تفعيل مفهـــــوم (التسامح).
تفعيل مفهـــــوم (التسامح).
" في الحاجة إلى أساسيات الأخلاق "
يونس عاشور*
تنامت الدعوة إلى التسامح، بمفهومه الاصطلاحي (Tolerance) في التاريخ الحديث على اثر ما شهدته أوربا في القرنين السادس عشر و السابع عشر من اشتداد موجة التعصب الديني العدواني و ما رافقه من لا تسامح ديني و حروب دينية ممتدة ومتشددة بين الطوائف المسيحية في أوربا. ويذكر انه في القرون الخمسة السابقة للقرنين المذكورين مباشرة أيضا كانت أوروبا ضالعة في حروب دينية ضد العالم الإسلامي تمثلت في ما عرف لاحقا بالحروب الصليبية و امتداداتها من المواجهات العسكرية. و مع أن تلك الحروب الصليبية، وإن مثلت قمة التعصب و اللاتسامح الديني الأوروبي تجاه المسلمين،انطوت- في نفس الوقت- على استمرار نوع مما كان قد بدأ قبل ذلك بعدة قرون من التفاعل الثقافي الأوربي- الإسلامي، لا تتوافر حتى الآن دراسات علمية كافية خاصة بالأثر المحتمل لذلك التفاعل الثقافي الأوربي - الإسلامي في تأثر الثقافة الغربية بحالة التسامح الديني في الثقافة العربية أو انتقال، كما يفيد البعض، بعض فكرة التسامح الديني إليها من الثقافة العربية. و لا يكفي لإثبات أن فكرة التسامح قد انتقلت من الثقافة العربية إلى الثقافة الغربية أو أن هذه الأخيرة قد تأثرت بما انطوت عليه الثقافة العربية من تسامح ثبوت انتقال بعض المضامين الثقافية بين الثقافتين العربية و الغربية و لا وجود عدة إشادات غربية بما كان يسود العالم الإسلامي من تسامح ديني.
وتؤرخ كتابات معاصرة لظهور الدعوة إلى التسامح، بمفهومه الاصطلاحي، في العالم العربي في التاريخ الحديث بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين حيث تداعي بعض المثقفين، و خاصة من الأخوة المسيحيين العرب، إلى الدعوة إليه.
عالميا، كانت الدعوة إلى التسامح بدأت تأخذ بعدها العالمي الرسمي منذ أن بدأت المواثيق الدولية تذكرها أو تشير إليها في نصوصها ربما بدءا من ميثاق الأمم المتحدة ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. و أثمرت الجهود الدولية بشأن نشر ثقافة التسامح عن صدور " إعلان مبادئ التسامح" عن المؤتمر العام لليونسكو في عام 1995 و إعلان عام 1996 عاما دوليا للتسامح. و اكتسبت الدعوة الدولية للتسامح زخما ملحوظا على اثر التصاعد الأخير في أحداث العنف و الإرهاب و كراهية الأجانب واضطهاد/ سوء معاملة الأقليات و رواج بعض نظريات الصراع أو الصدام الثقافي/ الحضاري.
ذلك عن تجدد أو تنامي الدعوة إلى التسامح و ظهور مصطلح التسامح في التاريخ الحديث، بيد ان من المؤكد ان بداية الدعوة إلى التسامح في التاريخ البشري تعود إلى ما قبل التاريخ الحديث و ربما يصح التأريخ لبداياتها ببداية الرسالات السماوية و التي مثلت الدعوة الى التسامح، و إن بألفاظ مختلفة،بين البشر احد مضامينها الثابتة التي توالى الرسل، عليهم السلام، على دعوة البشر إليها. و يتوافر التراث الإسلامي الفقهي و الفلسفي على كثير من المرتكزات والأسس والأحكام التي من شأن تطويرها الإسهام في بلورة مفهوم أفضل و أوسع قبولا للتسامح وفي تأصيل و تكريس ثقافة التسامح.
التسامح هو خصيصه من الخصال الحميدة والفضيلة التي تعني بها التربية الإسلامية ومعناه العام هو العفو عن المعتدي والصفح عن المسيء. وبعبارة أخرى فإن التسامح نابع من السماحة، وهو اعتراف بثقافة الآخر، وتفاهم جماعي متبادل بين مختلف الفئات والمجتمعات ويعتبر التسامح مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان، يتضمن الحرية والمساواة.
ويمكن لنا التركيز على توضيح وشرح أهم عناصر أنواع التسامح وهي:
1- التسامح الديني :
والمعنى السائد للتسامح الديني يقوم على مبدأ قبول الآخر باختلافه وتباينه. ولكن التسامح الديني في معناه العميق اليوم يرتكز إلى مبدأ فلسفي وديني طليعي وهو القول بالوحدة الكونية والإنسانية. يقبل هذا المبدأ بالفروقات والاختلافات الدينية والثقافية على أنها طرق أخرى في فهم الله والإنسان والكون. فالتسامح, بهذا المعنى, ليس مساومة فكرية أو دينية، كما أنه بالمقابل لا يلغي الخصائص والمميزات الفريدة, ولا يقفز فوق الفوارق الدينية والحضارية, إنه الاعتراف الهادئ بوجود التباينات, ومن ثم احترام هذه التباينات باعتبارها إثراء للوجود البشري ودعوة إلى التعارف والتثاقف {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13).
2- التسامح الفكري :
الذي يعني عدم التعصب للأفكار، واحترام أدب الحوار والتخاطب، مع الحق
في الإبداع والاجتهاد ويبين الأستاذ محمد سبيلا التسامح الفكري بأنه
مرتبط بنسبيته الحقيقية، والقبول بتعدد المعاني، واختلاف التأويلات، وتكاثر
القراءات للظاهرة الواحدة أو للنص الواحد. وعلى النقيض من ذلك فإن القول
بالرأي الواحد الأحد والحقيقة الوحيدة أو المعنى الوحيد هو نوع من الاستبداد
الفكري الذي يتعين علينا اليوم مقاومته واستبعاده.
3- التسامح السياسي :
التسامح من المنظور السياسي يشير إلى استعداد المرء لتحمل آراء الآخرين وممارستهم كأحد أساسيات العقيدة الديمقراطية ويقتضي ضمان الحريات السياسية فردية وجماعية مع نهج مبدأ الديمقراطية.
ومن هذا المنطلق يتوجب على الفرد كفرد أن يتحلى بمثل هذه السجايا لما لها من آثار ونتائج تعود عليه وعلى الآخرين بالمنفعة والمصلحة وحينما يدأب الإنسان لتوظيفه وتفعيله وجعله جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية وإدراك معانيه ومفاهيمه آنئذ سوف نكون قد أدركنا مضامين التعاليم الإسلامية على حقيقتها وواقعيتها التي جاءت لكي توجهنا إلى الطريق الصحيح والصواب السديد وإعمال مثل هذه السمات الايجابية في حياتنا يكون للتعالم الدينية تأثيرها البالغ والموضوعي في نفوس الآخرين وسيجعلهم يتطلعون وينظرون في محور هذه الأمور التي حث عليها الدين الإسلامي الحنيف نتعامل ونتبادل بها مع الغير لكي تكون السبيل الذي من خلاله نأخذ بالاعتبار والوقار والتقدير والتبجيل من قبل الغير .
إذن الدعوة الى النظر والتفكر في هذا المنحى وموقع ذلك يكمن في السبيل الذي يقودنا ويرشدنا الى كيفية توظيف مفهوم التسامح هو (القرآن الحكيم) الذي جاء ليبين أهميته وثمة عدة آيات تتناول هذا الجانب بأسلوب شيق ورائع ، يقول الله في محكم كتابه بسم الله الرحمن الرحيم [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وفي آية أخرى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ] وقال الله تعالى: [وإنّ الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ] إلى غير ذلك من الآيات التي تحث الإنسان على ممارسة الصفح والعفو لأنه يجعل الإنسان يكبر في نفوس الآخرين وتكون له مكانة مركزية كل ذلك بسبب حسن تعامله وتصرفه مما يجعل منه موقع التقدير والاحترام كما ذكرناه آنفاً ،وإذا لم تكن للإنسان رؤى وتطلعات بعديه عن مفهوم التسامح والعفو فسوف تكون المعادلة عكسية تتضمن مفاهيم سلبية من قبل المختلفين معه حول قضية ما وسوف ينظر إليه بالاستهجان الذي يجعل الكراهية والحقد تستديم عند الإنسان من هنا تأتي النصوص الدينية لكي تعالج هذا الداء حتى لا يستفحل في النفوس .
ولنا في نبي الأمة ورسول البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة لمن يريد أن يتسم وبهذه الخصلة والميزة الحسنة حيث كانت النزعة الشريفة من صفاته ومبدأ أخلاقه العظيمة فقد قبل جميع من أساء إليه بالعفو والإحسان ، ولا بأس أن نذكر شيئاً من بعض مواقفه العظيمة مع مشركي قريش الذي آذوه وسخروا منه، وأخرجوه من دياره وألبوا عليه جميع قوى الشرك ، لما فتح صلى الله عليه وآله مكة قال لهم:
ما تظنون أني فاعل بكم؟
فانبروا جميعاً بلسان واحد قائلين : خيرا، أخ كريم ،وابن أخ كريم.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم " اذهبوا فأنتم الطلقاء إلى غير ذلك من القصص والمواقف الكثيرة التي حدثت للرسول (ص) مع المشركين وغيرهم مما يديل على رحابة صدره وكبر أخلاقه حتى مع أعدائه وعما نستقرىء التاريخ نجد الكثير من المواقف التي كان لها تأثير في نفوس الغير سواء كان مع أصحابه أو أعدائه وقد ورد عنه (ص) انه قال حول التسامح والعفو " عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا فتعافوا يعزكم الله " وفي نهاية المطاف حري بنا أن تقتفي ونتبع سيرة رسول الله (ص) في هذا المنحى حتى نكون قد حققنا هدفاً سامياً يعود علينا بالأجر والثواب والرضا من الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ] وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح .
مصادر الدراسة :
1- الدكتور عبدالملك حسن منصور المصعبي "دراسة في مفهوم التسامح أفكار أولية ".
2- الوكيبيديا (الموسوعة الحرة) مفهوم التسامح الديني .
3- من التسامح كفضيلة إلى التسامح كحق في تعريفه للتسامح الفكري " الدكتور محمد سبيلا".
4- تعريف التسامح السياسي للأستاذ عبد العزيز البغدادي. (الجمهورية نت ).
5- مقالة للكاتب يونس عاشور تحت عنوان تفعيل مفهوم التسامح في 5/11/1417هـ صحيفة اليوم السعودية العدد رقم 8673.
المصدر: http://www.nadyelfikr.com/showthread.php?tid=40380