في ماهية الدولة المدنية الحديثة ووظائفها
بقلم عبد الرحيم العلام
على غرار الاختلاف الحاصل حول أصل الدولة وظروف نشأتها في التاريخ القديم، فإنّ الاختلاف ذاته انصبّ حول نشأة الدولة الحديثة؛ ففي حين يردُّها بعضهم إلى تطور النظام الرأسمالي (كارل ماركس)، فإنّ بعضهم الآخر يُرجع أسبابها إلى موجة المَلَكِية المطلقة المنفصلة عن الامبراطورية الرومانية الآيلة للتّفتّت، وهناك من يركّز على الجوانب العقلية والقانونية لنشأة الدولة (فيبر). غير أنّ الذي لا شك فيه هو أنّ الدولة الحديثة جاءت نتيجة مسار فكري وسياسي مُتعدّد المشارب والتجارب، فمن الصراعات التي قامت بين العديد من المَلكيات وبين السلطة البابوية في العصور الوسطى، إلى الإصلاح الديني البروتستانتي إلى الثورات الأوربية الحديثة، تشكّلت ملامح الدولة وتغلغَلت فكرتها داخل الفكر كما في المُمارسة.
أولاً: في ماهية الدولة الحديثة
لقد تكوّنت الدولة الحديثة، عبر طرق مُتباينة، على غرار تكوين باقي الدول- الأمم، ويمثل لهذا، في القرن السابع عشر، بحالات في شمال أوربا وغربها، وتُبرِزُ إيطاليا، في القرن التاسع عشر النموذج نفسه، ثم بعد ذلك ألمانيا. ونجد أنّ تكوين الدولة "في أوروبا الوسطى" قد تمّ في إطار الوجود المسبق لوعي وطني، وأدت صيرورة جلاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية إلى نشأة دول- أمم جديدة، وكانت هذه النشأة ناقصة بالنظر إلى كون الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية نادرًا ما تتطابق والوقائع الوطنية، واستمرّت عملية تعدد الدول ونشأتها في الساحة الدولية بعد انزياح الإمبراطورية السوفياتية الذي أدى، عن طريق الانفصال، إلى تكوين دول/أمم مستقلة. ومن المفارقات أنّ الدولة/الأمة ـ وفي أوجِها باعتبارها شكلاً سياسيًّا، حيث تتعدد الضغوط على القمة والقاعدة ـ تستدعي إجراء تغيير عميق[1].
ويؤكد جورج بوردو هذا المسار في نشأة الدول، حيث يعتبر الدولة من إنتاجات العصور الحديثة، وذلك بعد عدة تجارب سُلطوية منذ المراحل البدائية (السلطة الثّاوية) إلى مأسسة السلطة المشخّصة (الحكم المطلق) وصولاً إلى الدولة في العصر الحديث[2]. فمن المؤكّد إذن، أنّ هناك مؤشرات سابقة قد ساهمت في بناء الدولة الحديثة، ففي الثغرات الكثيرة التي فتحتها أزمة نظام السيطرة الكنسية سوف تتكون قوى التغيير وتتخذ مواقعها، ومن هذه القوى "الحركة الإنسانية أو الإنسانوِيّة" التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر في مدن ايطاليا، بدعم من الأمراء والتجار الأثرياء المحبّين للفن والأدب والباحثين عن الشهرة والمجد، بل ومن بعض البابوات أيضًا، ولا تزال مدن فلورنسا وجنوة مليئة بآثار فنّ النهضة الإيطالية وتوجهات فنانيها ومفكريها الإنسانية، وقد أسهم الإنسيّون بتوجُّههم نحو الأدبيات اليونانية والرومانية القديمة في الخروج من سلطة المعرفة والرؤية الكنيسية والدينية عمومًا، ليعودوا - كما ذكروا هم أنفسهم- إلى النّهل من الموارد الأصلية للفكر والأدب الكلاسيكيّين، أي ليُعيدوا اكتشاف الإنسان وماهية نظمه الفكرية (الفلسفة مقابل اللاهوت) والسياسية (الدولة مقابل الكنيسة) التي طمستها لزمن طويل الفكرة الدينية والسلطة التيوقراطية. وكانت هذه الحركة أول خطوة حاسمة في اتجاه بناء أسس التفكير العقلي الحديث، وإعادة النظر في قواعد تنظيم المجتمعات السياسية والاجتماعية"[3]. وساهمت الابتكارات العلمية (الطباعة) في نشر هذه الأفكار وسريانها داخل المجتمعات الأوربية، وهو ما جعل الفكر السياسي والفلسفي يطغى على الفكر الديني واللاهوتي، مما انعكس على الموقف من الامبراطوريات الكبيرة واتِّجاه الاهتمام نحو الكيانات القومية.
وسيعرف الاهتمام بالدولة تحولاً جوهريًّا إبّان عصر النهضة، وخاصة مع نمو الفلسفة السياسية، وفي هذا المجال برزت كتابات "ماكيافللي" التي تمجّد الدولة وتجعل منها صمّام الأمان، وكذلك كتابات هوبز التي جعلت من الدولة ذلك الوحش الضاري الذي يفتك بكل أعدائه. وهذا الاتجاه الدّولتي سيشهد تحضيره (من الحضارة) وأنْسَنتَهُ بشكل كبير مع فلاسفة العقد الاجتماعي. فرسالة «جون لوك» الثانية رامت الإجابة على الأسئلة التالية: كيف يتكون النظام السياسي؟ وكيف تنشأ الدول؟ وإذا لم تكن جذور الدولة تمتد إلى أصول دينية، فكيف يا ترى أن نجد هذه الجذور؟. ولهذا يبدو للُوك أنّ الدولة قد تكون نشأت نشأة بشرية خالصة، مما حدا به حدو «هوبز» فافترض وجود «حالة الطبيعة» التي تسبق نشأة الدولة. ولكنّه، على خلاف هوبز، تصور أنّ الأفراد كانوا في هذه الحالة ينعمون بالحرية والمساواة، أي كانوا أحرارًا متساوين، فليس لأحد بالطبيعة «حقوق أكثر مما لسواه. كما أنّ العقل الطبيعي علم الناس أنّه لا ينبغي لفرد أن يُلحِق ضررًا أو أذًى بغيره: لا بحياته ولا بحريته، طالما أنّهم جميعا متساوون ومستقلون - كانت هناك "شيوعية بدائية"، أعني ملكية مشتركة، فلكل فرد الحق في أن يحصل على أسباب عيشه مما تقدمه الطبيعة، لأنّ الله وهب الأرض للبشر هبة مشتركة عامة»[4].
هذا المسار الفكري الدّاعم لفكرة الدولة والمستند على العقل والعلم، هو ما حفّز عالم الاجتماع السياسي الألماني «ماكس فيبر» بربط الدولة الحديثة بالعقلانية[5]، وإن كانت الدولة الأوروبية الحديثة، في نظر فيبر، هي وحدها من تجعل من العقلانية قيمتها الأساس، وفي هذا الصدد يقول «وبما أنّها كانت المثال بالنسبة لسائر الكيانات السياسية الأخرى، فيمكن أن نُعَرِّفها وأن نعرّف معها الدولة الحديثة بأنّها العقلانية التامة الشاملة»[6]. إذ يربط فيبر ربطًا مباشرًا بين الدولة الحديثة وبين تعميم «العقلانية» وسيادتها، وهي التي فسّر من خلالها جميع الأحداث والتحولات الكبرى في التاريخ الأوروبي الحديث، من إرهاصات النهضة إلى الثورة الصناعية والإصلاح البروتستانتي وظهور المدن الكبرى وتبلور فكرة القانون حتى كتابة الموسيقى. لقد تمت عقلنة الحياة في العلم التجريبي والاقتصاد والتنظيم الإداري (تبلور البيروقراطية بالمعنى الجديد للكلمة) وفي التعليم والهندسة المعماريين والفن[7].
وإلى جانب العنصر العقلاني الذي كان محددًا أساسيًّا في نشأة الدولة حسب هذه القراءات، يبرز محدّد آخر يتمثل في قدرة الدولة على احتكار استعمال القوة، على عكس ما كان ساريًا في السابق، حيث يُمارَس العنف والقوة من قِبل أكثر من جهة. هذه الفكرة المدافعة عن قوة الدولة وعُنفها، كانت قد تبلوت مع هوبز ومكيافلي. فهذا الأخير، مثلاً، كان "أول من عدّ السلطة السياسية قوة يتم امتلاكها لأجل إقامة الدولة، بل إنّه فكّر في الدولة كقوة تقوم على الضرورة والتدخل في الواقع لأجل التحكم فيه، وبحسبِه، ليست الدولة وسيلة لتحقيق السعادة أو الفضيلة أو الحكمة كما رأى أفلاطون وأرسطو، بل هي قوة فعّالة غايتها التسلط والإكراه"[8]. وهذه القوة التي أكد عليها مكيافللي، هي في نظره العامل الحاسم لبقاء الدولة وتفوّقها، فليست القوة من أهداف الدولة فحسب، بل هي في نظره المُنشئ الأساس للدولة، مع التأكيد على خاصية الدولة في احتكار العنف.
ويشرح فيبر هذا الأمر بأن بيّن كيف أنّ العنف ينبغي ألّا يتجاوز نطاق المجال الترابي للدولة قائلاً: "المجال الترابي هو أحد مميّزاتها، باحتكار العنف المادي الرمزي لحسابها الخاص، وتفعل ذلك بكل نجاح. فما يميز بالفعل عصرنا هو أنّه لا يخول لكل الجماعات السياسية أو للأفراد حق استعمال العنف إلا في حدود ما تسمح به الدولة، وهكذا تصبح الدولة المنبع الوحيد" للحق "في استعمال العنف، ونتيجة لذلك، نقصد بالسياسة مجموع الجهود المبذولة بغية المشاركة في السلطة أو التأثير على اقتسامها، سواء ما بين الدول أو ما بين مختلف التجمعات داخل نفس الدولة"[9]. فبالنسبة إلى فيبر لا يمكن من وجهة نظر سوسيولوجية، أن يتم الجواب على سؤال ماذا نعني بالدولة؟ ما دامت الدولة لا تتيح إمكانية تحديدها سوسيولوجيا من مضمون ما تفعله، "إذ نجد بالكاد مهمة لم تكن هنا أو هناك الشغل الشاغل لتجمع سياسي"، ويضيف فيبر من أجل التدليل على طرحه، أنّه لم يجد "أي مهمة يمكن القول عنها إنّها كانت باستمرار، أو إنّها كانت حصريًّا بيد التجمعات التي يمكن القول عنها إنّها كانت سياسية، أي إنّها ما نسميه اليوم بالدول التي كانت تاريخيًّا أسلاف الدولة الحديثة". لذلك يلجأ عالم الاجتماع السياسي إلى السوسيولوجيا بُغية إيجاد تعريف للدولة، حيث العثور على الوسيلة الوحيدة لهذه المقاربة، وهي "العنف الطبيعي (الفيزيائي)"[10].
وتَربِط وجهة نظر مشابهة بين القهر الذي تحدّث عنه فيبر وبين الشرعية القانونية، فالبناء القانوني يمكنه أن ينهار إذا "لم يكن الطابع الفعلي للقواعد التشريعية والتنظيمية، في الدرجة الأخيرة، مضمونًا من خلال التهديد المعقول بالإكراه من أجل إجبار المناهضين على الانصياع، لكن بقاءه يصطدم بعقبات مخيفة إذا لم تكن قانونية الأمر تتضمن، في أنظار المحكومين، حدسًا بحد أدنى من الشرعية، الشرعية التي ترتبط بالفعل بكل قاعدة تتبناها السلطات المختصة من خلال احترام الشروط المحددة"[11].
الظاهر من خلال المقاربتين السابقتين لكل من فيبر وفليب برو، أنّ وجهة نظر علم الاجتماع السياسي لا تفْصل مسمّى الدولة عن احتكار استعمال القوة، فالدولة هي المصدر الوحيد للحق، والسياسة. وهذا التفسير عائد إلى كونه ينظر إلى الدولة على أنّها ليست شكلاً سلطويًّا "طبيعيًّا" وُجد داخل أي مجتمع مهما كان، بل هي نتيجة "لسيرورة تاريخية محدّدة"[12]. وربما جاءت هذه القراءة لمسار تَكوُّن الدولة وتميّزها عن باقي الأشكال السياسية، في سياق التفاعل الفكري بين المدارس الفلسفية والسياسية والاقتصادية السابقة، أو يمكن القول إنّه الرّد غير المباشر على الطروحات التي تجعل من الدولة جوهرًا متعاليًا، وتلك التي تربط الدولة بالصراع بين وسائل الإنتاج وأدواته، والرؤية التي تجعل من الدولة عنصرًا محايدًا هدفه توفير الحرية والأمن. وسنركز في الفقرات القادمة على أهم ممثلي هذه الأفكار.
ثانيا: وظائف الدولة المدنية الحديثة
إنّ أهم ما يُقرِّه الفكر السياسي للدولة باعتبارها وظيفة، هو ما يتعلق بضمان حقوق الإنسان وبالأخص ضمان الحرية، فبقدر ما أصبحت "السياسة آلية لتوليد الحرية، والضامن لها، أعطت للدولة ـ التي هي مركز هذه السياسة ـ موقعها المتميز والأول في المجتمع، وجعلتها المُصَرِّف الأكبر للقيم المدنية. وتحولها هذا هو أصل استقرار السياسة في الدولة وتماهيها معها في العصر الحديث، ودفع الدولة ذاتها في اتجاه الديمقراطية. لقد أصبحت الدولة نفسها مبدأً أخلاقيًّا بعد أن كانت مبدأً قهريًّا"[13].
لقد دافع فلاسفة العقد الاجتماعي عن الدولة الضامنة للحريات والحقوق، ونظِير هذا الدفاع ما نبّه إليه سبينوزا عندما بين أنّ "السلطة السياسية تكون أشد عنفًا إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير وفي الدعوة لما يفكر فيه، وعلى العكس تكون معتدلة إذا سلّمت له بهذه الحرية"[14]. فالدولة في عرف صاحب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، لا تتأسّس على إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. ويخلص سبينوزا إلى أنّه لا يمكن فقط السماح بحرية الرأي، وهو الأمر الذي لا يشكل خطرًا على التقوى وسلامة الدولة، بل لا يمكن القضاء على حرية إبداء الرأي دون القضاء على سلامة الدولة والتقوى[15].
وبدوره يخلُص جون لوك إلى تعريفٍ جامع يرى فيه الدولة بوصفها «جماعة من الناس تكوّنت من أجل هدف واحد، هو تحقيق مصالحهم المدنية والحفاظ عليها والارتقاء بها إلى الأحسن. وأقصد بالمصالح المدنية الحياة والحرية وصحة الجسم وامتلاك الخيرات الخارجية، مثل المال والأراضي والمنازل والأثاث وما شابه ذلك»[16]. ولحماية هذه المبادئ السامية التي اختص بها لوك مهمة الدولة، فإنّه ألحّ على أنّ الله لم يفوّض العناية بالأرواح للقاضي المدني أو لأي شخص آخر، ولا يبدو أنّه أجاز لأي إنسان إجبار الآخرين على تقبل ديانته.
وإذا كان ضمان الحرية بشكل عام هو أهم انشغالات الدولة المدنية الحديثة، فإنّ "مبدأ حرية الفكر يفرض الامتناع عن الموافقة على أي عقوبة لمجرد استنادها إلى مبادئ دينية، وما يقودنا إلى هذا الاستنتاج هو أنّ الدين لا يقبل البرهان، وبالتالي، يستحيل فرض مبادئه من دون الإخلال بمبدأ حرية الفكر"[17]. فالدولة من هذا المنظور تُمسي شرطًا من شروط تعقل مبدأ الحرية، ونقرأ في هذا السياق لـ«ماكس ستارنير» النص التالي «الدولة تترك، قدر المستطاع، المواطنين يتصرفون بحرية، شريطة ألا يعتقدوا بجدية أنّهم أحرار وأن لا ينسوا وجودها»[18]. ويجعل (ستارنير) للدولة هدفًا واحدًا هو: وضع حدود للفرد وتقييده بإخضاعه لجهة ما، فلا يمكن للدولة أن تستمر في الوجود إلا شريطة ألا يوجد الفرد من أجل ذاته في كل شيء. كما تقتضي بالضرورة الحد من الأنا وتشويهها واستعبادها، ولا تقترح الدولة أبدًا تحفيز النشاط الحر للفرد: والنشاط الوحيد الذي تتبعه هي نفسها.
وإذا ما أردنا تبيُّن وظائف الدولة من الزاوية الاقتصادية، فإنّنا نتوسّل بتحليل العالم الاقتصادي «فريدريك هايك» الذي يرى أنّه لا توجد أيّ أسباب تجعل الدولة لا تحمي الأفراد ضد الأخطار المحيطة بهم. فالدولة، حسب هايك، من خلال قدراتها لها الحق أن تتدخل لحماية الناس وتأمينهم من المخاطر. ويرى هايك أنّه من حيث المبدأ، ليس هناك ما يمنع الدولة من التدخّل من أجل حفظ الأمن والحرية الفردية[19]. أمّا من وجهة النظر الماركسية، فإنّ اقتصار الدولة على بعض المجالات التي يراها الاقتصاد الرأسمالي غير ريعية، هو أمر مرفوض، لأنّ تحديد ما هو ريعي وما هو ليس كذلك ينبغي ألا يوكَل للرأسمال. لأنّ هذا مرتبط بنظرة نتجت عن تطورات تاريخية[20].
يمكن القول إنّ الدولة الحديثة اضطلعت وتضطلع بأدوار مهمة فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات، وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وحماية الأفراد والمؤسسات، فضلاً عن الأدوار التاريخية المنوطة بها عمومًا، غير أنّ الدولة الحالية تواجه سيلًا نقديًّا، وهو النقد الذي ليس له علاقة بما وُوجِهت به فكرة الدولة من قِبل علماء الاجتماع والفلاسفة؛ إذ إنّ نموذج الدولة الأمة اليوم لم يعد له من البريق ما كان له إبان الفترة التي أعقبت الثورات الأوربية، كما أنّ سيطرة النموذج الليبرالي على الشكل الأخير للدولة وتراجع الرؤيا الماركسية، حفّزا بعض المفكّرين على التنبيه إلى "الانزلاقات" التي من الممكن أن تنحدر إليها الدولة الحديثة. في هذا السياق يلحظ هابرماس أنّ "الدولة الليبرالية الغربية تعيش راهنًا أزمة غير مسبوقة منذ تشكّلها، تكمن في الانفصام القائم بين مكونها القومي (تماهي الدولة والأمة) ومكونها السياسي الإجرائي (مبدأ المواطنة الشاملة). فالدولة الحديثة نشأت في البداية دولة إدارية جابية للضرائب، ثم أصبحت دولة إقليمية ذات سيادة قبل أن تتحول إلى شكل دولة قومية لتنتهي إلى نموذج دولة القانون الديمقراطية"[21].
فالمسألة بالنسبة إلى هابرماس هي أنّ ضعف الدولة-الأمة، يرتبط "بعوامل سياسية أكثر من ارتباطه بالرابط الاجتماعي، ويشير خصوصًا، إلى أنّ الدول-الأمم غير قادرة على مواجهة المشاكل (الاقتصادية والاجتماعية) التي تعرفها المرحلة التي نعيشها، وإذا كانت نبرة اقتراحه لا تثير قلقًا، فلأنّه يفترض "حلاًّ للخروج من الأزمة" وهو حل مبني على تصور "بعد وطني" للدولة الذي يجب، بالنسبة إليه، أن يسمح للسياسي بالارتقاء إلى مستوى الاقتصاد العالمي دون أن يبقى رهين الحدود الضيقة للأمم"[22].
أفق الاشتغال:
بعد هذه النظرة السريعة على التنظيرات الغربية لمسألة الدولة، وكيفية اشتغالها ووظيفتها، والمحاذير التي تحيق بها، يقفز إلى الذهن واحد من أكثر الأسئلة أهمية، وهو السؤال المتعلّق برؤية العرب والمسلمين للدولة مصطلحًا ثُم للدولة بما هي مفهوم. فهل فكّر العرب والمسلمون في الدولة بمثل ما فكر فيه الفكر الغربي؟ ويتفرع عن هذا السؤال، سؤال آخر: هل مضمون الدولة في الفكر الغربي هو نفسه في لغة العرب وممارستهم؟
لائحة المراجع:
- إمام عبد الفتاح: الأخلاق السياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، 2001
- باتريك سافيدان: الدولة والتعدد الثقافي، ترجمة المصطفى حسوني، دار توبقال، ط1، الدار البيضاء، 2011
- برتران بادي: الدولة المستوردة، غربنة النصاب السياسي، ترجمة شوقي الدويهي، دار الفارابي، ط1، 2006
- برهان غليون: نقد السياسة، الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، الطبعة 4، 2007
- ريمون بودون: أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتماعي والحس المشترك، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، مركز الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2010
- سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم، حسن حنفي وفؤاد زكريا، دار التنوير، بروت، ط1، 2005
- عبد الجواد ياسين: السلطة في الإسلام(2)، نقد النظرية السياسية، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2009
- عبد الله العروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، ط8، الدار البيضاء، 2008
- فيليب برو: علم الاجتماع السياسي، ترجمة، محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للنشر، ط1، 1998
- ماكس فيبر: "العلم والسياسة بوصفهما حرفة"، ترجمة جورج كتورة، مراجعة رضوان السيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2011
- محمد الهيلالي وعزيز لزرق: الدولة، (نصوص مترجمة)، دفاتر فلسفية نصوص مختارة، دار توبقال للنشر، ط1، 2011
- منصف عبد الحق: جذور فكرة الاستبداد في العقل السياسي الحديث، الفكر العربي المعاصر، العددان 117-118، 2006.
- نيكولاس بولانتزاس: نظرية الدولة، ترجمة، مشيل كيلو، دار التنوير، ط2، بيروت 2010
- Fredrich A.hayek, La route de la servitude, tr. G.Blumbrg, puf, 1985
- Ph Braud, Du Pouvoir en général, au pouvoir politique, publié dans: M Grawitz, J. Traité de science politique, PUF, 1985
[1] باتريك سافيدان: الدولة والتعدد الثقافي، ترجمة المصطفى حسوني، دار توبقال، ط1، الدار البيضاء، 2011، ص 7
[2] راجع في هذا السياق Georges Burdeau, l’état, Seuil, Paris, 1970, PP.30-31
[3] غليون: الدين والسياسة، مجلة التسامح، ع 26، ص 54
[4] إمام عبد الفتاح: الأخلاق السياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، 2001، ص 228
[5] يرفض برتران بادي هذا الأمر ويعتبر "ادعاء الكونية أمرًا متوهّمًا ينكر التاريخ". راجع: برتران بادي: الدولة المستوردة، غربنة النصاب السياسي، ترجمة شوقي الدويهي، درا الفارابي، ط1، 2006، ص ص 96-97
[6] عبد الله العروي: مفهوم الدولة، ص ص 75-76
[7] عبد الجواد ياسين: السلطة في الإسلام(2)، نقد النظرية السياسية، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2009، ص 11
[8] منصف عبد الحق: جذور فكرة الاستبداد في العقل السياسي الحديث، الفكر العربي المعاصر، العددان 117-118، 2006، ص 41. (رضوان زيادة: الكواكبي ونظرية الاستبداد، مجلة رواق عربي، ع 43، 2007، ص 79)
[9] المرجع السابق.
[10] ماكس فيبر: "العلم والسياسة بوصفهما حرفة"، ترجمة جورج كتورة، مراجعة رضوان السيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2011، ص 262
[11] حول هذه النقطة، انظر:
Ph Braud, Du Pouvoir en général, au pouvoir politique, publié dans: M Grawitz, J. Leca, Traité de science politique, PUF, 1985, T1, p.380
وأيضًا: فيليب برو: علم الاجتماع السياسي، ترجمة، محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للنشر، ط1، 1998، ص 121
[12] نفسه، ص 77
[13] برهان غليون: نقد السياسة، الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، الطبعة 4، 2007، ص 558
[14] سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم، حسن حنفي وفؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، ط1، 2005، ص 37
[15] نفسه.
[16]Locke,Lettre sur la tolérance, tr. Jean Le Clerc, Gaenier Flammarion, 1992, pp.168-169
تم اقتباسه عن: الدولة، إعداد وترجمة: محمد الهيلالي وعزيز لزرق، سلسلة دفاتر فلسفية نصوص مختارة، دار توبقال للنشر، ط1، 2011، ص 59
[17] ريمون بودون: أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتمتاعي والحس المشترك، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، مركز الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2010، 358
[18] Max Stirner, L’unique et sa propriété, 1845, tard. R.L. Reclaire, édition Stock, Paris, 1899, p.182
تم اقتباسه عن: الدولة، إعداد وترجمة: محمد الهيلالي وعزيز لزرق، (م.س)، ص 65
[19] Fredrich A.hayek, La route de la servitude, tr. G.Blumbrg, puf, 1985. p.90
[20] راجع في هذا الصدد: بولانتزاس: نظرية الدولة، (م.س)، ص ص 181-182
[21] ولد باه: المواطنة، (م.س)، ص 20
[22]سافيدال: الدولة، (م.س)، ص 8
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A%D...