الاستشراق: قراءة في الجذور والخلفيات

د. خاليد فؤاد طحطح

 

يمكننا القول إن الاستشراق مَثَّلَ الخلفية الفكرية للمواجهة التي لا تزال مظاهرها تطفو على السطح بين الفينة والأخرى في الصراع بين الشرق والغرب، بل يمكن الجزم بأن للاستشراق الأثر الأكبر في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام منذ قرون عديدة، وما يزال الأوروبيون إلى اليوم يعتمدون في دراساتهم وأبحاثهم على آراء المستشرقين السابقين.

 تُطلق كلمة مستشرق على كل عالم غربي اشتغل بدراسة الشرق. وإذا كانت كلمة مستشرق بهذا المعنى اللفظي لم تتداول إلا خلال القرن الثامن عشر، حيث تم إدراجها في قاموس اللغة الأكاديمية الفرنسية؛ فإن البوادر الأولى للاستشراق بشكل رسمي بدأت بعد قرار مجمع فيينا الكنسي سنة 711هـ/ 1312م، والذي دعا إلى عقده البابا كليمنس الخامس للفصل في النزاعات المسيحية الداخلية، حيث تم بعده مباشرة إنشاء عدد من كراسي تدريس اللغة العربية في معظم الجامعات الأوروبية، ولا شك أن التوسع السريع للإسلام هو الذي حفز رجال الكنيسة للاهتمام بدراسة الإسلام خلال فترة العصور الوسطى، قبل أن تتطور الدراسات الاستشراقية لاحقاً لتشكل حلقات متمايزة في العلاقة بين الغرب والشرق.

خصائص استشراق العصر الوسيط

إن أدب أوروبا في العصور الوسطى حول الإسلام وضع في غالبيته من طرف رجال الدين المسيحيين، الذين استندوا على المؤلفات الجدلية اللاهوتية الدفاعية للمسيحيين الشرقيين، وعلى ترجمات مفكريهم وشهادات بعض المسلمين، وكانت المعلومة تنتزع من سياقها الأصلي وتقدم بطريقة مشوهة أو بطريقة غير واعية أحياناً، وكان الدافع وراء هذه الدراسات هو الصراع الذي دار بين العالمين الإسلامي والمسيحي في أماكن الاحتكاك بكل من الأندلس وصقلية والقدس، وقد ساهمت الحروب الصليبية بشكل أساس في تزايد اهتمام الأوروبيين بالأبحاث حول ثقافة وعلوم العرب، وقد تزعم الأكليروس خلال تلك الفترة الرد على مفاهيم وعقائد الإسلام، والبحث عن نقاط ضعفه، للطعن فيه، والزعم أنه ملفق ومأخوذ عن المسيحية واليهودية، وبدؤوا في نشر مزاعمهم حول القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، مؤكدين في كتاباتهم أن الإسلام ليس ديناً جديداً، وإنما الرسول محمد استمد أفكاره من الكتب السماوية السابقة. ويعتبر هذا الاتجاه متعصباً، لأنه نظر إلى الإسلام بعداوة وكراهية وبغض، وذلك حماية للنصارى من خطره، فقاموا بتشويهه، وقد مثل هذا الاتجاه كما سبق رجال الدين المسيحيون وهم التيار الأقوى.

 ومقابل هذه الصورة السلبية التي قدمتها هذه الطبقة من رجال الدين المتعصبين؛ كانت هناك إسهامات موضوعية، اهتمت أساساً بإنتاجات الحضارة الإسلامية من علوم ومعارف وأدب وفنون، وهذا التيار كان الحلقة الأضعف، إذ مثل تيار الأقلية آنذاك، وتركزت إسهاماته في تنشيط حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، ونذكر من أشهر المترجمين الكاهن الفرنسي جيربرت الذي استقر لفترة في الأندلس، والإيطالي جيرالد الكريموني الذي أقام في طليطلة ونقل إلى اللاتينية فلسفة الكندي وكتابات بطليموس، والأسكتلندي ميخائيل سكوتس الذي درس في باريس الفلسفة والفلك والتنجيم، وأقام لمدة في طليطلة قبل أن يرحل بشكل نهائي إلى باليرمو عاصمة صقلية، حيث لقي استقبالاً مشجعاً من ملكها النورماندي فريدريك الثاني، وقد استقر بها، وترجم خلالها العديد من كتب ابن رشد وابن سينا.

الاستشراق من القرن 17 إلى القرن 19

 جعل الأوروبيون خلال القرون الوسطى من الاهتمام باللغة العربية مسألة أساسية للتعرف على ثقافة الشعوب الإسلامية، لذلك وضعوا في جامعاتهم كراسي لتشجيع الطلبة على تعلمها، وجعلوا من بين أهدافهم الأخرى التصدي للمد الإسلامي عبر تنشيط حملات التبشير بالدين المسيحي. وقد اختلف الأمر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد تبلورت نظرة أكثر موضوعية مما سبق، وظهرت آراء أقل تعصباً من السابق عن الإسلام والحضارة الإسلامية، والتي حلت محل الآراء المتعصبة للاهوتيين، ومن بين الأمثلة نذكر ريتشارد سيمون مؤلف كتاب (التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق)، ثم محاولات هادريان ريلاند أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوتريخت بهولندا، فقد أصدر كتابه (الديانة المحمدية)، قام فيه بتصحيح ومراجعة كثير من الآراء النمطية الغربية حول الإسلام، حتى أن الكنيسة الكاثوليكية حرمت تداول هذا الكتاب.

 إن التصورات الجديدة التي بدأت في التبلور خلال هذه الفترة المبكرة من التاريخ الحديث لم تستطع القضاء على الصورة المشوهة عن الإسلام في أذهان الغربيين، والتي كرستها كتابات القرون الوسطى وكتابات المستشرقين المعادين بصفة خاصة، وقد جاءت ظروف القرن التاسع عشر لتعزز من النظرة السيئة وتكرسها من جديد في ظل تصاعد الحركة الإمبريالية، بفعل حاجة الدول الرأسمالية إلى فتح أسواق جديدة أمام فائض إنتاجها الصناعي والفلاحي، وقد وجد المفكرون الكولونياليون في فكرة نظرية التفوق العرقي للشعوب الآرية الأوروبية على باقي الشعوب والأجناس الأخرى، مبرراً تم اعتماده إلى جانب مبررات أخرى لإعطاء صبغة إنسانية وحضارية للاستعمار والتوسع الإمبريالي، وخلال هذا القرن ازدهرت بشكل كبير الدراسات الاستشراقية في كل الدول الأوروبية وبالخصوص في البلدان الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وهولندا، ولذلك يمكن التأكيد أن هذا القرن يمثل قرن الاستشراق بحق، حيث تخلصت الأبحاث الجديدة من الصبغة اللاهوتية التقليدية وحلَّت محلها النزعة العلمية الأكاديمية الزائفة، وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أصبحت الدراسات الإسلامية تخصصاً قائماً بذاته داخل الحركة الاستشراقية العامة، ونتيجة لذلك تناسلت المجلات والمطبوعات من كتب ودوريات حول الاستشراق، وأقيمت حوله المؤتمرات والندوات.

 لقد كان لتطور ظاهرة الإمبريالية أوائل القرن العشرين أثره في النظرة الأوروبية إلى الشرق، فقد استفادت الدول الرأسمالية من دراسات المستشرقين، ومن كتب الرحالة والمكتشفين، حيث تم تجنيد عدد كبير منهم لخدمة أغراض التدخل الاستعماري وتحقيق أهدافه وتمكين سلطانه في البلاد الإسلامية، وهكذا نشأت علاقة وثيقة ورسمية بين الاستعمار والاستشراق، حيث كرس العديد من المستشرقين أبحاثهم ودراساتهم لخدمة أطماع دولهم الاستعمارية، ونذكر من هؤلاء الألماني كارل بيكر والهولندي سنوك هورجرونيه. أما فرنسا فقد استعانت بالعديد من المستشرقين، الذين أوكلت لهم مهمة مستشارين في وزارة المستعمرات الفرنسية، وعلى سبيل المثال نذكر المستشرق المشهور دي ساسي الذي ترجم البيان الموجه للجزائريين، وكان يستشار في كل الأمور المتعلقة بالشرق، وفي بريطانيا كان اللورد كيرزن من أشد المتحمسين لفكرة إنشاء مدرسة للدراسات الشرقية باعتبارها جزءاً من تأثيث الإمبراطورية، وقد كانت الحكومة البريطانية ترسم سياستها الاستعمارية بعد التنسيق والتشاور مع هؤلاء المستشرقين والمغامرين من المكتشفين الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة، كما اتجه الاستشراق المتحالف مع الاستعمار بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين إلى زرع الأفكار التي تربط بين تخلف المسلمين والدين الإسلامي، وقد كانت الحكومات الأوروبية تدعم الحركة الاستشراقية، ولا تبخل عليها بالمال اللازم لاستمرار نشاطها، وهذا يؤكد الارتباط القائم بين مصالح الغرب في العالم الإسلامي التي تختفي خلف الاستشراق. لذلك لم تخل أي جامعة أوروبية من معهد خاص بالدراسات الإسلامية والعربية.

خلاصة في تصنيف المستشرقين

 لا يمكن وضع المستشرقين في طبقة واحدة، ولا ضمن توجه معين، فقد تعددت فئاتهم وتباينت آراؤهم. ويمكن التمييز بشكل أساس بين تيارين اثنين:

الأول: تيار من المتعصبين من رجال الدين المسيحيين، الذين استهدفوا تشويه الإسلام، وقد ظهر هذا الفريق خصوصاً في بداية نشأة الاستشراق خلال فترة القرون الوسطى الطويلة، وهو التيار الذي أثر بشكل كبير في الصورة النمطية التي ما زالت تتداول إلى اليوم في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة عن الإسلام في العالم الغربي. وهذا التيار استمر وجوده بوجه جديد، حيث جند عدد من المستشرقين أنفسهم وأقلامهم لخدمة المصالح الاقتصادية الاستعمارية في الدول التي خضعت للاستعمار، وقد ازدهر هذا التوجه بالأساس أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو استمرار للتيار الكلاسيكي التقليدي السابق، وإن اشتغل بطرق وأدوات مختلفة تبدو في ظاهرها علمية وفي جوهرها غير ذلك. ولا ننسى الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من رجال الدين المسيحيين المتدينين كانوا من كبار المستشرقين المعاصرين أمثال القس البلجيكي: هنري لامانس، والبريطاني: وليم منتغمري واط، والفرنسي شارل فوكو.. وغيرهم كثير.

الثاني: تيار التزم الموضوعية والنزاهة العلمية، وسعى إلى توخي الحذر في إصدار المواقف، وهؤلاء قلة، ويعدون على رؤوس الأصابع بالمقارنة مع غيرهم، وقد قادت أبحاث بعض هؤلاء إلى اعتناقهم الدين المسيحي عن قناعة، وحتى الذين ظلوا متشبثين بدينهم، انطلقوا في دراساتهم للشرق من هدف علمي بحث، فاشتغل معظمهم بحقل الترجمة أو تأليف المعاجم أو تحقيق المخطوطات، ومنهم على سبيل المثال: ليفي بروفنسال، وجاك بيرك، وغيرهم، فعن طريق هؤلاء ظهرت إلى الوجود العديد من الكتب والمنشورات والمخطوطات.

خاتمة

لقد شكل الاستشراق الأداة التي قدمت المدد للتنصير والاستعمار خلال فترات بعينها، وغذت عملية الصراع الفكري في البلاد المستعمرة لزمن، فالاستشراق كان وسيلة لمد المستعمرين بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي قصد مواجهتهم، وقد كثرت خلال هذه الفترة مراكز البحوث والدراسات الشرقية في الجامعات الأوروبية، ورصدت لها إمكانات مادية ومالية، حتى يتمكن أصحاب القرار السياسي من الاطلاع على أحوال العالم الإسلامي لوضع الخطط والإستراتيجيات المناسبة لاحتلاله. غير أن هذا الاهتمام لم يخل بدوره من فوائد إيجابية جعلت الشرق في قلب اهتمام الغرب، والعكس صحيح، وما زالت صور من الصراع بينهما قائمة إلى اليوم على الفضائيات ووسائل التواصل المختلفة، حيث تتفجر بين الفينة والأخرى قضايا تنهل من الاستشراق القديم وأفكاره بطرق غير مباشرة، كما حصل الأمر مع الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تنحل من نمطية متوارثة، تجد جذورها في كتابات العصر الوسيط المسيحي.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4161

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك