الاستشراق والاستشراق الألماني

د.عبدالحميد الأنصاري

 

قدم المستشرقون - عامة - للتراث العربي والإسلامي، خدمات عظيمة. ولا ينكر فضل الاستشراق، بصفة عامة، في خدمة تراث العرب والمسلمين وحضارتهم ومجتمعاتهم وعاداتهم وفنونهم وحرفهم وآدابهم وسلوكياتهم وشخصياتهم وأخلاقهم، وكذلك في خدمة علوم القرآن والتفسير والحديث والسيرة والفقه واللغة والتاريخ: دراسة وتحقيقاً ونقداً وتقويماً وترجمة وحفظاً وفهرسة وكشفاً وجمعاً وإحياء ونشراً؛ إلا غير منصف. الحق يقضي أن نقدر جهودهم، مصداقاً لقوله تعالى: (كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ).

 قد تكون دوافع الرافضين، المشككين، المحذرين من جهود المستشرقين المعرفية الثرية؛ دوافع دينية، كما هو الحال لدى غالبية الكتاب والمفكرين والدعاة الإسلاميين، وقد تكون دوافع سياسية وأيديولوجية كما هو الحال لدى المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد وغيره. وأنا متفهم هذه الدوافع ومقدر منطلقات الرافضين، لكن التعميم في الحكم على المستشرقين، يتضمن خطأين:

خطأ معرفي، وخطأ أخلاقي.

في تصوري أن هؤلاء الرافضين المشككين في جهود المستشرقين الفكرية والثقافية، ينطلقون من منطلقات غير علمية، أبرزها:

1 - الإيمان بنظرية المؤامرة على الإسلام والمسلمين، وهو إيمان متجذر في النفسية الجمعية والعقلية العامة للعرب والمسلمين، وله امتدادات تاريخية ترجع إلى تآمر يهود المدينة على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، أكده ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن الفتنة الكبرى وراءها اليهودي عبدالله بن سبأ، عززه التآمر الغربي لزرع إسرائيل في قلب العالم العربي، إضافة إلى مواريث الاستعمار الغربي للمنطقة التي خلفت مرارات وشكوكاً لدى العرب والمسلمين عامة، فالغرب هو العدو الدائم المتربص الذي ينبغي الحذر منه ومن علمائه الذين يتظاهرون بخدمه تراث العرب والمسلمين لكنهم يضمرون العداء والإساءة، فعلينا عدم الانخداع بأعمالهم وإن كانت منصفة لأنهم إنما يدسون السم في العسل!

وهذا رأي طائفة كبيرة من علماء الدين الإسلامي والتيارات السياسية الإسلامية عامة، بل عدد كثير من رواد الفكر العربي الإسلامي.

2 - التوظيف السياسي والأيديولوجي للصراع مع الغرب، وهذا ما رأيناه لدى طائفة من الكتاب والمفكرين الإسلاميين ممن تصاعدت لديهم نزعة العداء للتغريب والغزو الثقافي، فتحول نقد الاستشراق عندهم إلى نقد للتغريب والمتغربين، المنبهرين بحضارة الغرب وجهود المستشرقين، وهذا ما جسده كل من الدكتور محمد محمد حسين -أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الإسكندرية- في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) ط 1959م، والدكتور محمود محمد شاكر، في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ط 1987. ومن ثم وظف هذا النقد توظيفاً سياسياً على يد التيارات السياسية الإسلامية في صراعها ضد الأنظمة السياسية القائمة، وبخاصة في مصر في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كما يشير إليه الكاتب نصير الكعبي.

3 - ضلالة التعميم: هؤلاء الذين رفضوا جهود المستشرقين، إنما وقفوا -طبقاً للدكتور علي إبراهيم النملة في كتابه الاستشراق بين منحيين 2012- على جهود بعض المستشرقين في مؤازرة الاحتلال والتنصير والإمبريالية الغربية، كما وقفوا على طعون بعضهم في القرآن والسنة ورموز الإسلام والمسلمين وإثارتهم للشبهات، والتصيد لما في بعض كتب التفسير والتاريخ من إسرائيليات وروايات ضعيفة أو موضوعة، ولكن (من الحق أن نذكر أن التعميم والمبالغة في نقد كل أعمال المستشرقين وربطهم بالاستعمار والتنصير والتبشير - طبقاً للكاتب عبدالله علي العليان- لا يستقيمان مع العدل والموضوعية، ناهيك عن المنهجية والعلمية في الطرح والمناقشة)، ويضيف (ومن هنا علينا أن نفرق بين الاستشراق الأيديولوجي غير المنصف، والاستشراق العلمي الذي قدم الكثير من الأعمال الجليلة لتراثنا وتاريخنا وروائع حضارتنا، وهي جهود لا تزال موثقة ومكتوبة وشاهدة على الإخلاص والتفاني والموضوعية).

الاستشراق الألماني

من هذه الجهود الموضوعية للاستشراق (الاستشراق الألماني) الذي يجسد أنموذجاً للاستشراق يدحض التعميم في الحكم، والذي يعد بحق أقرب الاستشراقات إلى (العلمية) و(النزاهة) في خدمة التراث العربي الإسلامي، خدمة تستحق التقدير، وقد سعى محمد عوني عبدالرؤوف إلى رصد ما أسهم به المستشرقون الألمان من تحقيقات ودراسات، فأوصلها إلى (494) تحقيقاً ودراسة. وفي هذا يقول الدكتور علي إبراهيم النملة (وفي هذا جهد مضن في عمل فردي، وهو مقدر، إلا أنه لا يحصر تلك الإسهامات التي جاءت عن المستشرقين الألمان)، ويضيف (كما سعيت في دراسة سريعة إلى رصد ما قام به المستشرقون لخدمة التراث العربي الإسلامي، من حيث التحقيق والدراسة والترجمة، وتأكد عندي -استحالة- قيام هذا العمل بجهد فردي محدود).

ومن الجهود التي ينبغي إبرازها للاستشراق الألماني، المكتبة الإسلامية التي أنشأها المستشرق الألماني هلموت ريتر (1892 - 1971) بتركيا 1918، وكان مشرفاً على معهد الآثار الألماني في إسطنبول طوال 30 عاماً، وكذلك المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت بالتعاون مع جمعية المستشرقين الألمان، وبلغت إصداراتها (48) كتاباً، اشترك في تحقيقها عدد من المستشرقين وعلماء اللغة العربية والإسلام، أبرز هذه التحقيقات ما تم في كتاب (الوافي بالوفيات) لصلاح الدين الصفدي (ت 864هـ) في (30) جزءاً، تقاسم تحقيقها علماء عرب ومستشرقون ألمان، وصدرت في طبعتها الثانية كاملة (2008 - 2009) بتوزيع (مؤسسة الريان). يقول الدكتور علي النملة: (وقد تيسر لي تتبع الترجمات بمسح المجلدات الثلاثين، وتعمدت الوقوف على تعليقات المحققين من العرب والمستشرقين، فلم يظهر فارق كبير في القدرة على التحقيق وتتبع المصادر بين العرب والمستشرقين على حد سواء، بل حتى أنك لا تفرق بينهم في القدرة على التحقيق والمتابعة والتعليق على بعض وقفات الصفدي ذات النفس الموسوعي في الأدب والعقائد والجغرافيا والتاريخ).

ما أسباب نزاهة الاستشراق الألمان؟

يرجعها الدكتور النملة وغيره إلى جملة أسباب منها:

1 - ما عرف عن الألمان من جدية وموضوعية وعمق في البحث العلمي، بعيداً عن التوظيف السياسي أو الديني للبحث في أغراض غير علمية.

2 - أن ألمانيا لم تمارس الاحتلال بصورته الواسعة التي مارستها فيه الدول الأوروبية الأخرى.

لهذا قال الدكتور صلاح الدين المنجد عنهم (إنهم أوتوا الكثير من سعة العلم والتمكن من العربية والإخلاص للبحث والتحرر والإنصاف، فكانت دراساتهم مثمرة وأعمالهم مباركة).

ومن بركات أعمال المستشرقين الألمان، أن تم قبول (الإسلام) ديناً رسمياً ثانياً في ألمانيا، وربما يتحول إلى الدين الأول مستقبلاً.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4154

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك