقة التنقل من مكتبة إلى أخرى مع ما يستلزم ذلك في أحيان عديدة من تراخيص وإذن بالتصفح ومشقة البحث عن المكتبة ثم البحث في الأرشيف لاختيار المرجع المناسب من بين آلاف المجلدات والكتب ثم البحث عن الصفحة المطلوبة والمعلومة المقصودة، وكأن الباحث ينقب عن إبرة في كومة قش. ومع ذلك، يبقى للبحث الميداني قيمته التي لا يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تنوب عنها أو تعوضها.
ولذلك، يمكن القول إن الباحث التقليدي لا يزال حاضراً وسيبقى حاضراً مادام للكتاب الورقي حضوره وما دام للبحث الميداني قيمته ووزنه. كما أن الباحث المعاصر بما يملكه من وفرة في وسائل التواصل التكنولوجي الحديث وسهولة الوصول إلى المعلومة - إن هو حرص على تنقيحها والتأكد من صحتها - قادر على المساهمة بشكل فعال في إغناء البحث وسهولة الاستفادة منه. كما أنه قادر باستعماله نفس التكنولوجيا المتقدمة، أن يجعل بحثه في متناول أكبر عدد من المهتمين والباحثين.
كما لا يمكن أن نلغي قيمة العلم الحديث وأن نعتبره مجرد متون وهوامش. إن التقدم التكنولوجي وبالخصوص عالم الشبكة العنكبوتية وإن كان من جهة يعمل تدريجياً على سحب الإنسانية من الإنسان، إلا أن دوره الفاعل في تسريع وتيرة البحث وتسهيل وسائله لا يمكن تجاهله.
المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=3975&Archive...