آنا ماري شيمل عميدة الاستشراق الألماني

محمد القاضي

 

لا بد أن نشير إلى تطور جديد طرأ على الاستشراق الألماني، ألا وهو انخراط المرأة في الحقل الذي كان حتى منتصف القرن العشرين وقفاً على الرجال، وأول مستشرقة ألمانية ذات شأن هي الدكتورة آنا ماري شيمل التي ضربت أروع الأمثلة وأحكم الآيات على الشغف بالحضارة الإسلامية.

يتمتع المستشرقون الألمان بسمعة طيبة، نظراً لأبحاثهم العميقة التي أدت في كثير من الحالات إلى إلقاء الضوء على التراث العربي، وتعريف العالم على دور الطليعة الذي كانت الأمة العربية قد لعبته خلال قرون طويلة. ومن المعروف أن أعمال المستشرقين الألمان ساهمت في إحياء علوم الفقه والنحو والأدب والفلسفة وغيرها من العلوم التي كان العرب يتعمقون في دراستها. يقول أحمد أمين: (وقد عرف الألمان بدقة البحث والصبر عليه والاستطاعة العجيبة في أن يؤلفوا بين أجزائه المتنافرة، وأن يصلوا منه إلى أدق النتائج وأعمقها).

إن الاستشراق الألماني حافل بمؤشرات عدة تجعل منه قطاعاً متميزاً في منظومة الاستشراق الأوروبية، على الرغم من وجود اهتمامات مشتركة داخل هذه المنظومة. ويرى الدكتور إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق أن (ما فعله الاستشراق الألماني هو أنه شذب ونقى وأحكم تقنيات كان مجال تطبيقها نصوصاً وأساطير وأفكاراً ولغات جمعتها من الشرق - بمعنى حرفي تقريباً - بريطانيا وفرنسا الإمبراطوريتان. لكن ما كان مشتركاً بين الاستشراق الألماني- والأنجلو- فرنسي- والأمريكي فيما بعد هو نمط من السلطة الفكرية على الشرق داخل الثقافة العربية والاستشراق).

ولا بد من التذكير هنا بأن هناك صفوة من المستشرقين الألمان قاموا بجهود ملموسة وعظيمة في مجال الدراسات العربية والإسلامية على مر العصور، وبات ما خلفوه للمكتبة العربية الإسلامية من آثار ومؤلفات: متناً وترجمة وتحقيقاً وتعليقاً ودرساً، هو مرآة صادقة تعكس هذا المجهود، كما أنها ساعدت أجيال الباحثين والدارسين في الاطلاع على معطيات الحضارة الإسلامية في جميع أنحاء العالم.

آنا ماري شيمل وبداية الاتصال

ولدت المستشرقة آنا ماري شيمل سنة 1922م في مدينة (إرفورت) في وسط ألمانيا، ونشأت في عائلة متوسطة الحال، إذ كان والدها موظفاً بالبريد. شرعت في تعلم اللغة العربية وهي في سن الخامسة عشرة من عمرها بمساعدة أستاذ ألماني كان يدرس في جامعة برلين. وتقول إنها منذ البداية أحبت لغة الضاد وعشقتها (نعم، عشقتها عشقاً حقيقياً)، وشيئاً فشيئاً تمكنت من مطالعة الكتب وقراءة القصص العربية، بل إنها حفظت في تلك الفترة جزءاً من القرآن الكريم (ولذلك حين دخلت الجامعة كنت متقدمة في معرفتي لهذه اللغة إلى الدرجة التي قرأت فيها أبا يوسف البلاذري وكتاباً آخرين، ثم تعلمت بعد ذلك بعض التركية وبعض الأوردية. وتعرفت على الفن الإسلامي، وهكذا تطورت معرفتي بشكل منطقي)، وخلال الحرب العالمية الثانية حصلتْ على شهادة الدكتوراه في الدراسات الشرقية من جامعة برلين عن رسالتها (دور الخليفة والقاضي في مصر خلال العصور الوسطى) على يد المستشرق (ريتشارد هارتمان) وذلك عام 1941م. وفي سنة 1946م حصلت على إجازة تدريس العلوم العربية والإسلامية في جامعة (ماربورج) إلى جانب حصولها على شهادة دكتوراه أخرى في العلوم الدينية. وعلى إثر ذلك عينت أستاذة لتاريخ الأديان في كلية الشريعة الإسلامية في جامعة أنقرة لمدة خمس سنوات. وكانت أول أوروبية غير مسلمة في دولة مسلمة (تركيا) تحظى بكرسي لتدريس الفقه، في وقت رفض طلبها للتعيين من جميع الجامعات الألمانية لكونها امرأة.

وفي سنة 1958م انتخبت عضواً بالمجمع العلمي الملكي الهولندي، وفي سنة 1961م عادت إلى ألمانيا كي تقوم بتدريس العلوم الإسلامية واللغات الشرقية في جامعة بون، ولكنها لم تمكث طويلاً فيها، إذ انتقلت إلى جامعة (هارفرد) في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك سنة 1967م، كما شغلت منصب مديرة قسم الدراسات الهندوإسلامية بنفس الجامعة، حيث مكثت هناك مدة 25 سنة. وتقديراً لنبوغها وغزارة إنتاجها العلمي الأصيل والمتميز حصلت على كثير من الجوائز التقديرية نذكر منها:

1 -جائزة (ريكيرت) من مدينة (شفاينفورت) بألمانيا سنة 1965م.

2 -قلادة القائد الأعظم (محمد علي جناح) من الحكومة الباكستانية عام 1975م. كما منحت درجة الدكتوراه الفخرية من ثلاث جامعات باكستانية: (جامعة السند وجامعة إسلام آباد عام 1977م وجامعة بيشاور عام 1978م) كما أطلق اسمها على شارع كبير بمدينة لاهور الباكستانية.

3 -جائزة (يوهان هينرس فوس) من المجمع الألماني للغة والشعر عام 1980م تقديراً لبراعتها كشاعرة في نقل عدد من المؤلفات الشعرية الإسلامية إلى الألمانية شعراً يمتاز بإشراق الديباجة وجمال التعبير وقوة الإحساس الإنساني في نفسها. إضافة إلى حصولها على وسام الاستحقاق الوطني الألماني من الدرجة الأولى سنة 1991م، وجائزة السلام لسنة 1995م التي يمنحها اتحاد الناشرين الألمان، وتعتبر أكبر جائزة أدبية ثقافية ألمانية ذات صفة دولية، وقد سال حول هذه الجائزة مداد كثير، إذ كانت هدفاً لحملة واسعة نظمها المثقفون الألمان بسبب مواقفها المعلنة ضد سلمان رشدي صاحب آيات شيطانية. لكن رغم ذلك لم تحل هذه الحملة دون أن يقوم الرئيس الألماني آنذاك (هرمان هرتزوغ) بتسليمها شخصياً الجائزة يوم 15-10-1995م، وكان رد فعلها ما يلي: (أنا جد سعيدة بالحصول على جائزة من هذا المستوى. إذ لم يخطر ببالي في يوم من الأيام أن أنال تقديراً كهذا.. وأنا جد سعيدة لأن هذا الاحتفاء وهذا التكريم هو تكريم لمجهود عمر كامل قضيته في دراسة الحضارة الإسلامية، وسعي دؤوب من أجل جعل هذه الحضارة مفهومة بشكل أفضل عند الغرب، وأنا أعرف أن الكثير من أولئك الذين انتقدوني لم يهتموا قط بالإسلام، وأنا أعرف أن أولئك الذين أحدثوا ضجيجاً كبيراً لم يقرؤوا صفحة واحدة من مؤلفاتي، واكتفوا فقط بانتقادها. والسبب هو أني عثرت على عدة مظاهر إيجابية في الإسلام). وقد أعلنت آنا ماري شيمل بأن الجائزة المالية ستقدمها إلى جامعة بون لدعم ومساعدة طلاب وأساتذة العالم الإسلامي الذين يدرسون في ألمانيا.

كما حصلت من جامعة (أوبسالا) السويدية على الدكتوراه الفخرية تقديراً لأعمالها ولجهودها في التعريف بالثقافة العربية الإسلامية.

لقد حظيت بكل هذا التقدير والحفاوة تكريماً لمشوارها الأكاديمي الطويل الذي كرسته في التعريف بالحضارة والثقافة العربية الإسلامية وبسطها أمام القارئ الألماني وعبره للغرب برمته، ثم اعترافاً بالجهد الدؤوب الذي بذلته من أجل تقارب عالمي بين الشرق والغرب وحوار الحضارات وتعميق سبل التفاهم بين الديانات والتوصل إلى معرفة عميقة لتعاليم الإسلام.

سئلت مرة إن كانت تطمح إلى الحصول على جائزة نوبل فردت قائلة: (ماحصلت عليه طيلة حياتي من الجوائز والأوسمة والنياشين والدكتوراه الفخرية يتجاوز الحصر.. ولا أفكر مطلقاً في جائزة نوبل، لأنني لا أحفل بالسياسة وشؤونها، ولا أوجه أفكاري تبعاً لها، وبالتالي أنا أشعر بأنني لست في حاجة إليها).

آنا ماري شيمل عميدة الاستشراق الغربي

سئلت مرة من طرف أحد كبار الباحثين بالخرطوم (السودان): هل تعتبرين نفسك مستشرقة؟ فقالت نعم، أنا مستشرقة وأنا أفخر بذلك، فالاستشراق نافذة حية للتفاهم بين الأديان والحضارات والثقافات.. الذي يجب أن يعرفه المسلمون هو أن الاستشراق ليس بعدو للإسلام، وإنما هو وسيلة جيدة وممتازة لتعلم الإسلام منهجاً وعقيدة... ولا يجب بأي حال من الأحوال أن نغض الطرف عن المجهود الكبير الذي بذله كثير من المستشرقين في مجال ترجمة الآثار العظيمة: الأدبية والشعرية والفلسفية إلى اللغات الأوروبية، وأيضاً التعريف بالتاريخ وبغير ذلك. ومن الخطأ أن نضع كل المستشرقين في بوتقة واحدة وأن نقذفهم جميعاً إلى الجحيم. صحيح أن بريطانيا وفرنسا استخدمتا الاستشراق لأغراض عسكرية وسياسية واستعمارية، ولكن الاستشراق في جوهره منهاج علمي استفاد منه المثقفون الغربيون والعرب على حد سواء.

والدكتورة آنا ماري شيمل سليلة تقاليد استشراقية عريقة كرسها جيل (غوتة) تحت اسم (الاستشراق الرومانسي) الذي يتميز عن (الاستشراق الكولونيالي)، وهو نهج يعمل على دراسة وفهم الثقافات الأخرى انطلاقاً من منطق هذه الثقافات. وهي علم بارز في مجال الدراسات الاستشراقية والترجمة لروائع الأدب والشعر من لغات الشعوب الإسلامية إلى اللغة الألمانية وغيرها. وتحتل مكانة مهمة في عالم الاستشراق الألماني الحديث، وذلك لما قامت به من إنجازات مهمة في هذا الميدان، فقد مهدت الطريق من خلال أبحاثها وكتبها ومحاضراتها في أنحاء متفرقة من العالم لمعرفة كنوز الشرق وواقعه وحقيقته بموضوعية وحياد كاملين، إضافة إلى أنها تتقن إلى جانب لغتها الأم- الألمانية: الإنجليزية والعربية والفارسية والتركية والأردية والباشتو. نشرت ما يناهز ثمانين كتاباً عن الإسلام والحضارة العربية الإسلامية، عرف جزء مهم منها طريقه للترجمة إلى لغات أوروبية أخرى، فكان لها فضل كبير في تعريف العالم الغربي بعدد كبير من علماء المسلمين وفلاسفتهم وأدبائهم وشعرائهم، وكذلك بتاريخ الثقافة والحضارة الإسلامية وفنونها. ولاحظت أن عناية المستشرقين ودارسي آداب الأقطار الإسلامية اقتصرت لفترة طويلة على (اللغة العربية في المقام الأول، ومن بعدها الفارسية في المقام الثاني، من حيث كونهما أهم وأخطر لسانين من بين ألسنة العالم الإسلامي، وما تحرك هذا الاهتمام ليستكشف آداب اللغة التركية إلا وئيداً، وببطء يزيد على ذلك راح يقترب من أدب اللغة الأردية، مع أن كمية الآثار التي أنتجها هذان الأدبان خليقة وحدها بأن تبعث على كل إعجاب وإكبار).

لقد تبحرت في دراسة الشرق الأدنى والتعريف بمميزات ما يصطلح عليه في أوروبا (بالإسلام الآسيوي أو الهندوإسلامي) إلى درجة أن أعمالها في نظر الدارسين ملأت فراغاً طالما عانت منه مدرسة الاستشراق بحكم تركز اهتمام جل المستشرقين على دراسة المشرق العربي، بحيث يستحيل على كل متخصص أن يتجاهل ما ألفته في هذا المجال عن فكر الفيلسوف والشاعر الإسلامي محمد إقبال، وجلال الدين الرومي، إضافة إلى مؤلفات أخرى منها:

1 -كتاب السيرة لابن الخفيف الشيرازي بالألمانية- 1955م.

2 - باكستان قصر ذو ألف باب بالألمانية 1965م.

3 - فن الخط الإسلامي بالإنجليزية 1970م.

4 - الآداب الإسلامية في الهند بالألمانية 1975م.

5 - الأبعاد الروحية في الإسلام بالإنجليزية 1975م.

6 -  الإسلام في شبه القارة الهندية الباكستانية بالإنجليزية 1980م.

7 -محمد رسول الله بالألمانية 1980م وأعادت كتابته بالإنجليزية 1986م.. وغيرها من المؤلفات والترجمات للكتب والمخطوطات العربية والإسلامية ومشاركتها في إصدار العديد من الأعمال الأدبية والثقافية وسير الشخصيات الإسلامية. كما قامت بالتدريس في مختلف الجامعات والكليات شرقاً وغرباً. وكانت دراستها عن التصوف وعن جلال الدين الرومي وعن محمد إقبال فتحاً كبيراً بالنسبة لإبراز المكانة العلمية لهؤلاء الرجال، إضافة إلى اهتمامها بدراسة فن الخط والنمنمات والزخرفة وفن العمارة في الحضارة الإسلامية، وساهمت في إنجاز كتاب (تاريخ الحضارة الإنسانية في أفريقيا وآسيا وأمريكا) الصادر سنة 1966م بألمانيا. وعهد إليها بكتابة الفصل القيم عن (الإسلام دين التوحيد والوحدة) وهو دراسة وافية وإلمامة بليغة صحيحة شملت الإسلام وعقائده وعباداته وشريعته وثقافته وفنونه وأخلاقياته وخصائصه، رغبتها في ذلك هو أن يفهم الغربيون الإسلام فهماً صحيحاً، كما كتبت مقدمة مسهبة تتسم بالإنصاف والأمانة العلمية وصحة البيان عن القرآن الكريم في الطبعة الحديثة عام 1963م للترجمة الألمانية للكتاب الكريم التي قام بها (ماكس هننج)، ومما جاء في هذه المقدمة: (إن القرآن هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، والدليل القاطع على صحة نبوته. وإنه رسالة الله إلى الناس كافة. وإن القرآن هو المهيمن على ما سلفه من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء والرسل، وإنه يخاطب العقل والضمير والوجدان). وساهمت كذلك في كتاب (ألمانيا والعالم العربي) الذي اشتمل على دراسات تتناول الصلات الثقافية والعلمية والفنية بين الألمان والعرب منذ أقدم العصور إلى أيامنا هذه، ترجمه إلى اللغة العربية وقدم له الدكتور مصطفى ماهر والدكتور كمال رضوان. وكانت مشاركة الدكتورة آنا ماري شيمل بدراسة عن (الإحاطة بالأدب العربي في الأدب الكلاسيكي والرومانتيكي الألماني). وهي دراسة أساسية تبين تأثر الأدباء الألمان في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر بالأدب العربي، وكيف بدأ في ذلك العصر الحرص على التدقيق والتصحيح سواء في أوساط المستشرقين بزعامة (رايسكه) أو في أوساط الأدباء والشعراء أنفسهم. وبينت قيمة (ليسينج) ومسرحيته (ناتان الحكيم 1779م) التي يرسم فيها صورة مشرقة للسلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي. وأفردت (لغوته) مساحة واسعة من دراستها، وعقدت بينه وبين الشاعر محمد إقبال مقارنات. بعد ذلك تنتقل للحديث عن (فريدريش روكروت 1788-1866م) الذي نقل إلى الألمانية (مقامات الحريري) في ترجمة رائعة، كما نوهت بترجمته كذلك لطائفة من سور القرآن الكريم. وترجمته لديوان (الحماسة) لأبي تمام التي لا تقل في روعتها عن ترجمة (مقامات الحريري). كما قدمت لكتاب (الإسلام كبديل)- الذي هز ألمانيا للدكتور مراد هوفمان، سفير ألمانيا بالمغرب سابقاً الصادر عن مؤسسة (بافاريا) للنشر والخدمات والإعلام بمدينة ميونيخ بألمانيا، ومما جاء في هذه المقدمة:

(إن الكثير من الأحكام الظالمة التي نلصقها بالإسلام ناشئة عن سوء فهمنا وخطئنا في القياس المنطلق من معاييرنا الغربية ومثلنا أو قيمنا- وليدة القرن العشرين المشرف على النهاية- وهنا لب المشكلة والتي يجسدها تساؤلنا: هل يمكن أن تكون القيم الغربية قيم المجتمع المعدوم الإله، قيماً مطلقة؟! إن من المحزن اليوم حقاً ألا يميز كثيرون في الغرب بين الإسلام وبين ما يلصق زوراً وبهتاناً بالإسلام أو ما يقترف من جرائم باسم الإسلام، فالإسلام بريء من الإرهاب والإرهابيين ومن الأصوليين هذا التعبير الذي لا يمت إلى الإسلام بصلة... وتختم مقدمتها ببيت (لغوته) في الديوان الشرقي الغربي:

إن يك الإسلامي معناه القنوت... فعلى الإسلام نحيا ونموت).

وشاركت في إصدار مجلة (فكر وفن) باللغة العربية في ألمانيا وذلك منذ سنة 1963م، وكانت قد أنشئت لتوطيد العلاقات الثقافية والفنية بين العالم العربي وألمانيا. وساهم في تحريرها نخبة من المثقفين الألمان والعرب. توفيت سنة 2003م. كانت حياتها صورة مشرفة لعدد غير قليل من الأساتذة والعلماء والمستشرقين الأوروبيين والألمان ممن كرسوا حياتهم لهذا المضمار التاريخي والثقافي والفكري وتراثه المثير للجدل، كما أنها تعتبر من أكثر العلماء والأساتذة والمستشرقين إنتاجاً وشهرة باللغتين الألمانية والإنجليزية، خلفت وراءها ثروة علمية مهمة متمثلة في كثير من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة في مختلف الدوريات العلمية، يمكن حصرها في:

أ‌ -ترجمة آداب الأمم الإسلامية التي كانت تتقن لغتها (العربية، التركية، الفارسية، الأوردو والسندي والباشتو).

ب‌ -مجال الدراسات الإسلامية ويتوزع على ثلاث مجموعات من الموضوعات: التصوف.. التعريف بالإسلام.. الدراسات الإسلامية المتخصصة.

ودراساتها بصفة عامة تقوم على نقطتين أساستين وهما:

1 - الجانب التاريخي ويتحدث عن تحول الإسلام إلى حضارة عالمية.

2 - الجانب التحليلي القائم على دراسة مكون ومخاض وولادة الأفكار الرئيسة التي شكلت الإسلام في وظائفه المتعددة كمعتقد ديني وحضارة ونمط ووجود.

وكان التصوف الإسلامي أقرب المجالات إلى وجدانها وعقلها، فكانت ترى أن التصوف هو الحياة الداخلية في الإسلام، وأن المتصوفة قد أسهموا في تحويل اللغات الشعبية إلى أدب رفيع وبليغ. كتبت فيه كتاباً شاملاً، يعتبر مرجعاً أساساً في هذا الموضوع الدقيق. إضافة إلى اهتمامها بأفكار جلال الدين الرومي، وقد ترجمت كتابه (المثنوي) إلى اللغة الألمانية، ويتضمن منظومة صوفية شهيرة كتبها خلال اجتياح المغول لبغداد، وتدميرها قال فيها: (إن كل الناس يهابون المغول، غير أننا نعتبر الله خلق المغول)، وقد علقت شيمل على هذه المقولة (التي تؤكد على القوة الروحية التي تنبع من أعماق الإنسان فتجعله قادراً على تحمل الشدائد والمحافظة على الحياة)، إضافة إلى دراسات مهمة تناولت فيها الشاعر الباكستاني محمد إقبال وأفكاره العظيمة، وترجمت من أعماله إلى اللغة الألمانية: (كتاب الخلود) (رسالة الشرق)، وكانت من المعجبين به جداً، وهو في نظرها واحد من المطلعين اطلاعاً واسعاً وعميقاً على الفلسفة الإسلامية والأوروبية، وقرأ بعمق آثار كل منهما، وتمكن من أن يفهم العصر فهماً شاملاً وخالياً من التعقيد. كما استطاع أن يؤسس منهجاً فكرياً متكاملاً وأصيلاً يعتمد المزج بين الحضارتين: الإسلامية والغربية. وكانت أمنيته الكبرى أن يرى البشرية جمعاء منضوية تحت لواء التوحيد وتعبد الله الواحد الأحد. كما قامت بترجمة أشعار للحلاج.

رمز التسامح والتعايش

أحبت آنا ماري شيمل الإسلام، واهتمت بثقافته، منذ كانت طفلة، كما عاشت في تركيا وباكستان ومناطق إسلامية أخرى ضمن عوائل إسلامية، وعرفت جوانب من الإسلام لم تكن معروفة بشكل جلي لدى الكثير من زملائها الباحثين. فكتبت عن الإسلام والمسلمين بروح الإنصاف وعمق الثقافة وأصالة التفكير، حريصة على أن تنظر إليه بعين العالم، وبالمنهج العلمي دون تحيز أو أحكام مسبقة. والإسلام عندها هو (ذلك الدين العميق ذو المعاني والقضايا، وهو أيضاً التوكل الإلهي والخصوصية الروحية، وأنا دائماً أتمثل مقولة المؤرخ دكيتر في كتابه معالم تاريخ الإنسانية: إن الإسلام ساد لأنه خير نظام اجتماعي وسياسي استطاعت الأيام أن تقدمه. وبالتالي فأنا أدعو المسلمين لأن ينشئوا لديهم ما يمكن أن يسمى دراسات الغرب المتخصصة عن دياناته وعقائده وأفكاره وتاريخه القديم والحديث وأوضاعه المعاصرة، حتى تصبح لديهم أدوات المواجهة والفهم وحتى لا تسحقهم موجات التغريب التي تكتسح دول العالم على اختلاف وضعيتها من أنماط التقدم التكنولوجي).

تميزت شيمل بالحياد والنزاهة والموضوعية والتوازن، وبإنصافها للإسلام وتعاطفها مع الشعوب الإسلامية، فأقامت الجسور المتينة بين ثقافتها الألمانية والثقافة الإسلامية، وهي في كتبها تدعو إلى التسامح وفهم الآخر، والتعامل معه بندية واحترام، وتعتقد أن الإسلام هو السبيل الوحيد الذي سيرشدنا إلى الخلاص ويهدينا إلى ينابيع الحقيقة، لأن التاريخ يعلمنا حقيقة بسيطة وهي أننا قادرون على أن نتجاوز المصاعب والكوارث إذا ما نحن تعلقنا بالمبادئ الروحية والإنسانية، غير أن أغلب الناس تناسوا الآن مع الأسف الشديد مثل هذه الحقيقة البسيطة وهذا شيء خطير. كانت تلقي بشباكها وهي محملة بصورة التسامح الإسلامي في بحر الكراهية الذي صنعه الغرب تجاه الحضارة الإسلامية، وترفض أي شكل من أشكال التطرف، كما ترفض بشدة الحملة المشوهة التي تشنها وسائل الإعلام ضد الإسلام وتقول: (يجب ألا ننسى أن كثيراً من الحركات التي نطلع من خلالها على الإسلام لا علاقة لها بالإسلام، بل هي حركات ذات علاقة بالسلطة السياسية، أكثر من الفكر الديني.. فهل نحكم على المسيحية من خلال الإرهاب الإيرلندي؟ وسراييفو ألم يعش فيها المسلمون والمسيحيون الرومان واليونانيون مئات الأعوام في وحدة وطنية وسلام؟ أليس قاتلو المسلمين في سراييفو أصوليين متطرفين؟ لقد تعودنا الآن -بكل أسى- أن ننظر من جهة واحدة تجاه الإسلام. إن مشكلتنا الكبيرة في الغرب هي عدم معرفتنا مدى العلاقة الوثيقة التي تربط الدين بالحياة، وعدم تصور وجود حياة لدى المسلم بدون دين، بحيث نعتقد أن ثقافتنا اللادينية هي حضارة مثالية، وننسى أن الإنسان مؤمن بأعماقه وروحه. ونظراً إلى أننا فقدنا في الغرب إيماننا منذ عهد بعيد، فإنه يصعب علينا جداً تفهم الإسلام وحمله المحمل الذي يستحقه).

إنها رمز للتسامح الذي نجح في بناء الجسور بين الإسلام والغرب. إن قضية التشهير بالإسلام والمسلمين هي قضية ذات جذور وعمق تاريخي ومغزى عميق عبر عنها الكثير من المستشرقين والساسة. وكان على رأسهم الإنجليزي (غلادستون) الذي قال: (ما بقي هذا القرآن يتلى فلن تستطيع أوروبا أن تسيطر على المشرق، بل لن تستطيع أن تعيش في مأمن) وغيره الكثير كان آخرهم الأمريكي (هنتجتون) صاحب فكرة صدام الحضارات.

وأخيراً نقول إنها ذكرت أوروبا بالتسامح الإسلامي، وأعلنت أن الإسلام هو دين الحوار، ويجب إيجاد طريق للحوار بين الغرب والعالم الإسلامي. انطلقت في حياتها دارسة للحضارات الأخرى في فترة كانت النازية لا ترى غير الألمان.

(لقد مهدت لنا آنا ماري شيمل هذا الطريق للقاء بالإسلام، وتعلمنا منها كيف نمهد مثله تجاه كل حضارة أخرى).

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4160

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك