الفن في مؤشرات التقدم
بقلم إبراهيم غرايبة
لقد وضعت الشعوب في الفن أسمى أفكارها" هيغل
تحاول هذه المقالة أمرين؛ أن تقدم في المساحة المتاحة فكرة عن موقع الفن في التقدم، وأن تستوعب مفهوم الفن كما قدمه هيغل في كتابه "المدخل إلى علم الجمال". وبالطبع، فإنها مساحة لا تكفي لذلك، ولكني آمل أن تكون هذه المقالة مقدمة أو تمهيدا لعرض عملي واف للكتاب وملاحظة مؤشرات التقدم أو الفشل مستدلا عليها بالشعر والموسيقى والعمارة كما يقترح هيغل.
التقدم بما هو منظومة الموارد وإدارتها وتنظيمها وتجديدها على نحو كفؤ وبعدالة على النحو المنشئ لولاية المواطنين على مواردهم ومصائرهم وشؤونهم؛ يمثل فيه الفن حلقة ضرورية وأساسية في تحريك وتفاعل هذه المنظومات على نحو يمكن تبسيطه بالمسار التالي: موارد وتقنية - نظام اقتصادي - نظام سياسي - نظام اجتماعي وثقافي - موارد وتقنية جديدة وإضافية! وهذه الموارد الجديدة والإضافية هي بطبيعة الحال، ما يمكن وصفها تقدما أو تنمية.
وأعني هنا بالفن "المحتوى" الذي يحل في أوعية وأدوات إبداعية؛ من الموسيقى والشعر والعمارة والرواية والمسرح والسينما والدراما والقصة والفنون التشكيلية (الرسم والنحت). وهو (الف) بذلك يعبر عن المجهود الإنساني للفهم واكتشاف الحقائق، والتعبير الحسي الظاهري عن الروح والمشاعر والعواطف والخيال.
هذا الجمال المؤشر على الكمال، والذي تعبر عنه منظومات الثقافة والفنون، هو ما يعين الدول والأفراد والمؤسسات والمجتمعات على الارتقاء بالأفكار والحياة والسلع والمنتجات. وبغير هذا الإدراك، لا يمكن أن ينشأ تقدم أو إصلاح، ولا أن تتطور أفكار وسلع ومنتجات، ولا أن ترتقي تصوراتنا لحياتنا واحتياجاتنا الأساسية من الطعام واللباس والعمارة؛ إنه ببساطة أداتنا في معرفة ما نحب وما يجب أن نكون عليه، والفرق بين الواقع والمطلوب، ودليل السعي الدائم نحو ما هو أفضل. ذلك أن ثمة ما هو أفضل دائما، ولا يمكن إدراكه بغير "الجمال".
وهذا ما يطور الحياة السياسية والاجتماعية، ويحمي المنجزات الاقتصادية ويفعلها، ويساعد في إنشاء الموارد وتطويرها. فالثقافة والفنون متطلبان ضروريان، ومدخل حتمي للتقدم وتحسين حياة الناس؛ إذ بغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح، لا يمكن الحكم على الأعمال والحياة حكما صحيحا أو كاملا، فلا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون، وكذلك الطعام والطرق والنقل. وكذا يمكن القول عن تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، وجودتها ومواصفاتها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والانتخابات والتشريعات والقرارات والسياسات.. إنها جميعها تتقدم نحو الصواب والتقدم والأفضل، بناءً على ما يملك الناس من ذائقة. وبذلك، ينظم الناس حياتهم، ويقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة.
فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات، والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة، تتحدد بالقدرة على تصميمها وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها. وهي نهاية تقررها القدرة على الرؤية والخيال؛ أي الجمال. فحياتنا، إذن، تكون على النحو الذي نتخيله ونراه، وهي في ذلك في تقدمها وتخلفها بمقدار قدرتنا على إدراك الجمال.
ينطلق علم الجمال من وجود الفن وأعمال فنية. لكنها مقولة تلاقي اعتراضات، بسبب التنوع اللانهائي في الجمال، وأن الجمال موضوع الخيال، ولا يصلح ذلك موضوعا لعلم، ويستحيل صوغ معيار للجمال يقاس به ما هو جميل وما ليس جميلا. وعليه، يتعذر وضع قواعد عامة قابلة للتطبيق على الفن.
على أي حال، فإن الفنون تمثل مساحة واسعة من المجهود الإنساني للفهم واكتشاف الحقائق، والتعبير الحسي الظاهري عن الروح والمشاعر والعواطف والخيال؛ كما يزيح لنا النقاب عنها تجربتنا اليومية. "الفن يحفر هوة بين ظاهر ذلك العالم الرديء والقابل للهلاك ووهمه من جهة، وبين المضمون الحقيقي للأحداث من الجهة الأخرى، كي يُلبس هذه الأحداث والظاهرات واقعية أعلى وأسمى، متولدة عن الروح. وهكذا، نجد أن تظاهرات الفن، البعيدة عن أن تكون محض ظواهر وأوهام بالنسبة إلى الواقع الجاري، تمتلك واقعية أسمى وجودا وأكثر حقيقية".
إن أسمى مقصد للفن هو ذاك المشترك بينه وبين الدين والفلسفة. فهو كهذين الأخيرين؛ نمط تعبير عن الإلهي، عن أرفع حاجات الروح وأسمى مطالبها. لقد وضعت الشعوب في الفن أسمى أفكارها، وكثيرا ما يشكل بالنسبة إلينا الوسيلة الوحيدة لفهم ديانة شعب من الشعوب. لكنه يختلف عن الدين والفلسفة بكونه يمتلك المقدرة على إعطاء تلك الأفكار الرفيعة تمثيلا حسيا يضعها في متناولنا.
ليس هدف الفن محاكاة الطبيعة كما في الفهم السائد. مؤكد أن الطبيعة أجمل من أي عمل فني، ولكن الروح التي تعبر عنها الفنون أعظم وأهم من الطبيعة. فالفن يقدم مضمونا، يمكن ملاحظته حسيا بالقراءة أو النظر أو الاستماع، عن المشاعر والأفكار. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يقال إن هدف الفن تلطيف الهمجية بوجه عام. وفوق هذا الهدف، يقع هدف تهذيب الأخلاق الذي اعتبر لردح طويل من الزمن أسمى الأهداف.
ويُظهر الإنسان بالفن ما هو كائن عليه في باطنه؛ يعبر بذلك عن وعيه. ويسعى الإنسان إلى تجميل نفسه تعبيرا عن تأمله في ذاته، وما يحب أن يكون عليه. ويسعى الإنسان المتمدن إلى الرقي الروحي والفكري، ويعبر بالعمل الفني عن وعيه لذاته.
ويهدف الفن أيضا إلى مخاطبة الحواس، وإيقاظ المشاعر وإثارتها. الفن وجد كي يوقظ فينا شعور الجمال. ولكن حس الجمال ليس فطريا في الإنسان؛ ليس فطريا كغريزة، أو كشيء معطى له منذ ولادته، كما يمتلك أعضاءه (العين على سبيل المثال)، وإنما هو حس بحاجة إلى التكوين والتدريب. وما إن يتم تدريبه وتكوينه، حتى يطلق عليه اسم الذوق.. "لقد كان الهدف من نظرية الفنون الجميلة وعلوم الجمال تكوين الذوق".
والجمال هو الكمال الذي يمكن أن يدركه موضوع منظور أو مسموع أو متخيل. والكمال هو ما يطابق هدفا محددا؛ الهدف الذي توخته الطبيعة أو الفن عند خلق الموضوع الذي ينبغي أن يكون كاملا في نوعه. وحتى نقيم حكما على الجمال، يتوجب علينا قدر الإمكان أن نركز اهتمامنا على المميزات التي يتكون منها كائن من الكائنات، أو السمات التي تجعل منه ما هو كائن عليه. ويقصد بالسمة المميزة من حيث إنها قانون للفن: الفردية المحددة التي تسمح بتمييز الشكل، والحركات، والإشارات، والتعبير، واللون المحلي، والظل والنور، والتدرج الضوئي، والوضعية التي يختلف بها الموضوع عن موضوع آخر، والتي تمثل بالنسبة إلى موضوع ما يجب أن يكونه. فالمميز هو مضمون أي شعور، وموقف، وحدث، وعمل، وفرد محدد، والكيفية التي يتم بها التعبير عن ذلك المضمون، .. ويبقى أن الهدف النهائي للفن هو كشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلا عينيا ومشخصا.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%81%D9%8A-%...