الاستشراق الألماني: من أثر الإعجاب إلى ضرورات المراجعة

د.محمد نوالي

 

من الصعب الحديث عن الاستشراق عموماً والاستشراق الألماني خاصة، دون استحضار الكتاب التحليلي والنقدي للبروفيسور إدوارد سعيد عن الاستشراق 1978، كما يورد رافاييل ميتيس Raphaël Métais، حيث أبان فيه أن الغرب بلور رؤية نمطية معيارية ثقافية عن الشرق، سيجته حين جعلت من (الاستشراق أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه، والتسلط عليه). في إطار منظور كولونيالي متعالٍ لم يكتشف فيه الغرب الشرق في حقيقته رغم كل الحملات التبشيرية والرحلات الاستكشافية لمناطق الشرق الواسعة التي رسخت شرقاً متخيلاً جعلت من الغرب يبتدعه وفقاً لمنظومة خياله مستفيداً كما يصرح بذلك من منظور ميشيل فوكو للخطاب.

وقد ركز إدوارد سعيد على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي والأمريكي دون أن يهتم بالاستشراق الألماني لكونه لم يعرف تآلفاً بين المستشرقين والأهداف الوطنية المدعومة في الشرق، ذلك أن الشرق لم يمثل كما يرى إدوارد سعيد بالنسبة للألمان مشروعاً حقيقياً، كما كان الأمر بالنسبة للرحالة والدبلوماسيين والمسؤولين الفرنسيين والبريطانيين. هذا بالرغم مما مثله الاستشراق الألماني من قاعدة صلبة للاستشراق. كما سجل جيمس دارماستيتر James Darmesteter أستاذ الفارسية في الكوليج دوفرانس عام 1883 بأن ألمانيا أصبحت: (المختبر الكبير للدراسات الألمانية). وبعد 1830 أصبح الاستشراق الألماني يهيمن على الدراسات الاستشراقية في أوروبا بفضل كوكبة من الأكاديميين الذين اشتغلوا على ثقافات الشرق ولغاته ومخطوطاته، وكانوا نتاج تحول الدراسات المتعلقة بالشرق إلى علم مستدخل لديهم سرعان ما أصبح يفرض ذاته باعتباره تخصصاً مهيمناً في النظام الجامعي العلمي العالمي معترفاً بشرعيته الأكاديمية.

خصوصية الاستشراق الألماني

ما يفرق الاستشراق الألماني عن مثيله الفرنسي والبريطاني والأمريكي، أن كتابات مستشرقي هذه الأقطار لم تخرج مهما كان نوعها ودرجة تقيدها بالعلمية عن اعتبار الشرق نتاجاً غربياً. هذا الشرق الذي دخل مساحات الصمت متوارياً في انسحاباته التي بشر بها هيجل الذي اعتبر الإسلام مُنسحباً منذ مدة من مجال التاريخ، داخلاً في لامبالاة وهدوء الشرق، من خلال التواري خلف صدارة الغرب ومركزيته. لن يُعرف الشرق إلا من خلال ما يمنحه له الغرب من أحكام وآراء. وبذلك يغدو الشرق (نتاج) فكر الغرب، وما تنطق به كتاباته.

وربما وسم الاستشراق الألماني كونه لم يتبلور نتيجة أهداف استعمارية كما كان الأمر بالنسبة لفرنسا وبريطانيا وهولندا، كما لم يرتبط بأهداف دينية تنصيرية؛ بل تأسس على غايات معرفية سرعان ما اكتست بعد القرن الثامن عشر طابعاً علمياً رصيناً، واكتسبت تقاليد أكاديمية مع كوكبة من الباحثين والدارسين من الذين كرسوا حياتهم وطاقاتهم لدراسة العلوم الإسلامية أمثال يوليوس فلهوزن في الدراسات الإسلامية والتحقيق، وكارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي، وزغريد هونكه صاحبة شمس العرب تسطع على الغرب. فهؤلاء وغيرهم لم تقم دراساتهم وأعمالهم على روح عدائية مع وجود استثناءات بالطبع وكأي معرفة فإنها نتاج نسوج وسرود لم يسلم منها حتى من يعدون من المعجبين بروح الحضارة العربية الإسلامية التي جعلت رايسكه (1716 - 1774) ينعت نفسه بشهيد الأدب العربي.

الاستشراق الألماني بين العلمية والسقوط

صحيح أن الاستشراق الألماني أسدى خدمات للتراث العربي والإسلامي عموماً من نواحٍ عديدة في مجال الدراسات اللغوية، والمخطوطات، والتاريخ، والتواريخ الأدبية، ومختلف الدراسات الأدبية بفضل كم الدراسات والتحقيقات والدوريات المتخصصة ومنها مجلة عالم الإسلام وغيرها. حيث ازدهرت الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضل الكراسي العلمية والمكتبات والمخطوطات التي مكنت من بروز مستشرقين ألمان في مختلف التخصصات الاستشراقية الفرعية حتى مع وجود أخطاء وآراء متطرفة أو خاطئة أحياناً أو مبالغ فيها كالتي أوردها نولدكه في حق الشعر الجاهلي والقرآن، على السواء، أو آراء جوهان فولرزو هيرشفيلد الذي حاول ترتيب السور القرآنية. أو ادعائهم مصدر القرآن الكريم من الديانتين اليهودية والنصرانية كما ذهب المستشرق الألماني أبراهام جايجر Geiger Abraham في كتابه المليء بالأخطاء (ماذا أخذ محمد من اليهودية). Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen عام 1883 أو محاولات تفسيره كما فعل كريستوف لوكسنبرغ أو تشكيك المستشرق الألماني جوزيف شاخت في صحة روايات الحديث. وهو ما دفع عبد الرحمن بدوي في كتابه دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه إلى إبراز عوامل السقوط في كتاباتهم منها جهلهم اللغة العربية وعدم التمكن منها. وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية والتسرع في الأحكام وتعجل النتائج والإسقاط.

وهذا الأمر يدفعنا إلى الدعوة لضرورة مراجعة الخطاب الاستشراقي الألماني مراجعة نقدية في إطار التقليد الذي خطه إدوارد سعيد لمعرفة سلطة خطابه وقوته وفاعليته على إنشاء المعرفة المتعلقة بنا.

وعليه، تبدو معرفة الخطاب الاستشراقي ومراجعته لاسيما في شقه الأكاديمي الذي يمثل الاستشراق الألماني أبرزه مسألة مهمة بالنظر لأنها تتعلق بحضارة وتراث وهوية إسلامية، ومركزية كانت لها الجاذبية في القرون الوسطى. مركزية تأسست عليها النهضة الأوروبية، والحكم عليها وتفسيرها. وبما أن الحكم والتفسير قد يصبحان أساس المعرفة، حتى وإن كانت معرفة وهمية، فإنّ هذه المعرفة بالضرورة ستكون تاريخية، بالنظر إلى كونها مُوجهة بسياقات ووقائع وخطابات، يكون القصد منها إنتاج الأنا والآخر على مستوى التصور والتمثلات. فالاستشراق المعزّز بكافة الوثائق، والمدجّج بترسانة من الخطاطات الأكاديمية المُموّلة من مراكز مختصة وجامعات؛ خير مثال على ذلك. فسالم يفوت يقول عنه (إن الاستشراق خطاب أو إنشاء بنية خطاب، لا يعكس حقائق أو وقائع بل يُصوِّر تمثلات وألواناً من التمثيل، حين تختفي القوة أو المؤسّسة والمصلحة، إنه خلق جديد للآخر، وإعادة إنتاج له على صعيد التصور والتمثيل، مما يجعل الاستشراق موضوع معرفة، بينما يظلّ موضوعه الذي هو (الشرق) موضوعاً رافعاً لا تربطه به صلة تطابق أو انعكاس، إن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب).

إذ (لم تكن الرؤى الاستشراقية التي نظر إليها كتكوين مقدّس إلا منظومة أيديولوجية هدفت أحياناً إلى مسخ الشخصية العربية في وجهٍ صحراويٍّ جاف، خرج للتاريخ منذ ألف ونيفٍ من السنين فقط، وتشوَّهت سلسلة تاريخية ودفعته بعبثية مرعبة هادفة إلى خلخلة وحدة البنية الثقافية المعرفية العربية وتشويه جذروها التاريخية العميقة في تقسيم للشعب العربي لا يستند إلى تأسيس علمي، وغير قابل للخضوع للبحث العلمي أصلاً).‏

نحن والاستشراق

لقد استقبلنا وتقبلنا تاريخنا كما كتبه الآخرون، وبدون أدنى شك بما قدمه لنا المستشرقون، حتى بعد الاكتشافات الأركيولوجية التي تكثّفت في القرن التاسع عشر، وبشكل خاص في نهاية القرن العشرين. وهذه لم تخضع حتى الآن لدراسة أكاديمية مقارنة تعيد إظهار الحقيقة كما هي، وتزيل ما تراكم عليها من غبار الاستشراق والزمن، وتعتيم الأيديولوجية المركزية الأوروبية. هذه التي قدمت لنا تاريخينا كما تشتهي هي، وليس كما هو في واقع الحال.‏ فداخل بنية الخطاب التاريخي الذي تُنسج سروده حول العرب والمسلمين، والدراسات الأنثروبولوجية نفسها التي تتوخى بناء خطاب معتدل، ينبني على نوايا حسنة ومقاصد علمية كما هو شأن الخطاب الاستشراقي الألماني الذي قام على أساس فهم الشرق ومعرفته خارج إطار النوايا الاستعمارية؛ تتعايش جملة التفسيرات والإجراءات والتصورات، وهو ما يستدعي الفحص والنقد. وقد عبّر دافيد ريتشاردز عن ذلك على النحو التالي: (يدرج تمثيل الثقافات الأخرى بكيفية قارّة البورتريهات الذاتية باعتبار أن هاته الشعوب التي تلاحظ مضلّلة أو مغيّبة من لدن الملاحظ، وتكون المحصلة أن الحضور المادي للآخرين يتجاهل أو يفقد من دائرة النظر في دراما الذات منظوراً إليها في مخاض اللقاء. إنّ أقنعة الاختلاف أسننٌ تُخفي وتحجب وتسيء التمثيل، ولكنّها لا تصف هاته الشعوب الأخرى من العالم. إنّ الآخرين مقنعون دائماً بواسطة السرود والبنيات والصور التي يصوغها الملاحظ. يتمثّل ما يُصاغ وتُعاد صياغته تحديداً في تلطيف السلطة، في تلك المتون التي تدّعي وصف الشعوب، فيما هي مُنشغلة تخصيصاً بالتمثيل الذاتي والهوية الأوروبيتين).

مراجعة إيسطوغرافيا الاستشراق الألماني

قد يبدو هذا محصوراً في نوع من الإسطوغرافيا التي هي عبارة عن كتابة، وإنشاء، وسرود مدعمة بالوثائق والمخططات التي قام بها المستكشفون والمستشرقون على نحو ما وضح إدوارد سعيد. غير أن الأمر يطول الإسطوغرافيا ذاتها من حيث بنية خطابها وسرودها. وقد تتماشى مراجعة الإسطوغرافيا مع الميل الحديث الذي افتتحه دريدا الذي كان ينظر إلى التاريخ باعتباره ميتافيزيقا. من ذلك أن (مشروعه في Of Grammatologie كان دائما يعتبر محاولة للتحرر من أعراف التاريخ). هذا الاعتراض نجده عند ياوس وعند هيدن وليت، ذلك أن وايت يعتمد على تصور الكتابة كسرد وعلى النظرية الشعرية في نقده. ومن خلال تحليله لمختلف الإستراتيجيات السردية وأسلوب التفسير التي استخدمها المؤرخون؛ فإنه يلاحظ سلسلة من أصناف نموذجية رباعية طبقاً لأسلوب التحبيك وأسلوب التفسير وأسلوب التضمين الأيديولوجي. ورغم أن أياً من هذه الأساليب لا تنبثق من عناصر شخصية صرفة (وبالتالي فهي ليست نسبية بالمعنى الاعتباطي)؛ فإنه من المستحيل إعطاء الأولوية لأي حبكة خاصة، ولأي تفسير أو أيديولوجيا معينة، أوفكرة؛

ذلك أن قراءة وكتابة التاريخ تتشابهان في طرقهما الرئيسة مع كتابة القصة. وكما هو الشأن بالنسبة لشاعر القرون الوسطى، فإن المؤرخ يُقيد بمجازات وأعراف صنعته أكثر من تقييده بـ(حقيقة) العرض، وقد يبنى في إطار سرده أحكاماً سردية تصبح كأنها حقائق، لا تقبل الجدل. ومن أمثلة ذلك الأحكام التي نصادفها في كتابة الكثير من المستشرقين معززة بترسانة أكاديمية، فهذا المستشرق الألماني يوسف أشباخ يؤكد ما حكم دوزي بأن الحياة الفكرية تدهورت في الأندلس المرابطية بسبب سيطرة الفقهاء، بلهجة لا تخلو من القساوة، كما يلاحظ عباس الجراري، إذ ذهب في تاريخه للأندلس في عصر المرابطين والموحدين إلى أن المرابطين (اضطهدوا كل ما عنيت الدول العربية بتشجيعه من قبل، وطاردوا العلوم الفلسفية والكلامية التي تنكرها التعاليم المرابطية، وحظروا قراءة الكتب التي تحتويها وأحرقوها علناً). وفي موضوع آخر من تاريخه يضيف: (ظهر المرابطون من بين سكان الصحراء البدو الساذجة، فكانوا أعداء لكل حضارة عربية، ومن ثم كانت حكومتهم كريح الصحراء اللافح حيث يهب على الغياض النضرة، تعمل لتحطيم جميع العلوم والفنون... وكان أولئك الحكام القساة يمقتون القبائل العربية وثقافتها، ويعملون على سحق هذه الثقافة بكل ما وسعوا، فكانوا يطاردون العلماء الذين ينحرفون عن معتقداتهم ويحرقون كتبهم).

وقد بنى أحكامه على ما أورده مؤرخ متعصب للموحدين ضد المرابطين، هو صاحب كتاب (المعجب في تلخيص أخبار المغرب) عبد الواحد المراكشي. ولم يبنها على الوقائع التي تشهد كما يوضح عباس الجراري هبوب النهضة الأندلسية بعلمائها ومفكريها وقتئذ بإشعاعاتها على المغاربة التي كان من ثمارها ظهور أعلام كان من أبرزهم القاضي عياض ومن تلاهما في العصر الموحدي الذي كان ثمرة مستمرة للعهد المرابطي، من أمثال ابن رشد وابن طفيل.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4159

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك