المستشرقون الألمان والصناعة المعجمية

د.عبدالحميد أسقال

 

مال الاستشراق الألماني، منذ بداياته الأولى إلى الاهتمام باللغة العربية كإحدى اللغات السامية، لفهم ما أنتجته العقلية العربية، وقدمته إلى غيرها بأمانة وإخلاص، فانصبت عنايتهم على هذه اللغة، غائصين في أعماقها وباحثين في جذورها ونشأتها، ليكتشفوا كنوزها ودررها، ويقفوا على أسرارها، بحرية وتفان وصبر وأناة ونفي للذات، فأفنى بعضهم زهرة حياته في درسها. وقد استولت على عقولهم الدهشة والحيرة حين اطلعوا على ما صنع أسلافنا في مختلف زوايا العلم والمعرفة. فركزوا على هذه اللغة من أجل النفاذ إلى مفاهيم الإسلام ودستوره المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويهدي للتي هي أقوم، وكذلك ترجمته. يقول ألبرت ديتريش (لا مجال للشك في أن دراسة اللغة العربية، هي الأساس الأول لدراسة الحضارة العربية، والتعمق في فهم العالم العربي).

إن حرص الألمان على التمكن من هذه اللغة، جعلهم يقبلون على دراسة كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، فبحثوا في نحوها وصرفها وأصواتها، ولهجاتها وفقهها، وأطوارها وغزارتها ومادتها، ومعاجمها بشكل خاص، فألف علماء الألمان عدة كتب في قواعد اللغة العربية، استفادوا من العرب طريقتهم التي نهجوا بها منهجاً علمياً حديثاً في عرض النحو العربي.

نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، نولدكه (1836 - 1930) الذي عرف عنه تضلعه في اللغة العربية، واللغات السامية والإيرانية، والتركية والحبشية والآرمية. نشر كتابه (قواعد اللغة العربية الفصحى) الذي ظهر سنة (1896)، وغدت دراسته نقطة تحول في بحث اللغة بحثاً تاريخياً. ونشر كارل بروكلمان (1868 - 1956) العالم الكبير، والباحث المقتدر، الذي طارت شهرته في فقه اللغة العربية، وقراءتها قراءة فصيحة، وكتابتها كتابة سليمة مبرأة من الشوائب والعيوب. وقد قضى أكثر من خمسين سنة من عمره، وهو ينقب بين رفوف المكتبات المختلفة في أنحاء العالم، وتصنيف المصادر العربية. ولعل أهمها المجهود الكبير الذي بذله في إخراج كتابه: (قواعد اللغة العربية). وقد ظهرت منه حتى اليوم ثلاث عشرة طبعة نظراً لأهميته، علماً أن مستشرقاً ألمانياً آخر هو- برجشتراسر (1886-1933) نشر كتابه (حروف النفي في القرآن) وهي أطروحته في الدكتوراه (1911) طبع أكثر من مرة، واعتبر هذا أول محاولة لدراسة النحو التاريخي، وألقى مجموعة من المحاضرات في تطور النحو العربي حين قدم مصر أستاذاً زائراً.

فتحت إسهامات هؤلاء في ميدان اللغة طريقاً أمام الأجيال الأخرى من الذين انكبوا على دراساتهم التخصصية في مجال اللغة العربية، ومعاجمها. مما جعل المدرسة الاستشراقية الألمانية متميزة عن غيرها. وتكاد تكون متخصصة في هذا المجال. يضاف إلى ذلك اطلاعهم على كنوز التراث العربي الإسلامي، والوقوف على المعاجم التي ألف فيها العرب ابتداء من القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي العديد من المعاجم باختلاف تنوعها ومناهجها وترتيب ألفاظها. فأصبحت متميزة لها صبغة عالمية. ولم يكن ذلك خفياً عن بعض علماء الألمان الذين أعجبوا بهذا العمل، وانجذبوا نحوه، فأدلوا بدلوهم. يقول فيشر مبرزاً تفوق العرب في هذا الميدان: (وإذا استثنينا الصين، لا نجد شعباً آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها، بحسب أصول وقواعد غير العرب).

وقد أدركوا قيمة هذه المعاجم، وأنه بدونها لا يمكن فهم القرآن الكريم، ولا الأحاديث النبوية الشريفة، فأسهموا في إغناء المكتبة العربية بعدد من المعاجم، لدرجة أن أحدهم وهو المستشرق الألماني فلوجل (1802 - 1870) قام بفهرسة ألفاظ القرآن الكريم، قبل أن يقوم بذلك أي عالم عربي، إلى أن جاء العالم المصري العلامة محمد فؤاد عبد الباقي، فاستدرك عليه بعض الأشياء وأخرج كتابه المتميز (الغائق) (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) فأغنى الخزانة العربية. ومهما قيل عن سلبيات وهفوات وهنات بعض المستشرقين الألمان، فقد أدت عنايتهم في هذا المجال إلى نتائج ضخمة يجب تقديرها، وقد شهد لهم العديد من الباحثين العرب، بالموضوعية والجدية والدقة. يقول صلاح الدين المنجد: (يستحيل أن يخرج مجمع علمي ما أخرجه مستشرق واحد) وإلى الأمر نفسه يذهب إدوراد سعيد فيقول: (إن ما فعله تراث الاستشراق الألماني هو أنه شذب ونقى وأحكم تقنيات كان مجال تطبيقها نصوصاً وأساطير وأفكاراً).

وسأركز في هذا الموضوع على إسهامات وجهود بعض المستشرقين الألمان في ميدان الصناعة المعجمية، وأخص بالذكر فيشر الذي كان له نشاط واضح في هذا الاتجاه.

المستشرقون الألمان والمعاجم العربية

أسهم بعض المستشرقين الألمان في إثراء المعجمية العربية، بعدد من المعاجم نذكر من بينهم:

- جورج فلهم فريتاج (1788 - 1861)

ولد في لونبرج، وتعلم العربية، وتضلع فيها، عين أستاذاً للغة العربية بجامعة بون سنة 1819، فأوقف نشاطه عليها، حتى وافاه أجله. صنف المعجم العربي اللاتيني في أربعة أجزاء قضى فيه سبع سنوات صدر سنة (1830 - 1837)، يعتبر من أدق المعاجم العربية، التي ألفت من قبل المستشرقين.

- هانس فير (1909 - 1981)

تلقى العلم في هاله على يد أستاذه هانزباور، وعين أستاذاً للدراسات الشرقية في جامعة مونستر (1956)، وقد كان حذقاً في اللغة العربية ولهجاتها التي درسها خلال رحلاته العديدة إلى الشرق، يُتقنها نطقاً وكتابة. وهو صاحب (القاموس العربي الألماني) الذي تناول فيه الكلمات المستعملة في الكتب العربية المعاصرة، وفي الصحف والمجلات. والجديد في هذا القاموس كونه أخذ مفرداته من الكتب والمجلات والصحف الحديثة. ولم يرجع إلى المعاجم العربية، وقد ترجم إلى الإنجليزية، ونشر في الولايات المتحدة عدة طبعات سنة (1961- 1966- 1971).

وإلى جانب هذه المعاجم نذكر قاموس شراكله (1923) الألماني العربي الذي صدر سنة 1974، والقاموس الضخم (للغة العربية الفصحى) الذي عمل عليه أولمان (1931) في جامعة توبنغن.

- فيشر ومعجمه اللغوي التاريخي

أوجيست فيشر (1856 - 1949)

ولد في هاله، أتقن اللغات الشرقية، وقد سار على نهج فلايشر في العناية بفقه اللغة كأساس لدراسة النصوص وتحقيقها، وامتاز ببراعته ودقته، ولاسيما فيما تناول من أصول اللغة وفن المعاجم، وما اشتمل على الشعر القديم ولهجات الشعوب. وكان له دور فعال في تجديد التعليم العربي في جامعات ألمانيا، وأنشأ سنة (1932) مجلة الدراسات السامية، ولمع نجمه في مجال الصناعة المعجمية، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق والمجمع اللغوي بمصر.

بعض آثاره:

 (مخارج الأصوات في اللهجات العربية) (1917).

 (كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري) (1896).

 (ألف ليلة وليلة) (1918).

 (القرآن لأبي العلاء المعري).

 (تذكرة الحفاظ للذهبي).

 (صنف فهرس المخطوطات العربية الفارسية الخاصة بالرحالة برتشارد) (1922).

 (جدد كتاب منتخب من نثر العرب) لبرونو (1928).

 (قواعد اللغة العربية) (المجلة) الشرقية الألمانية (1906).

يعتبر فيشر من كبار المستشرقين الألمان الذين تخصصوا في مجال المعاجم العربية. وكانت له اليد الطولى في ذلك من خلال قراءة مادتها العلمية واللغوية بغزارتها. وسعة اطلاعه على اللغة العربية، فامتاز بمنهجيته التجديدية في تصنيف المعاجم العربية.

وتظهر هذه المنهجية في عمله العلمي العظيم: (مشروع معجمه التاريخي للغة العربية) الذي دعا فيه إلى التزام مجموعة من المبادئ، وقد رآها مفيدة في إنجازه هذا المشروع الضخم. حيث (يجب أن يشتمل المعجم على كل كلمة بلا استثناء، وجدت في اللغة، وأن تعرض على حسب وجهات النظر السبع التالية: التاريخية والاشتقاقية والتصريفية والتعبيرية والنحوية والبيانية والأسلوبية).

وعمد فيشر بعد أن بين النقاط السابقة إلى تفسيرها وشرحها شرحاً وافياً، وصائباً في الوقت ذاته مع منطق اللغة العربية، دون أن ننسى المبادئ التي ارتكز عليها في صناعة معجمه، وقد ذكرها الباحث العربي د/عبد الله الدرويش في دراسته لمعجم فيشر المتمثلة في الآتي:

أولاً: المفردات التي اعتمد في استخراجها من كتب الأدب والحديث والتفسير والمعاجم العربية والأوروبية.

ثانياً: جمع المواد بأكبر قدر ممكن.

ثالثاً: ترتيب الكلمات بأحسن وجه مستطاع.

رابعاً: الاصطلاحات واستيفاء حقها.

خامساً: الترجمة إلى اللغات الأوروبية.

ونستشف هذا من مقدمة معجمه التي وضعها كمدخل، حيث ينص فيها على ما يلي: يقول فيشر (ومنتهى الكمال لمعجم عصري، أن يكون معجماً تاريخياً، ويجب أن يحويَ المعجم التاريخي كل كلمة، تدوولت في اللغة، فإن جميع الكلمات المتداولة في لغة ما، لها حقوق متساوية فيها، وفي أن تُعرض وتستوضح أطوارها التاريخية في معجماتها، ولكن المعجمات العربية، بعيدة كل البعد عن وجهة النظر هذه، إذ إنها لا تعالج الناحية التاريخية لمفردات اللغة، بل تقتصر على إيضاح الاتجاه النموذجي لها، أعني أن مصنفيها إنما أرادوا التفرقة الدقيقة بين الفصيح من العربية، وغير الفصيح، وذلك بوضع قانون للاستعمال الصحيح للكلمات، ويدل هذا الاتجاه -دون شك- على إحساس لغوي دقيق عند اللغويين، ولكنه عاق القوة الحيوية الدافعة في اللغة عن التقدم والتوسع).

وكان قد طرح مشروعه هذا على مجمع اللغة العربية بالقاهرة وكلفه المجمع بإعداد هذا المعجم، ونشره. ولكن وللأسف الشديد، فإن هذا العمل لم يكتمل في حياته، فقد وافته المنية دون أن يحقق أمنيته في أن يرى عمله مكتملاً بين يديه. وبقي العمل مشروعاً مفتوحاً إلى أن تولاه عالمان ألمانيان هما: شبيتلر وكريمر استمرا فيه وتمكنا من جمع مادة فيشر وأصدرا أول ملزمة سنة 1957.

وحسب علمي أن مثل هذا الإنجاز الضخم يقوم به بعض الباحثين العرب من المغرب وبعض الدول العربية.

وخلاصة القول إن عمل هؤلاء، الذي اتسم بالجدية والموضوعية يجب أن ننوه به ونعترف لهم، بما أخرجوه من أعمال جبارة، أنارت الطريق بعدهم للباحثين والدارسين المتخصصين في مجال الدراسات اللغوية والمعجمية، في العالمين العربي والغربي، كي يقتدوا بهم، ويسيروا على نهجهم لتطوير أبحاثهم ودراساتهم المعجمية، وكم نحن في حاجة ماسة إلى من يشمر على ساعديه، ويغوص في أعماقها، في زمن تشتكي فيه اللغة العربية من إهمال أبنائها وانجرافهم مع التيار، الذي يقلل من قيمتها وشأنها في المجال العلمي، ويتهمها بالنقص والقصور وعدم مسايرتها للتطور الذي يعرفه العالم في المجال التقني خصوصاً.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4163

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك