العولمة وقيم السلام والتسامح: الفرص والتحدِّيات

أحمد زايد

مقدمة:

هل يمكن أن يتحقق السلام والتسامح في زمن العولمة؟ ربما يكون هذا السؤال من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تتصدى لها العلوم الاجتماعية؛ فالعولمة في حد ذاتها هي عملية متشابكة وبالغة التعقيد، وهي إذ تسمح بفضاء للسلام والتسامح من جانب واحد من جوانبها، فإنها تفتح الطريق من جانب آخر لفضاء من العنف والفوضى، فتتزعزع أسس السلام والتسامح على أرض الواقع دون أن يتوقف الخطاب الداعي إليهما من مركز العولمة ومن أطرافها. وأكاد أظن بأن هذا هو سمت العولمة وصبغتها: خطابات إنسانية تحمل كل معاني القيم النبيلة، وحركات على أرض الواقع تساند هذه الخطابات وتذهب في مساندتها إلى رفض العولمة ذاتها، وعمليات وممارسات على أرض الواقع تساندها خطابات ظاهرة وضمنية تخلق صورًا من التكامل القسري أو الطوعي عبر العالم؛ ولكنها تفكك وتهدم وتنشر الفوضى أيضًا. فكيف إذًا يمكن للتسامح والسلام أن يسودا أو أن يجدا لهما أرضًا ينبتان ويترعرعان فيها في ظل هذه الظروف والأوضاع؟
ورغم صعوبة تناول هذا السؤال، إلا أن طرحه قد يكون فيه خير كثير؛ فهو يمكّننا من أن نفهم العولمة فهمًا حقيقيًا، وأن نفكك جوانب غير مكشوفة من بنيتها المراوغة؟ وفضلاً عن ذلك فإن طرحه يكشف عن رغبة في تبني نزعة إنسانوية غائبة في دهاليز العولمة ومسالكها المعقدة. إن الذي يتحدث عن القيم الفاضلة والنبيلة -مثل العدل والسلام والتسامح- في زمن العولمة أشبه بسقراط عندما يتحدث إلى الآثنيين. فهو باحث عن فضيلة أو فضائل في زمن يسعى إلى الشموخ والتطاول غير مكترث بالآثار والنتائج. ومثل صوت سقراط فإن صوت الحديث عن فضائل التسامح والسلام في زمن العولمة يظل صوتا إنسانيا ضروريا، يتراكم مع أصوات أخرى لإصلاح مسار العولمة وتقليص آثارها السلبية.
وعن هذا السؤال العريض تتفرع أسئلة مهمة: ما إمكانات الحديث عن قيم السلام والتسامح في عصر العولمة؟ وبمعنى أدق ما فرص تأسيس قيم للسلام والتسامح في ظرف العولمة، وما هي التحديات التي تواجه انتشار قيم السلام والتسامح وذيوعهما؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة نبدأ بتقديم قصير عن إشكاليات العولمة وتناقضاتها، ثم نعرج على فرص تحقيق قيم السلام والتسامح في ظرف العولمة، ثم نعرض أخيرًا لفرص تحقيق السلام والتسامح وللتحديات التي يمكن أن تواجه تحقيق هذه القيم في الواقع المُعاش. 
أولاً: العولمة: إشكاليات وتناقضات 
تُعد العولمة من الظواهر الأشد تعقيدًا؛ وذلك لتشابك العناصر المكونة لها والأبعاد الداخلة في تركيبها وتنوع الآليات الفاعلة فيها؛ هذا فضلاً عن الاختلاف حول معناها وتاريخها وعلاقتها بعدد آخر من المفاهيم كالرأسمالية والنظام العالمي والحداثة. ولا نود أن ندخل هنا في حوار حول تاريخ العولمة الذي يعود به بعضهم إلى القرن الخامس عشر؛ وهو القرن الذي كان تتخلق أثناءه في رحم الحضارة الغربية روح المغامرة والخروج إلى عوالم أخرى بحثاً عن الثروة والاستعمار، لتمر بمراحل مختلفة إلى أن تصل إلى المرحلة المعاصرة، التي تعد مرحلة خاصة ومميزة في تاريخ العولمة. حسبنا هنا أن نؤكد أن هذه الحقبة المعاصرة من تاريخ العولمة شهدت تحولات هائلة في مجال الموصلات والاتصالات، واتساع الأسواق وحركة رأس المال، وتدفقات الهجرة والسلع والتكنولوجيا والأفكار والمعلومات، إلى درجة تغيرت معها علاقات الزمان والمكان. فالمكان ينسحق ويتقلص، وينضغط وينفصل، ويتباعد عن الزمان، فيصبح بمقدور الفرد أن يتحرك في وقت واحد في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة(1).ولذلك وصف علماء الاجتماع الحقبة المعاصرة من تاريخ العالم بأوصاف تدل على عظم التغيرات التي تشهدها، وتعقد النتائج المرتبطة بهذه التغيرات. فهي حقبة عدم اليقين(2)، أو الرأسمالية غير المنظمة(3)، أو أمبرطورية الفوضى(4)، أو صدام الحضارات (5) أو مجتمع المخاطر(6). 
ويرجع ذلك إلى أن العمليات المصاحبة للعولمة والتركيبات البنائية الداخلة فيها أكثر تعقيدًا من أن يعبر عنها بالقول ببساطة بأنها عمليات لتوحيد العالم أو لجعله قرية واحدة. وربما يكون هذا هو التناقض الرئيس الذي تفرزه العولمة؛ فالعالم -الذي يشهد عمليات مستمرة من التوحد والتفاهم والتدبر والاندماج- يشهد في الوقت نفسه عمليات مستمرة من الصراع والتنافر والتباعد. ومن ثم فإننا نميل إلى استخدام مفهوم العولمة لا ليشير إلى عمليات التوحد والاندماج فحسب؛ وإنما ليشير إلى عمليات التفكيك والصراع أيضًا. فالعولمة هي اقتسام غير متكافئ لمنتجات مشروع الحداثة الغربي، سواء أكانت هذه المنتجات تتصل بفرض صيغ حداثية موحدة عبر العالم، أم كانت تتصل بصراعات أو صور للتباعد والتفكك والتمزق تنتج عن النضالات اليومية لفرض هذه الصيغ الحداثية العالمية أو مقاومتها. والعولمة في ضوء هذا هي حالة من التحول المستمر والتشكل المستمر لعلاقات على المستوى العالمي والمحلي(7). ويطرح هذا التناقض سؤالاً مهماً له علاقة وثيقة بقيم السلام والتسامح: هل العولمة تباعد بين البشر أو أنها تقرب بينهم؟ وأحسب أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بسهلة؛ ففي الوقت الذي تخلق فيه العولمة أشكالاً وصيغاً متشابهة في الجوانب المادية، والمعلوماتية والمعرفية، فإنها تدفع الناس إلى إعادة تفسير ما هو قارّ وساكن، وما هو محلي، فتتدافع الأفكار وتتكاثر الآراء وتدخل الشعوب في جدال لا يتوقف، بل إنه جدال قد يصل أحياناً إلى حد القتال. هنا تتحول الثقافة الواحدة إلى ثقافات، وتصبح الروح الجمعية في المجتمع الواحد على المحك، خاصة في ظروف التحول السريع.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه صور التفكيك الثقافي، والصراعات الثقافية عبر العالم، فإن ظرف العولمة لا يترك هذا العالم وشأنه؛ بل يواصل طرح الأفكار والأجندات، ويتركها تتدفق عبر الأدوات الجديدة لنقل المعلومات مثل الإنترنت وغيرها. وهنا يظهر تناقض مهم من تناقضات العولمة، ألا وهو التناقض بين الخطاب الذي يدعو إلى التوافق والسلام والحوار، والخطاب الآخر الذي يذكي الصراعات ويقويها. ولننظر مثلا إلى الدعوة للحوار بين الشمال والجنوب من أجل تقليص فجوة الفقر والتخلف، والدعوة للحوار بين الأديان من أجل تقليص حدة التوترات الطائفية والدينية، والتعجيل بإصدار اتفاقيات دولية حول حماية حقوق الإنسان بعامة، والمرأة والطفل بخاصة، وحماية المجتمعات من الجريمة والمخدرات والإرهاب والاتجار بالبشر؛ لننظر في كل هذا -الذي يشي بالفضيلة والخير- في تناقضه مع دعوات وخطابات عن حقوق الأقليات، وأهمية الفوضى الخلاقة، وصدام الحضارات. 
فماذا عسى أن تكون الصورة التي تتخلق عن هذا التناقض: سَعْيٌ وجري نحو الحوار والاتفاق والسلام والتسامح، أم سعي وجري وراء الانفصال والتباعد وإقامة الحدود والحواجز. تلك هي الصورة التي يمكن أن تتولد عن هذا الوضع: عالم لا يعرف أهدافه بصدق، ولا يسعى إلى وفاق حقيقي. ولذلك فإن النتيجة التي تترتب على ذلك على أرض الواقع هي مزيد من العنف والصراع. وليس هناك من دليل على ذلك أكثر من نمو وتكاثر النزاعات المسلحة في الحقبة الراهنة من العولمة؛ حيث تشير التقارير إلى أن عدد النزاعات المسلحة في العالم قد ارتفع من 47 نزاعًا سنة 1989، إلى 56 نزاعًا سنة 1990،إلى 68 نزاعًا سنة 1992 إلى 118 نزاعًا مسلحًا سنة 1999/ 2000(8). والدلالة في هذه الأرقام واضحة جلية: ليس هناك من جدوى للحوار أو الاتفاقات الدولية، وإن القوة وما يترتب عليها من عنف هي سيدة الموقف. 
وثمة تناقض آخر يضاف إلى ما سبق، بل ربما يكون هو التناقض الأصلي، وهو يرتبط بصور اللامساواة التي تخلقها العولمة؛ فالدعوة إلى التكامل العالمي، والدعوة إلى دخول العالم في حوار من أجل مستقبل أفضل تتناقض مع تزايد حدة الفروق وصور اللاتكافؤ بين الدول وبين الجماعات الاجتماعية في المجتمع الواحد، وتزايدِ الضغوط على الجماعات الضعيفة داخل المجتمع الواحد. وهنا تتفاقم مشكلات العالم على نحو كبير مِمَّا يدعو إلى مزيد من تفكيكه وتناقضه. ولن أشير هنا إلى المشكلات الكبرى الخاصة بتفاقم مشكلات التلوث البيئي والتغيرات المناخية والاحتباس الحراري وانبعاث ثاني أكسيد الكربون والأزمة المالية العالمية والكساد الاقتصادي العالمي، وجميعها مشكلات مهمة لها جوانبها المتصلة بعدم التكافؤ بين دول المركز الرأسمالي والدول النامية؛ ولكن أشير إلى عدد آخر من المشكلات ذات الطابع الاجتماعي: 
1- تزايد معدلات الفقر والبطالة عبر العالم، وهي معدلات تصل إلى ذروتها في المجتمعات الفقيرة. فقد أشارت التقارير إلى أن 40% من سكان العالم يحصلون على 5% من الدخل العالمي، وأن أغنى 20% من سكان العالم يحصلون على 75% من هذا الدخل، وأن نصف سكان العالم تقريبًا- حوالى 3 بليون نسمة - يعيشون على دخل لا يزيد عن 2,5 دولار للفرد في اليوم. كما تشير تقارير اليونيسيف إلى أن هناك 22 ألف من الأطفال يموتون جوعًا كل يوم في قرى ومناطق فقيرة من العالم؛ خاصة الدول النامية، وعلى وجه أخص في أفريقيا وآسيا(9).كما أدت الأزمة الاقتصادية عام 2009 إلى حشد عدد كبير من الشباب العاطلين والذي قدر بحوالي 81 مليون شخص حول العالم(10).
2- ظهور صور جديدة من الجريمة، خاصة تلك المتعلقة بانتقال البشر عبر العالم. فقد ارتبط ظرف العولمة بتطور هائل في وسائل الموصلات والاتصالات، مِمَّا أدى إلى انضغاط العالم وفتح قنوات ومسارات لتدفق السلع والأفكار والتكنولوجيا والأيدلوجيا والأموال. ولقد كان من آثار العولمة سرعة انتقال البشر، وظهور مشكلات وصور متعددة من الانحراف لم تكن معروفة من قبل. ففي الوقت الذي تفرض فيه الدول قيودًا على حركة الهجرة والدخول والخروج، وتشدد فيه الدول على ضبط حدودها خوفا من الإرهاب، في هذا الوقت يشهد العالم صوراً غير منظمة لانتقال البشر والاتجار بهم واستغلالهم في أعمال غير مشروعة؛ حيث تكشف التقارير والإحصاءات عن تفاقم ظاهرة الاتجار بالبشر على نحو كبير بحيث أصبحت من الظواهر التي تهدد المجتمعات المعاصرة، والتي غالبا ما ترتبط بالصور الانحرافية الأخرى ذات الطابع العالمي، كتجارة المخدرات وتجارة السلاح وتجارة الجنس. فقد بلغ عدد الأفراد الذين يعانون من الاتجار بالبشر 7 ملايين فرداً، ووصل عدد الأفراد المهربين عبر الحدود إلى 800 ألف فردًا، ووصل عدد الأطفال المستغلين في تجارة الجنس إلى مليون طفل، كما أن حجم الأموال التي تُجنى من تجارة البشر تبلغ 32 بليون دولار، وأن هناك 161 دولة تشهد شكلاً أو أكثر من أشكال الاتجار بالبشر(11). ففي هذا السياق أسهمت العولمة في ازدهار تجارة الجنس، وهي تجارة تحولت فيها المرأة والطفل إلى سلعة، وإلى تجارة رابحة في سوق الرأسمالية العالمية في نظام عولمة يفتح الأبواب لهذا النوع من التجارة(12). 
3- تزايد معدلات اللاجئين؛ حيث بلغ عددهم ما بين 18-20 مليون لاجئ مع نهاية القرن العشرين، هذا بخلاف من يطلبون اللجوء السياسي والأفراد المشردين الذين لا مأوى لهم على حدود الدول بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والصراعات العرقية(13).
وإذا كان الفقر والحرمان الذي ينتشر في قطاعات كبيرة من سكان العالم يزيد من التباعد الاجتماعي بين البشر على المستوى العالمي، ويخلق صوراً من الصراعات الظاهرة والكامنة بين مجتمعات العالم وفي داخل المجتمع الواحد، فإن تعاظم صور الجريمة ودخولها إلى مجال الاتجار في البشر أنفسهم، وتعاظم انتقال البشر عبر العالم بشكل غير قانوني يؤديان إلى ما نطلق عليه " الرقابة الحديدية " على الحدود بين الدول. ففي هذا الظرف يُتوقع أن تقوم كل دولة بتعظيم صور الرقابة على انتقال السكان عبر العالم، فتصبح الحدود مغلقة، وتصبح إمكانيات التحايل والانحراف في عمليات عبور الحدود ممكنة. هنا يتجلى بصدق التناقض الكبير للعولمة. ففي الوقت الذي تدفع فيه العولمة إلى فتح الأسواق وخلق مزيد من التدفقات عبر الحدود لرؤوس الأموال والتكنولوجيا والأفكار والبشر، فإنها تدفع الدول إلى مزيد من إدراك الحدود وتأكيدها ومراقبتها. يبدو ظرف العولمة هنا وكأنه يدافع عن المبدأ الليبرالي "دعه يعمل دعه يمر"، وفي الوقت نفسه يدعو إلى منع العمل والمرور في ظروف معينة، أو أنه يعمل وفقًا لمبدأ " المنح والمنع"، فهو يمنح بالطريقة التي يراها، ويمنع بالطريقة التي يراها أيضًا.
ثانيًا: ضرورة التسامح والسلام في زمن العولمة
إن التناقضات التي أشرنا إليها - ضمن عوامل أخرى كثيرة - تدفعنا إلى الاعتقاد بأن العولمة على قدر ما تخلق من النتائج الإيجابية، تخلق من النتائج السلبية؛ والتي يتأتى على رأسها خلق صور من التباعد وإدراك الحدود الجغرافية والاجتماعية والثقافية. وفي مثل هذا الظرف يصبح خطاب التسامح والسلام خطابًا ضروريًا. فهو يبث في جسد العالم دماء التقارب والتكامل؛ ويبعث الأمل في عولمة بديلة لها طابع إنساني.
ولا شك أن ثمة علاقة قوية بين السلام والتسامح كقيمتين أخلاقيتين، فلا سلام بغير تسامح، ولا تسامح بغير سلام. إننا ندرك ذلك جليًا إذا ما تفحصنا مليًا دلالات مفهوم التسامح من ناحية ودلالات مفهوم السلام من ناحية أخرى. تشتق كلمة التسامح في اللغة الإنجليزية من الفعل اللاتيني tollere بمعنى يرفع أو يسامح أو يرى أو يحترم، وجميعها معاني تؤدي إلى التسامح (أو التساهل والتحمل) tolerance. كما يشير الجذر العربي للمعاني نفسها تقريبًا، حيث تشتق كلمة تسامح من الفعل " سمح " ويعني جاد وكرم وسهَّل، فيقال: تسمَّح (أو تسامح) بمعنى فعل شيئًا فسهَّل فيه الأمر. ثمة معانٍ دلالية تدور حول القدرة على التحمل؛ فالمرء عندما يتساهل أو يسهل الأمور، وعندما يجود ويكرم، وعندما يَحترم فإنه يكون له قدرة على التحمل. وأحسب أن كلمة السلام قد تعكس المعاني نفسها. فالسلام يشتق من الكلمة اللاتينية Pax وتعني الهدوءَ وعدمَ التمردِ والاستسلامَ، أو الدخولَ في حالة اتفاق عام ومصالحة (فيقال مثلا: السلام الروماني Pax Romano للإشارة إلى حالة السلام وإنهاء الحروب الأهلية في الإمبراطورية الرومانية)، وفي العربية تشتق كلمة السلام من الفعل " سلم " أي عفا وأنقذ. والسلم والسلام كلمتان تشيران إلى الصلح والاستسلام، أو حتى الدخول في الإسلام، على اعتبار أن الدخول في العقيدة هو نوع من الاستسلام والرضا والتسليم (أي تسليم الأمر لله سبحانه وتعالى) (14). ولا شك أن هناك قدرًا من الالتقاء الدلالي بين المعنى اللغوي لكلمتي السلام والتسامح، فثمة معانٍ ودلالات تشير إلى قبول الآخر واحترام وجهة نظره، والعفو عنه، ومن ثم التعايش المتسامح السلمي معه. فالمتسامح شخص يستسلم للآخر بقدر ما تم الاتفاق عليه بينهما، ومن ثم فهو يسالم الآخر ويتعايش معه. ومن ناحية أخرى فإن الشخص المسالم أو الجانح إلى السلم هو بالضرورة شخص يقبل الآخر، ويتسامح معه، ويقبل آراءه، ويقبل مسالمته، ويتحمله ويتعايش معه. 
إن التسامح والسلام في ضوء هذه المعاني الدلالية والتداخل الواضح بينهما يمكن أن يشكلا فضاء من الفضائل يناقض حالة العولمة بتناقضاتها المختلفة، ويدفع إلى تحسين مسارها. ونركز فيما تبقى من هذا الجزء على الدور الذي يمكن أن يلعبه كلٌ من السلام والتسامح في مواجهة العولمة الشرسة وما يترتب عليها من استحواذ واستبعاد وتفكيك.
1- تأكيد النزعة الإنسانية للعولمة:
إن تأكيد قيم التسامح والسلام هو الوجه الآخر للعولمة، الوجه الذي يتسع أمام الحركات الاجتماعية المناوئة للعولمة والداعية إلى عولمة جديدة. فالعولمة - كما يقول ميشل كيلو- بحق "رأسمالية منفلتة من عقالها، تتطلع إلى إعادة صياغة العالم لمصلحة بعض دول/ مراكز أو اقتصاديات/ عوالم، فهي تاليًا بداية حقبة جديدة من تاريخ الاستغلال والاضطهاد الدولي، " ولذلك فإن "أنسنة العولمة" هي "قدر البشرية جمعاء". إن أنسنة العولمة طريق صعب المنال، وله متطلبات اقتصادية وسياسية. ولكن متطلباتها الثقافية هي أكثرها صعوبة حيث الحاجة إلى ثقافة إنسانية... تضع الإنسان في مركز الوجود، وتؤمن بأهليته للحرية والتقدم، وبقدرته على بناء عالمه الذاتي... (في) ثقافة ليبرالية وديمقراطية، كونية الطابع، عقلانية المضمون والنهج"(15). ولا يمكن وضع الإنسان في " مركز الوجود " دون وجود منظومة جديدة من القيم الإنسانية الفاضلة، وعلى رأسها قيم التسامح والسلام. فليس بالمادة أو بتراكم الثروة والربح، ولا بالهيمنة والاستعمار، ولا بالصراعات والعنف، يتحقق الوجود المركزي للإنسان، بل بالقيم الفاضلة التي تمنع الإنسان من أن يطغى على أخيه الإنسان، وتجعل التعايش السلمي المتسامح ممكناً. إن العولمة البديلة ذات الطابع الإنساني هي التي تؤسس لا لمركزية الإنسان فقط؛بل تؤسس أيضا لمركزية القيم عوضًا عن مركزية رأس المال. ويمكن أن يترتب على ذلك منطقيًا القول بأن إخضاع رأس المال للقيم المركزية - الفاضلة بالطبع - قد يؤدي إلى إمكانية ألاّ يعمل رأس المال على السيطرة والهيمنة والاستغلال والاستبعاد وكل الآثار السيئة التي تترتب على احتكاره أو توزيعه بشكل غير عادل.

2- المشترك الثقافي العالمي 

وعلى خلفية التقارب بين الشعوب فإن ثمة إمكانية للتوافق حول قيم عالمية مشتركة، يأتي في مقدمتها قيم السلام والتسامح،جنبًا إلى جنب مع قيم العدل والمساواة والحفاظ على الإنسان جسدًا وروحًا ونفسًا وعقلا. إن الجوهر الذي تقوم عليه الثقافة -بما فيها من معتقدات دينية - هو جوهر واحد، فهي تلبي حاجات الإنسان، وتمكنه من التكيف والتوافق مع البيئة، وتعمير الأرض، وإقامة الحضارة التي تحفظ للإنسان كرامته وعقله، وتوفر له عيشًا وحياة كريمة. لقد أكد علماء الأنثروبولوجيا مرارًا على تلك العلاقة الوثيقة بين الثقافة التي يطورها الإنسان ويعيش في كنفها وبين نسق الحاجات الضرورية لهذا الإنسان(16). وطالما أن حاجات الإنسان واحدة، فلاشك أنه سوف ينتج عموميات ثقافية وعقدية متشابهة؛ ربما تختلف في التفاصيل والقواعد والأحكام؛ ولكنها تقوم على جذر واحد مستمد من الفضائل العامة التي لا يمكن أن يختلف الناس حولها، والتي تساعد الإنسان على تحقيق غاياته من العيش في الأرض وتعميرها. إن هذه الفضائل يمكن - بالتالي - أن تشكل "مشتركًا ثقافيًا" يمثل الحد الأدنى من الاتفاق الثقافي الذي يجمع الشعوب سويًا، ويجعلها قادرة على أن تحقق التعايش والوجود السلمي المتسامح، أو التسامح المؤسس على السلام. 
3- تأكيد التعددية الثقافية:
إن قبول التسامح والسلام كفضيلتين أو قيمتين عموميتين في عصر العولمة، وما يترتب على ذلك من إمكانيات للتقارب والتفاهم بين الشعوب، والعمل على تأكيد الحد الأدنى من المشترك الثقافي، كل ذلك يفتح الطريق أمام قبول أو تأكيد فكرة التعددية الثقافية. لقد دعت اليونسكو -في وثيقتها الشهيرة حول " التنوع الثقافي الخلاق" - إلى التأكيد على مبدأ التنوع الذي يعمل على الحوار بين الأطراف المختلفة، ويخلق أرضية ثقافية للاعتماد المتبادل بين الشعوب والحوار والتفاعل بين المعتقدات (17). إن اليونسكو هنا تدعو إلى عالم جديد، أو قُلْ: عولمة جديدة، يكون فيها كل الأطراف على قدم المساواة، حتى وإن اختلفوا فيما يملكونه من أصول مادية؛ كما أنها تدعو إلى تأكيد أساس جديد للتعايش السلمي المتسامح بين البشر، لا يقوم على تقسيم العمل الاقتصادي بين الدول؛ وإنما يقوم على التفاعل الثقافي. والأمر الأكثر أهمية بالنسبة لأهداف هذا البحث أن نؤكد العلاقة بين التسامح والسلام من ناحية وبين التنوع والتعددية من ناحية أخرى. إن التعددية الثقافية التي تدعو إليها اليونسكو- وكل الداعين إلى عولمة إنسانية - لا تتأسس دون قدر كبير من التسامح وقدر كبير من السلام. فالتسامح والسلام يفترضان وجود الآخر لا نفيه. وطالما وجد الآخر وتم الاعتراف به فإن وجوده يصبح حقيقة عيانيَّة، كما أن فعله وممارساته تصبح متشابكة مع أفعال وممارسات الآخرين. إن العالم حينئذ سوف يتكون من أطراف مختلفة ومتنوعة؛ ولكنها مع ذلك متفاعلة ومتداخلة لا سيطرة فيها من طرف على طرف آخر، ولا يستبد فيها طرف بآخر، حيث يتسع الحيز للجميع.
ثالثًا: مساحة السلام والتسامح في عصر العولمة: الفرص
السؤال الذي نتجه إلى الإجابة عنه هنا: هل ثمة مساحة حقيقية للسلام والتسامح في ظرف العولمة الراهن؟ ويعني ذلك بشكل مباشر البحث عن فرص تحقيقهما. وإذا كانت هذه الفرص موجودة، فهل ما تزال تتاح على المستوى الخطابي والسياسي، أو أنها تجد طريقها إلى أرض الواقع أحيانًا؟ والحق أن درْس فرص السلام والتسامح في عصر العولمة أمر صعب. فالعولمة الحالية لا تترك للسلام والتسامح فضاء إلا في الخطاب الذي يبث عبر العالم، والذي يحمل في طياته تنبيهاً إلى المخاطر التي يواجهها العالم من ناحية، وإمكانيات تحقيق السلام والتسامح والتفاعل الخلاق بين الشعوب والحضارات من ناحية أخرى. وهذا الخطاب يُعدّ خطابًا بازغًا تكتنفه هو نفسه بعض المصاعب، كما أنه لا يتجسد في الواقع إلا عبر اللقاءات والمؤتمرات والمهرجانات والمسابقات. يبدو الأمر هنا وكأننا أمام صراع بين موقفين أشبه - كما ذكرنا من قبل - بالصراع بين سقراط -الذي يدعو إلى الفضيلة- وأهل أثينا الطغاة المتطاولين على الفضيلة. وأظن أننا بحاجة إلى أن نعي هذه الحقيقة ونحن نبحث عن فرص تحقيق السلام والتسامح في عصر العولمة.
1- خطابات السلام والتسامح:
من أين تأتي خطابات السلام والتسامح؟ لا شك أنها دعوة أولئك الذين يستشعرون المخاطر الكامنة في طغيان العولمة ونزعتها المادية الاستهلاكية وآثارها التفكيكية. ولقد كانت الأمم المتحدة وأجهزتها أكثر الأطراف سبقًا إلى إنتاج خطاب يدعو إلى قيم السلام والتسامح، ولا شك أن هذا الخطاب للأمم المتحدة قد تأسس على إنتاج ثقافي ناقد للعولمة، وموضح للأسس غير العادلة التي تقوم عليها، وللهيمنة التي تمارسها الدول الكبرى في عالمنا المعاصر، وللنزعة الاستهلاكية المادية للعولمة أو لميولها التفكيكية، وهو خطاب أشرنا إليه في أكثر من مكان في هذا البحث، وحسبنا هنا أن نعرض لأهم الدعوات التي تؤكد أهمية استعادة وبناء روح السلام والتسامح.
لقد بدأت الأصوات الداعية إلى "ثقافة السلام والتسامح" تتصاعد في أروقة الأمم المتحدة، وقد دفع ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إدراج موضوع ثقافة السلام على جدول أعمالها في عام 1997، وأعلنت عام 2000 عامًا دوليًا للسلام، كما أعلنت العِقْد الذي يمتد من 2001 إلى 2010 عقدًا لثقافة السلام واللاعنف من أجل أطفال العالم، واعتمدت إعلاناً وبرنامج عمل من أجل ثقافة السلام. ولقد ترتب على هذا أن أصبح موضوع السلام والتسامح والتفاهم بين الدول أحد الموضوعات الرئيسة التي تتناولها خطابات رؤساء الدول وممثليها أمام الجمعية العامة، وكذلك القرارات التي تصدرها الجمعية، والتي تؤكد بشكل مستمر على أهمية ثقافة السلام ونبذ العنف، وتنمية الفهم والتعاون والوفاق المتبادل بين الأديان والثقافات(18).
وقد حظيت قضية التسامح باهتمام خاص، رغم أن الدعوة إلى ثقافة السلام هي دعوة إلى ثقافة التسامح؛ فقد أصدرت منظمة اليونسكو في مؤتمرها العام سنة 1995 إعلان المبادئ العامة المتعلقة بالتسامح وخطة عمل متابعة لسنة الأمم المتحدة للتسامح، والتي كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد حددتها بناء على اقتراح اليونسكو لسنة 1995. فقد دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1996 الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 نوفمبر من كل عام من خلال القيام بأنشطة تربوية وثقافية، تدعو إلى الحوار والتفاعل الإيجابي ونبذ العنف والتطرف، وتأكيد الحاجة إلى التسامح والسلام بين البشر، وتأكيد المبادئ التي وردت في إعلان اليونسكو حول التسامح؛ الذي أكد أن التسامح يعد فضيلة مُهدَّدة بالخطر من جراء التعصب والعنف، وأن العالم بحاجة ماسة إلى استعادة روح التسامح(19). وفى السياق نفسه أنشأت اليونسكو كرسياًّ لحقوق الإنسان والتسامح والسلام، تم نشره في جامعات عديدة للعناية ببحوث حقوق الإنسان والتسامح والديمقراطية، وكذلك العناية بالتدريب والتعليم حول الموضوعات نفسها. وعبر أروقة اليونسكو بدأت قضية السلام والتسامح تأتي بشكل غير مباشر عبر كراسي أخرى، منها كرسي الفلسفة وكرسي ابن رشد (ثمة دعوة هنا وهناك إلى التسامح والعقلانية ونبذ العنف)(20). 
ولقد أدى تدفق خطابات الدعوة إلى ثقافة السلام والتسامح عبر أروقة الجمعية العامة ومنظمة اليونسكو إلى أن تتسرب هذه الخطابات إلى مظان مختلفة، ومن أهم هذه المظان المجتمع المدني الذي ترعرعت في رحابة أفكار ودعوات حول أهمية السلام العالمي والتسامح ودورهما في تحقيق الديمقراطية. وتكاثرت -بناءً على ذلك- الندوات والمؤتمرات، وحتى المواقع الإليكترونية، التي تدعو إلى السلام والتسامح، خاصة بين الشعوب التي أطاحت بهويتها وبنائها الحروبُ والنزاعات المسلحة (21)؛وعلى المنوال نفسه تأسست المراكز البحثية لدراسات السلام وحل النزاعات، كما صدرت الكتب والمجلات العلمية لدرس الموضوع. ولعل مجلة التسامح -(التفاهم الآن) التي تصدرها وزارة الأوقاف في سلطنة عمان منذ عام 2003- تكون من أهم الإسهامات التي ظهرت على المستوى العربي للإسهام في تعميق الدرس الأكاديمي لثقافة التسامح وقبول الآخر، وتقديم وجهات النظر المختلفة - بما فيها وجهة النظر الدينية - في موضوع التسامح. 
2- التواصل الحضاري وتحقيق السلام 
ويعد التواصل الحضاري فرصة أخرى من فرص تحقيق السلام والتسامح. فإذا كانت العولمة قد أنتجت صورًا من الصراع والتفكك، فإنها قد أنتجت أيضًا خطاباتٍ تفكيكيةً من أهمها الخطاب المتصل بالصراع أو صدام الحضارات. لقد تزعم المفكر الأمريكي صموئيل هانتنجتون الفكر المتصل بهذا الخطاب، ولفت الأنظار إلى طبيعة الاستقطاب الذي يحدث في العالم، الذي أصبح ذا طبيعة ثقافية، الأمر الذي دفعه إلى أن يؤكد أن عالم ما بعد الحرب الباردة قد شهد بزوغ حضارات وهويات جديدة (خاصة الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية)، كما شهد ترابطاً بين إدراك المصالح الاقتصادية والسياسية وبين إدراك الحدود الثقافية، وتراجعا للإيديولوجيات في مقابل استعادة الهوية الثقافية والدينية، وكلها أمور تستدعي مزيدًا من الصراع والتنافس بين الحضارات(22).
ورغم أن خطاب صدام الحضارات، وبزوغ بوادر الصراعات الثقافية والدينية يؤشر على جزء كبير من الحقيقة في حياة الشعوب التي تعيش في عصر العولمة؛ فإن الباحثين عن عولمة بديلة لا يميلون كثيراً إلى هذا الخطاب، وينظرون إليه على أنه خطاب يسهم في إبعاد الشعوب بعضها عن بعضها الآخر، ويخلق عداوات جديدة يفترض أنها تلاشت أو كادت (اقصد العداوات الدينية والثقافية). ولذلك فقد ظهر في مقابل هذا الخطاب خطاب أخر بديل يشكل -مع تصاعده- فرصة حقيقية لنشر الحوار والتسامح والسلام بدلا من الصدام. ولسان حال الخطاب البازغ حول حوار الحضارات هو البحث عن طريقة أخرى للتعايش بين الحضارات والثقافات، أو قل: البحث عن معنى جديد للحضارة، ربما معنى يتجاوز المعنى المادي صاعدًا إلى المعاني الثقافية والروحية. 
لقد كانت فكرة تفاعل وتداخل الحضارات أو التواصل الحضاري فكرة راودت الكثير من الفلاسفة والمفكرين؛ بل إن الفكرة الفلسفية -التي مفادها أن المجتمعات الإنسانية تسير إلى حالة مستمرة من التقدم- هي في جوهرها فكرة إنسانية تدل على الاكتمال والتقارب والنضج الفكري كلما شهدت الشعوب تقدماً(23). بل إن الجدل الهيغلي يمكن النظر إليه أيضا على أنه جدل من أجل الوصول إلى حالة من الاكتمال والنضج، وصولاً إلى المطلق الذي هو الروح الخالصة والاكتمال الخالص؛ وهو اكتمال عقلي وروحي وليس اكتمالاً ماديا وسياسيا(24). ولم يكن بحث نيتشه عن "الإنسان الكامل" على لسان زاردشت إلا بحثاً عن هذه الحالة من الاكتمال التي تتحقق فيها الإرادة الكاملة للإنسان؛ لا باطشاً كما يظن البعض، بل فاضلاً(35). صحيح أن الغاية هنا هي حالة مثالية قد لا تتحقق أصلا، ولكن السعي إلى تحقيقها يقلل -ولا شك - من حدة الصراع بين الثقافات ويشيد الأمل في الاكتمال الحضاري. ولكن العولمة ذات النزعة المادية الاستهلاكية وذات الميل التفكيكي الواضح قد جعلت هذه الأفكار تذهب سدى، ويصبح الحديث عن التواصل الحضاري بديلاً للحديث عن اكتمال النضج الحضاري. 
ولقد أسهم مفكرون ورجال سياسة ومنظمات دولية في دفع هذه الفكرة والعمل على تعميقها في وجدان الشعوب. وهنا أعود مرة أخرى للتذكير بجهود منظمة الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو على وجه خاص، التي عقدت مؤتمراً عالميا موسعاً في الفترة من 23-26 أبريل سنة 2001 حول حوار الحضارات (26). ولقد كتب مدير عام اليونسكو -في تصديره لهذا المؤتمر- يقول: "إن الحوار هو الأداة الرئيسة لتحسين العلاقات ومظاهر التفاهم بين الثقافات المختلفة وسوف يظل كذلك. فنحن في أمسّ الحاجة إلى حوار أصيل ومتسع، فهو الطريق الوحيد لننجح في الاستماع بعضنا إلى بعض، ونعدل من مواقفنا ونستوعب نقاط الخلاف. فمن خلال ممارسة الحوار الملتزم والأصيل نستطيع أن نحل الصراعات، ونتغلب على مظاهر عدم التوافق ونضمد الجراح. وبهذه الطريقة نستطيع البدء في مهمتنا الرئيسة لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة وجعلها عملية أكثر احتمالاً ومساواة". وتلك فكرة تم التأكيد عليها من قبل معظم المتحدثين؛ أعني إسهام الحوار بين الثقافات في بناء عولمة جديدة ذات طابع إنساني. 
وجدير بالذكر أن خطاب حوار الحضارات والتعايش السلمي بينها يزدهر بشدة في الثقافات الأضعف التي تأثرت أكثر من غيرها بضراوة العولمة وقسوة ماديتها. ولذلك نجد أن الفكر العربي زخر في السنوات العشر الماضية بأحاديث ومؤتمرات وكتابات حول حوار الحضارات كأحد فرص تكوين عولمة بديلة. فثمة قناعة لدى كثير من المفكرين العرب -الذين يتفقون مع مقولة "حوار الحضارات" - أن الحوار هو الطريق نحو فهم الحضارة الغربية وتمثلها، وهو لا يهدف إلى الاستعمار بل يرتبط باهتمام غربي بدراسة وفهم ما هو مختلف حضارياً، واكتشاف مدى طبائع الاختلاف في العالم من حيث الحضارة وأنماط العيش والثقافة، فالحوار هو طريق إلى فهم الأخر ومن ثم القدرة على التعايش معه في عالم متنوع(27). 
3- المجتمع المدني العالمي:
لقد جاء الاهتمام بالمجتمع المدني -فكرًا وممارسة- على إثر الهيمنة التي تستحوذ عليها قوى السوق من ناحية وقوى الدولة من ناحية أخرى. لقد أدت العولمة في صورتها المعاصرة إلى خلق رأسمالية متوحشة، وإلى تسليح الدول الوطنية بأدوات قمع تستخدمها الدول الغنية ضد الدول الفقيرة، وتستخدمه الدول الفقيرة ضد سكانها. ومن هنا يمكن القول: إن ظهور قوى المجتمع المدني هو رد فعل طَبيعي لهذا الوضع. فالمجتمع المدني يضم المنظمات والتجمعات الوسيطة المستقلة التي لا تتبع قوى السوق أو قوى الدولة، والتي تنظم البشر على أساس تطوعي حر. إنه -كما يقول المفكرون العرب- "فضاء الحرية" الذي يعمل على نحو مستقل (28)، ويمنحه هذا الاستقلال القدرة على تصحيح مسار الدولة من ناحية ومسار السوق من ناحية أخرى، ويمنح البشر مساحة للعمل الحر الذي لا تحده حدود. إننا هنا أمام البحث عن بديل ثالث، طريق ثالث أو طريق وسط، يستوعب التناقضات التي جاءت بها العولمة، ويطرح أفكارًا حول عولمة بديلة، عولمة يمكن أن يكون لسان حالها عبارة رئيس وزراء فرنسا السابق ليونيل جوسبان Lionel Jospin التي يقول فيها: "نعم لاقتصاد السوق، لا لسوق المجتمع" (29). ودلالة العبارة واضحة، لا إنكار هنا للعولمة بما تفرضه من اقتصاد للسوق، ولكن يجب ألا يسمح للعولمة بأن تحول المجتمع إلى سوق يعج بالتنافس والصراع.
هنا يتجلى السعي واضحاً في البحث عن عولمة تربط الناس سوياً، وتشدهم بعضهم إلى عبر منظمات وسيطة، يقيمونها بأنفسهم ويعملون فيها بأنفسهم. تلك هي منظمات المجتمع المدني، سواء على المستوى القطري أو الدولي. فطالما أنها تواجه العولمة أو تكشف عن وجه مختلف لها؛ فمن الضروري أن تنتقل من المستوى المحلي والقومي إلى المجتمع العالمي. ويشير الباحثون إلى هذا التطور بوصفه ثورة تواصلية أو ترابطية Associational Revolution، ساعد على ذلك بطبيعة الحال التطور في تكنولوجيا المعلومات، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والبيئية، والحاجة إلى إنتاج رأس مال اجتماعي يقوم على علاقات التبادلية والثقة(30). ويمكن القول بعبارة أخرى: إن هذه الثورة التواصلية عبر شبكات المجتمع المدني العالمي هي تعبير عن الحاجة إلى السلام العالمي وإلى التسامح العالمي، فما التواصل عبر التبادلية والثقة إلا سَعْي نحو السلام والتسامح ونبذ للعنف والتطرف. ومع ذلك فلا يمكن التعميم على أن منظمات المجتمع المدني العالمي (أو المحلي) هي منظمات مضادة للعولمة باحثة عن عولمة بديلة. فالحقيقة أن هذا النوع من المنظمات متنوع المشارب ومتسع الآفاق. فهي تمتد من المنظمات التي تؤيد العولمة وتسير في ركابها إلى المنظمات التي ترفض العولمة وتدعو إلى عولمة بديلة. ويمكن التمييز داخل هذه المنظمات بين أربعة أنواع رئيسة(31): 
(1) المؤيدون للعولمة: ويضم المنظمات والحركات التي تتحمس للعولمة وتنتصر لعملية التوسع الرأسمالي، وكذلك التوسع في الحوكمة على المستوى العالمي عبر قواعد وقوانين مشتركة، وتشجيع الشركات عابرة القارات، والحكومات التي تساند العولمة. وغالبًا ما تستفيد هذه المنظمات من ظرف العولمة، سواء عن طريق الدعم اللوجستي أم الدعم المالي. 
(2) الرافضون للعولمة: ويضم المنظمات والحركات التي ترفض العولمة وتدعو إلى إعلاء شأن الدولة الوطنية التي كادت تطمس أمام زحف العولمة، وتتسع هذه المنظمات لتشمل تيارات اليمين واليسار والوسط. وقد تختلف فيما بينها على التفاصيل؛ ولكنها تتفق على أن العولمة لها آثار ضارة ويجب أن تكون لها حدود في التوسع الاقتصادي والقانوني. 
(3) الإصلاحيون: وتضم هذه الفئة قاعدة عريضة من المنظمات والحركات التي تقبل العولمة "كوضع حال" لا يمكن الفكاك منه؛ ولكنها تدعو في الوقت ذاته إلى إصلاحها أو إضفاء الطابع الحضاري المدني (الإنساني) عليها بحقن مزيد من العدل والتسامح والسلام في شرايين العولمة، وإعطاء الفرص المتساوية للجميع للمشاركة في نظام اقتصادي واجتماعي عادل.
(4) الباحثون عن بديل: وتضم المنظمات والحركات التي لا تعترض على العولمة ولا تؤيدها في الوقت نفسه، ولكنها تتبنى مجريات عمل وممارسات وأساليب حياة مستقلة عن الحكومات والمنظمات الدولية. ويؤدي بها ذلك إلى خلق فضاءات حرة ومستقلة تناهض العولمة، مثل رفض أنواع معينة من الطعام، ورفض الماركات العالمية، ومحاربة التسليح والحروب، ساعية بذلك إلى البحث عن نموذج مختلف للعالم. 
وبصرف النظر عن النمط الأول، فإن الأنماط الثلاثة الأخرى للمنظمات والحركات المدنية -التي تطور فكرًا وأساليب عمل وممارسات- تنتقد العولمة أو تدعو إلى إصلاحها أو تطور بدائل لها. ومن ثم فإننا نستطيع أن ننظر إلى اتساع مساحة هذا الفضاء المدني على المستوى المحلي والعالمي على أنه يشكل فرصة، لا للقضاء على العولمة، وإنما على الأقل مساعدة القوى الفاعلة فيها على تحسين مسارها لتصبح عولمة أكثر عدلا وأكثر قدرة على جمع الشعوب على أهداف مشتركة عبر ثقافة السلام والتسامح. 
رابعًا: تحديات أمام السلام والتسامح في عصر العولمة 
يرواح البعضَ (من المستضعفين وذوى الميول الإنسانية) أملٌ في أن يتمكن العالم من دحض النمط السائد من العولمة الغشيمة، وإقامة عولمة عادلة تسود فيها كل القيم الفاضلة. وتعكس التوجهات التي عرضنا لها في القسم السابق فرصًا -وإن كانت ضعيفة وخافتة- لتحقيق هذا الأمل. ولكن في الوقت الذي ينتج فيه هذا الأمل في العقول والضمائر الباحثة عن أمل جديد للإنسانية، توطد العولمة نفسها فتنتج تحديات مضادة لهذه النزعة الإنسانية. ونحاول في هذا القسم أن نعرض لجانب من هذه التحديات. 
1. هيمنة السياسة ونمذجة القيم:
إن العولمة ذات الطابع الإنساني، التي تقوم على ثقافة السلام والتسامح هي عولمة تسمح بالتعددية والتنافس الخلاق، وتترك للشعوب فرصتها في العيش الكريم، وفي الحفاظ على تراثها الحضاري ومعتقداتها؛ ولكن العولمة لا تعمل في هذا الاتجاه؛ بل إنها تفرض صورًا من الهيمنة السياسية والثقافية التي تضغط العالم من أعلى، وتفرض على الشعوب أجندات سياسية وثقافية مركزية. ويمكن القول بأن العولمة قد استبدلت مركزية العولمة بالمركزية الأوربية. لقد تعرض مشروع الحداثة الغربي لانتقادات شديدة من جراء سيطرة نزعة التمركز حول السلالة النابعة من التمركز حول الثقافة الأوروبية. ولما قضت العولمة على مركزية أوروبا وخلقت مراكز استقطاب متعددة على رأسها أمريكا، ظهرت مركزية من نوع جديد يمكن أن نطلق عليها مركزية العولمة، يعكسها نمط سياسي وثقافي تأتي الصدارة فيه لأمريكا ثم من بعدها الدول الصناعية الكبرى.
وتتحقق الهيمنة الجديدة للعولمة على المستوى السياسي عبر دفع أجندات سياسية واقتصادية من أهمها السياسيات الليبرالية، التي تدعو إلى المصلحة الفردية، أو السياسات الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى إدخال قدر من العدالة الاجتماعية تضمنه الدولة. ولم تؤد هذه السياسات في كثير من الدول إلى تحقيق تنمية حقيقية بقدر ما خلقت ظروفًا أدت إلى تزايد معدلات الفقر والبطالة، وتزايد شدة الاحتقان الداخلي وشدة قبضة الدولة - على نحو استبدادي - على مقدرات الأمور وعلى أرواح البشر (32). وفضلاً عن هذا فإن النزعات الفردية التي تؤسس لها هذه السياسات تعمل في سياقات اجتماعية مختلفة مثل الانقسامات العرقية أو الطائفية، ومن ثم فإنها لا تخلق سلاماً اجتماعياً وتسامحاً بين أبناء الشعب الواحد بقدر ما تخلق تباعداً وانقساما. ولا يجب أن نفهم الحديث هنا على أنه نقد "لليبرالية" كفكرة أو فلسفة؛ ولكنه نقد للطريقة التي يتم من خلالها جبر الحكومات على تبني سياسات معينة عبر مركزية العولمة وهيمنتها؛ حيث تجبر الحكومات على الانصياع لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتغرق في الاستدانة، وتضطر إلى استخدام أساليب قمع ضد سكانها. ومن هنا تبدو الهيمنة وكأنها ذات وجه إنساني؛ ولكنها على أرض الواقع تخلق تناقضات من شأنها أن تهدد السلام الاجتماعي، وحدود التسامح بين الأفراد والجماعات. فثمة تناظر - على ما يذهب إدوارد سعيد -بين العولمة والإمبريالية، وإن ضغط العالم -بشكل مقصود في نماذج ثقافية بعينها- هو شكل من أشكال الإمبريالية(33). 
وينقلنا ذلك مباشرة إلى تأكيد أن هذا الشكل من الهيمنة - أو المركزية الجديدة للعولمة- ليست هيمنة سياسية واقتصادية فحسب؛ بل هي هيمنة ثقافية أيضًا؛ حيث ترتبط العولمة بخروج الصيغ الحداثية من بيئتها الغربية، وانصهارها في الصيغ التقليدية في المجتمعات غير الغربية. ولذلك فإن العولمة ارتبطت منذ نشأتها بما يمكن أن نطلق عليه "نمذجة العالم". وهي عملية تتم عبر وسيلتين: الأولى ترتبط بنشر النماذج الرأسمالية في مجال الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية، مثل الأسواق والبنوك، ونموذج الدولة القومية، ونظم التعليم، والنظم الحربية والعسكرية والنظم البلدية. والثانية ترتبط بنشر الأفكار والمفهومات المتصلة بالحرية والمساواة والقيم وحقوق الإنسان. وقد اختلفت النمذجة في الحقبة المعاصرة عن العولمة، فأصبحت تركز بشكل أكبر على القيم والأفكار والصور الذهنية من ناحية، وعلى تصدير النموذج الأمريكي والترويج له من ناحية أخرى. ويصاحب تصديرَ هذا النموذج الأمريكي تصدير لصور ذهنية،عبر مختلف وسائل الاتصال، تتصل بمنظومة القيم الرأسمالية بدءاً من القيم الاقتصادية (حرية العمل وحرية الاختيار وحرية التنقل والمغامرة … الخ)،مروراً بالقيم السياسية (الحرية السياسية، والديمقراطية وحقوق الإنسان … الخ) وانتهاءً بالقيم الثقافية والاجتماعية (تحرير المرأة - التنوع الخلاق - التحرر الأسري - التحرر العقدي - إلخ). ولا تقتصر الصور الذهنية المُصدرة على منظومة القيم على هذا النحو؛ بل تمتد إلى تكوين المفهومات والصور الذهنية المنمطة حول مختلف شؤون الحياة؛ فثمة صور تأتي إلينا عن السعادة والحب والكراهية والفن والسياسة والدين، وعن الرجل المثالي والمرأة المثالية، ورجل السياسة المحنك … إلخ، هذه الصور والنماذج العقلية التي تخضع لها عقولنا ومشاعرنا ونحن نتابع آلاف الرسائل التي تأتي إلينا عبر وسائل الاتصال الجماهيري. وإذا كانت الصيغ المعولمة ذات الطابع النظامي تُنَمْذِج المجتمع، فإن هذه الصيغ الرمزية الثقافية تنمذج العقل والشعور وتجعل المسافات تتلاشى بين عالم الصورة وعالم الواقع، أو بين العالم الواقعي والعالم المتخيل (34). 
هكذا تحاول ثقافة العولمة أن تخلق نماذج موحدة في النظم الاجتماعية وفي المفهومات الحياتية. بل إن هذه الثقافة لم تصبح الآن ثقافة تنمو بشكل تلقائي وفقاً لمقتضيات التطور، كما كان يحدث في الماضي، بل أصبحت تخضع لأجندة محددة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتتحدد هذه الأجندة في الخطابات السياسية في الدول الصناعية الكبرى خاصة الخطاب السياسي في أمريكا وإنجلترا وألمانيا، وتتحدد على نحو أكثر تفصيلاً في المؤتمرات الدولية، التي تعقد في الغالب وفقاً للأجندة السياسية للدول الصناعية الكبرى، من ذلك - على المستوى الاجتماعي - مؤتمر السكان، ومؤتمر المرأة، ومؤتمر الجريمة. وهي مؤتمرات تعقد بشكل دوري، وتتحدد فيها مفاهيم وأفكار جديدة حول الأسرة والعلاقات الزوجية وحقوق الإنسان وثقافة السلام... وغيرها من المفاهيم التي تفرض فرضاً من مركز العالم بصرف النظر عن الهويات المحلية.
2. حدود الهوية وحدود السلام:
تعمل الطريقة التي تنمذج بها العولمة العالم على توليد صور من الاستقطاب على المستوى العالمي، وعلى المستوى الإقليمي والمحلي؛ بل إنها تدفع الشعوب والجماعات إلى إدراك حدودها والدفاع عن هويتها. وأحسب أن هذه العملية تدفع بكل جماعة إلى أن تتحصن في حدودها الثقافية. بل يمكن القول بأن مفهوم علاقة الأنا والآخر،-التي تقوم على التسامح والقبول والاتفاق- تتحول من علاقة طبعية يدركها الإنسان بحسه المشترك إلى موضوع للتساؤل. فإذا ما تحولت العلاقة بين الأنا والآخر إلى موضوع للتساؤل، يبدأ سؤال الهوية في الظهور، وتتحول حدود الهوية إلى حصون ثقافية - وربما فيزيقية - تتدفق على جنباتها أشكال من التطرف والعنف.
إن الهوية هي عملية توحد مستمر مع ثقافة معينة لها لغتها ورموزها ومحدداتها الاجتماعية الخاصة(35). ولقد أدت الطريقة التي ينمذج بها العالم عبر عمليات العولمة لا إلى ارتفاع خطاب الهوية الثقافية في الأفق السياسي والاجتماعي، بل إلى صور من التباعد والصراع والعراك الثقافي المستمر. لقد تركتنا العولمة نعيش - من ناحيةٍ - حُلمَ التحرر والانعتاق على المستوى الخطابي؛ ولكنها تركتنا أيضًا على متسع فسيح من النزاع والعراك حول أسئلة الهوية: من نحن؟ ومن نكون؟ وما تاريخنا؟ وما مصيرنا؟ وما دورنا في الحياة؟ هنا تتيقظ "الأنا " وتتقلص "النحن"، ويصبح الاتفاق العام - إذا عمت هذه التساؤلات وشاعت - على المحك. 
ولقد أطلقت على هذه العلمية في بحث سابق "عملية إدراك الحدود"، والتي يقصد بها وعي الجماعات بحدودها الثقافية، وربما تطوير عداءات ثقافية مع الجماعات الأخرى (36). وترتبط هذه العملية بما يطلق عليه باحثون آخرون "عملية التباعد بين الحدود "Deteritorialization، والتي يقصد بها انتزاع الخبرة الثقافية للجماعة من جذورها وتربتها لتعيش خبرات ثقافية أخرى عبر الزمان والمكان (37). إن هذه العملية تجعل الإنسان يعايش خبرات ثقافية أخرى مغايرة لثقافته الوطنية؛ ولكنها تعمق داخله الشعور بالهوية؛ بل إنها تخلق هويات انقسامية باستمرار، يمكن أن تدخل في صراعات عنيفة، كما حدث في كرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وكثير من الدول التي بها انقسامات عرقية. وهي صراعات استهدفت إعادة تعريف الحدود، بل إعادة تأكيد الحدود Reterritorialization. وبجانب هذه الصور العنيفة من الصراع، توجد صور متعددة من الصراع الأكثر هدوءًا، والذي تتم فيه عملية التباعد بين الحدود على أسس من التهجين Hybridization الذي يتم بمقتضاه التأكيد الدائم على الرموز والموضوعات الثقافية المتوارثة، بل وإعادة إنتاجها وتعميقها(38).
ويمكن القول في ضوء هذا التحليل: إن عمليات إدراك حدود الهوية تصاحبها في الوقت ذاته عمليات إدراك لحدود السلام والتسامح بين الشعوب والجماعات. صحيح أن إدراك حدود الهوية أمر مهم بالنسبة لحفظ تماسك الجماعة واستمرارها عبر الزمن، ولكن عندما تصاحب عملية إدراك الحدود باتجاهات سلبية نحو الجماعات الأخرى أو بمشاعر شيفونية متصلبة، فإن حالة السلام والتسامح تصبح مهددة بحق.
3- التطرف والعنف:
يعد التطرف والعنف -سواء أكان لصيقًا بالتطرف أم بعيداً عنه- من أهم التحديات التي تواجه إرساء قيم السلام والتسامح في عالمنا المعاصر، ناهيك عن تحقيقها في الواقع. وثمة مؤشرات عديدة في عالمنا المعاصر تدل على انتشار مظاهر التطرف بصوره المختلفة. لقد أفرز النظام الرأسمالي المصاحب للعولمة صورًا من التطرف لم يشهدها التاريخ من قبل. ونستطيع أن نميز فيها بين أربعة أشكال: 
الأول: التطرف السياسي الذي صاحب بزوغ النازية والفاشية في أوربا. لقد أدى هذا النوع من التطرف إلى حرب عالمية راح ضحيتها الملايين من البشر. وهو شكل من التطرف، وإن كان قد انقضى عهده، إلا أنه يطل علينا برأسه هناك وهناك في بلدان عديدة متخذًا في بعض الأحيان أشكالاً وصورًا مختلفة. والثاني: التطرف الأيديولوجي، والذي ارتبط بتكوين نظم سياسية شمولية حققت إنجازات في الصناعة والتحديث؛ ولكنها مارست صورًا شديدة من القمع على سكانها (قد نتذكر هنا ضحايا الثورة الثقافية في الصين، وضحايا حكم ستالين على وجه الخصوص في الاتحاد السوفيتي السابق). والثالث: هو التطرف العنصري، والذي يعتمد على خرافات عقدية أو سياسية، ويمارس صورًا من الاحتلال والقمع للسكان، كما هو الحال في التطرف الصهيوني، الذي اغتصب أهلُه أرض فلسطين ومارسوا شتى أنواع العنف والقتل والتشريد تجاههم (يمكن أن نعدّ التطرفَ العنصري الذي اقتلع الأفارقة من أرضهم، واستغلهم في تعمير الأرض الجديدة، والتميزَ ضدهم من هذا النوع من التطرف، كما يمكن عدّ التطرف ضد السود في جنوب إفريقيا وفي روديسا (زمبابوي) أثناء الحكم العنصري أحد هذه الصور من التطرف). والشكل الرابع: هو التطرف الديني الذي كان أحدث ما أنتجه نظام العولمة الرأسمالي (والذي يتجسد في صور التطرف الإسلامي والمسيحي التي يشهدها عالمنا المعاصر).
ويكشف التتبع التاريخي لهذه الصور من التطرف عن أن العالَم الذي يدعو إلى السلام والتسامح في خطابه المعلن -والذي أسس الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة لكي يقرب بين الشعوب ويحقق السلام في العالم أثناء الحرب العالمية الثانية- هذا العالم يّولد في تطوره صورًا مستمرة من التطرف الذي يناوئ قيم السلام والتسامح. لقد كشفت عديد من البحوث الخاصة بدراسة التطرف عن أن الجماعات المتطرفة تعمل بكل الطرق على تقوية العلاقات التضامنية فيما بينها عن طريق ضبط عمليات الدخول والخروج من الجماعة، والتأكيد على المعتقدات الجماعية والعمل على النضال ضد عدو خارجي(39). وتؤدي كل هذه الآليات التضامنية إلى أن تصبح الجماعة المتطرفة وحدة متماسكة تجاه الآخرين، ومن ثم يتحول الآخرون إلى أعداء بدرجات متفاوتة، ويصبح تحقيق السلام أمرًا شبه مستحيل. 
ولم تنجح القوى التفكيكية للعولمة في القضاء على صور التطرف، بعد أن اخترقت حدود الجماعات وأثرت على معتقداتهم. ولا ينتهي ذلك في الغالب إلى تفكيك الجماعة، بقدر ما ينتهي إلى أن تركز الجماعات على استخدام العنف تجاه الأعداء (المفترضين)؛ لكي تعمل على تقوية التضامن الداخلي بين أعضائها. ويزيد من هذا الوضع أن أعضاء هذه الجماعات لا يُبالون بالعقاب، كما أنهم لا يُبالون بفقد أرواحهم من أجل الجماعة، كما يكشف عن ذلك تحليل حالات تفجير المتطرفين لأنفسهم (40). ويعمل هذا بدوره على إحداث نتائج أكثر خطورة. فنجد أولاً أنه قد يولد مزيدًا من التطرف لدى جماعات أخرى لم تكن متطرفة؛ فعمليات نقل الأفكار والأحداث حول التطرف وسبل مقاومته قد تدفع جماعات أخرى إلى مزيد من مساندة الجماعات المتطرفة، وإلى مزيد من إدراك حدودها الثقافية، الأمر الذي يشجع على ظهور عملية "توالد " مستمرة لصور التطرف. ونجد - ثانيًا - أن الجماعات المتطرفة تركن بشكل أكبر إلى استخدام أدوات العنف المضاد، فيتزايد العنف المتولد من التطرف، بل إن العنف يصبح آلية مفضلة لدى المتطرفين. 
ويزيد من هذه الحالة ما أكدنا عليه من قبل حول الدور الذي تقوم به العولمة - بأجنداتها ووصفاتها الاقتصادية - من تزايد حدة الفقر والحرمان. ولذلك فإن الباحثين يميلون إلى الربط بين هذا الوضع وبين تزايد معدلات التطرف والعنف خاصة في الدول الفقيرة(41). ولا يرتبط هذا النوع من العنف في الدول الفقيرة بصور العنف النابعة من التطرف فقط؛ بل يرتبط أيضا بكل صور العنف السياسي والاجتماعي، سواء تمثلت في العنف الموجه ضد النظم السياسية، أو حتى في معدلات ارتكاب الجرائم العادية. وهنا يتحول الحديث عن السلام والتسامح من المستوى العالمي إلى المستوى المحلي. فإذا كانت العولمة تخلق تحديات للسلام على المستوى العالمي فإنها تخلق تحديات ربما تكون أكبر على المستوى المحلي. 
الخاتمة:
لقد مرت قرون عديدة منذ أن رفع سقراط صوته داعياً إلى الفضيلة، ومات سقراط؛ إلا أن الفضيلة لم تمت. ومنذ عهد سقراط وحتى الآن قامت الإمبراطوريات التي شكلت نماذج تاريخية للعولمة، وقامت الممالك والدول، حتى وصلنا إلى نظام العولمة الحديث، الذي تأسس على نمط الحداثة الغربي. إن هذا النظام قد تم فرضه في العالم عبر أدوات الاستعمار المباشر وغير المباشر، مؤديا في النهاية إلى النمط المعاصر من العولمة، الذي يشهد فيه العالم تداخلات وتعارضات لم يشهدها من قبل. ولقد حاولنا في هذه الورقة أن نذكر "بأمثولة" سقراط ونحن نعرض لإشكالية تحقيق السلام والتسامح في عصر العولمة. ولقد تحركت الدنيا كثيراً منذ عهد سقراط؛ ولكن التناقض الذي نطق به سقراط ما يزال قائمًا: مجتمع عالمي استهلاكي يتطاول في البناء، ويتطاول فيه الكبار على الصغار، والأغنياء على الفقراء، وتكثر فيه الصراعات وصور التباعد بين البشر، فيصبح السلام والتسامح على المحك. ومن هذا الزخم تتوالد الخطابات التي تدعو إلى عولمة إنسانية، تقوم على السلام والتسامح والتراحم بديلاً عن البغي والعدوان، فتصبح "أمثولة سقراط" ماثلة أمامنا من جديد في عالم لا يعيش فيه سقراط. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. انظر: حول تغير علاقات الزمان والمكان في زمن العولمة، أنطونى جيدنز.
A, Giddens. The Consequences of Modernity,(Cambridge; polity press,1990). 
2. رونالد، روبرستون، العولمة: النظرية الاجتماعية والثقافية الكونية، ترجمة أحمد محمود، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1998. 
3 - C.offe, Disorganized Capitalism (Oxford: Polity press, 1985).
4. سمير أمين، إمبراطورية الفوضى، ترجمة سناء أبو شقرة، بيروت، دار الفارابي 1991.
5. انظر كتاب صموئيل هنتنجتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة عبيد شيهوه ومحمود محمد خلف، القاهرة: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الثانية، 1999. 
6. انظر كتاب أولريش، بك، ما هي العولمة، ترجمة أبو العيد دودو، كولونيا: منشورات الجمل، 1999. 
7. انظر حول العولمة وأثارها التفكيكية: أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيكها للثقافات الوطنية، مجلة عالم الفكر، المجلد 23، العدد 1، ص7-38.
8. Dan Smith،Trends and causes of Armed conflict, Berghof Research center for constructive conflict Management. 2001. pp. 3-4. Available online: WWW.edoc.amnesty.org/armed/conflict.
9. Global Issues, Poverty Facts and States, available online: www.global.isses.org,articale/26/poverty facts and states.
10. International Labor Organization, Global Trends in Youth Employment, ILO, Geneva, 2010, Annex 1, Table A.
11. لمزيد من التفاصيل حول الإحصاءات الخاصة بالاتجار في البشر والدول المنخرطة في هذه التجارة انظر ما يلي: 
- WWW.PolarisProject.org/statistics/human trafficking.
- UNODC (2009) Global report on Trafficking in Perso.
12. أحمد زايد، "الاتجار في البشر: الأسرة الفقيرة والتحولات الرأسمالية الرثة"، في: "الأسرة العربية في عالم متغير"، القاهرة، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2011، ص111- 148.
13. Cohen, R. and Kennedy pGlobal Sociology, (London: Palgrave, 2000).
14. راجع المعاني اللغوية في القواميس التالية: 
- قاموس Merriam Webster متاح على الموقع الإلكتروني: www. Merriam Webster.com
- راجع لسان العرب مادة " سمح " في الباحث العربي. متاح على الموقع الإلكتروني: www. Baheth. info.
15. ميشل كيلو، من أجل عولمة إنسانية، مجلة التفاهم، العدد السادس والعشرون، ربيع 2009. 
16. كان عالم الإنثروبولوجيا برونسلاو مالينوفسكي هو أكثر من أكد على العلاقة الثقافة والحاجات البشرية، انظر الكتاب الذي حرره ريموند فيرث R. Firth وجمع فيه مقالات حول نظرية مالينوفسكي عن الثقافة، خاصة الفصل الثالث: عن الثقافة والحاجات الإنسانية: 
- R. Firth (ed.), Man and Culture: An Evaluation of The work, in: B. Malinowsk, London: Routledge, 1957, pp. 33-52.
17. اليونسكو، التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، (الطبعة العربية)، إشراف وتقديم جابر عصفور، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997. 
18. يمكن مراجعة تفاصيل قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة على الموقع التالي: WWW.un.org/ar/ga
19. انظر حول إعلان المبادئ المتعلقة المتعلقة بالتسامح من جانب اليونسكو: 
WWW.unesco.org/ar/social-and-human sciences
20. انظر حول كراسي اليونسكو: 
WWW.unesco.org/ar/social-and-human sciences/unesc-chairs 
21. أطلقت منظمة بنت الرافدين في بابل موقعًا إلكترونيا خاصا لنشر ثقافة السلام والنقاش والتسامح وقبول الآخر www.tfpb.org 
22. انظر كتاب صموئيل هنتنجتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، السابق الإشارة إليه. 
23. من أنصار فكرة التقدم كوندرسيه وأوجست كونت، بل يبدو أن حديث كونت عن الوضعية كديانة جديدة للإنسانية ربما يدل على أن الوضعية تعمل هنا بوصفها قوة توحيدية بين القوى المتنافرة.
24. انظر حول فكرة الروح الخالصة والاكتمال الخالص كتاب هيغل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العؤنلي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2006. 
25. انظر حول فكرة الإنسان الكامل كتاب نتشه، هكذا تكلم زاردشت، ترجمة وتحقيق على مصباح، برلين: منشورات الجمل، 2007. 
26. عقد المؤتمر في مدينة Vilnius في لتوانيا، وتحدث إليه جاك شيراك، وعبد الله واد وسيد محمد خاتمي. انظر: 
UNESCO، Dialogue Among Civilizations. Available online: unesdoc. Unesco.org.images/00/2001/1259l/e 
27. وجيه كوثراني، " أزمة نظام عالمي أم صدام حضارات"، في: فخري لبيب (محرر) صراع الحضارات أم حوار الحضارات، القاهرة: منظمة تضامن الشعوب الإفريقية/ الآسيوية، 1997، ص197. 
28. انظر: أحمد زايد، دراسات المجتمع المدني في مصر: قراءة للحقل، ورقة مقدمة إلى مؤتمر المجتمع المدني في الوطن العربي: قراءة للحقل، عمّان، الأردن، مارس 2005. 
29. النص نقلا عن المصدر التالي: 
L. M. Salamon، S.W. Sokolowski and R. List، Global Civil Society: An overview، The Johns Hopkins University، 2003, p2. 
30. المرجع السابق، ص7-8. 
31. انظر: 
K. Chondhary، "Global Civil Society، Globalization and Nation - State"paper presented at the ISTR Conference, Toronto، Canada، 2004.Available online: WWW.iste.org 
32. يمكن الاستشهاد بمجتمعات الربيع العربي على هذه الحالة، حيث كان الفقر والحرمان والاستبداد السياسي عاملاً في دفع الشعوب إلى الثورة. 
33. انظر إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة محمد عناني، القاهرة: دار رؤية للطباعة والنشر، 2006. 
34. أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، عالم الفكر، الكويت، مجلد 1، عدد 32، ص19. 
35. جوردن مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المجلد الثالث، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة،2001، ص1570 - 1577. 
36. أحمد زايد، مرجع سابق، ص25. 
37. انظر: 
- J. Tomlinson, " Globalization and Cultural، New York: The University of Chicago Press،1999,p. 273. 
38. المرجع السابق، ص275. 
39. Ronald Wintrobe،Rational Extremism ; the Political Economy of Radicalism, Cambridge: Cambridge University Press,2006. chapter 2. 
40. المرجع السابق، الفصلان الخامس والسادس.
41. انظر نموذجاً من هذه الدراسات: 
- Rlchard Sandbrook, David Bomano “Globlalistion، Extremism and Violence in Poor Countries “, Third World Quarlerly، Vol. 25،2004, pp. 1077- 1030.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/7/143

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك